فلاش بريس = محمد الأشهب
مهنة قاتلة كالسكر والملح وما جاورهما
حان وقت الرحيل. لم يقلها ولم أسمعها، فقط حرك مولاي امحمد الجعيدي قطعة سكر في فنجان قهوة سوداء، في بيته بعد إفطار رمضان الماضي. قال: ثلاثة أشياء بيضاء اللون تفرض الحذر: السكر والملح والكوكايين. وناولني الفنجان من يد لا ترتعش. في مكالمة سابقة تحدث كطبيب عن فوائد المشي وشرب أكبر كمية من الماء. وقلت له إننا لا نلوذ إلى الثقافة العامة في الطب، إلا بعد اكتشاف عيوب الأجساد. والصيانة آخر ما يجول بالخاطر، ولو أن الأجساد لا تختلف عن محركات وفرامل وبنزين العربات. ثم دعاني إلى إفطار كم يبدو اليوم حزينا.
فاتني قطار الإدراك بأن اللقاء سيكون بلا ثان، وكمن أراد أن يمسح أشياءه الحميمية بالنظرة الأخيرة، أصر على أن ننتقل من الصالون إلى غرفة حولها مكتبة. قال أيضا: هنا أقضي ما تبقى من هزيع العمر، أترجم مخطوطات عتيقة لعلماء وأدباء من مدينة سلا. فهمت أنه يرغب في اللحاق بالراحلين من بلدته، ويودع لدى الأحفاد وصايا في العناية بالتراث.
ما فائدة العمر لمن يقدر على إضاعته بين الكتب؟ وهذا الصديق عبد القادر الإدريسي، الذي لا يمكن العثور عليه إلا في المكتبات، أشار إلي بملاحظة مفادها أن نجل الراحل وجيه فهمي صلاح لا زال يقلد الوالد في مهنة الكتبي التي أغار عليها طوفان وسائط التواصل، وأن المكتبة المفتوحة في سلا هي لآل الصبيحي. فيما أضاف الجعيدي أنه ينجز أعمالا لفائدة المكتبة ذاتها، حيث لا يزال هناك مولعون بالقراءة والبحث والتنقيب.
ما رأيت الصديق مولاي امحمد مليء القلب بهدوء يسكن المكان كما في تلك اللحظة. فالرجل الذي تعاقد مع الصمت إلى آخر يوم في حياته، تملكته رغبة جامحة في البوح، لم يفصح عنها مباشرة. لكني رأيته مفتوح القلب والعقل، يتذكر تفاصيل الأشياء من كتاب مسار طويل، تدرج فيه عبر الإدارة العامة للأمن والولاية النيابية وعالم الأعمال ودواوين الوزراء.. كلها بوابات دخل منها وخرج دون شبهة أو ثراء أو همس العيوب.
الحسرة تقطع الأحشاء، وعلى لسانه قال إن كثيرا من الكلام الذي ينشر عن الثري المغربي محمد الغزاوي، الذي شغل منصب أول مدير للأمن الوطني، يتسم بالمبالغة وتغييب الحقائق. أفصح من موقعه كأول رئيس لجهاز «الكاب واحد» أنه كان يحرر الرسائل الموجهة إلى الملك محمد الخامس بشأن القرارات والإجراءات الأمنية. وكثيرا ما رافقه إلى اجتماعات رفيعة المستوى لدراسة القضايا الأمنية المطروحة.
كشف أن الغزاوي لم تكن له خلفية أمنية، وكان مهتما بالجوانب الإدارية والمالية لبناء جهاز أمني من فراغ. ولم يفته التأكيد على أن رجال أمن يتحدرون من أصول فرنسية وجزائرية كانوا يقدمون له المشورة. لكن الأوضاع تغيرت على خلفية اندلاع أحداث عنف وقلاقل، كما وقع في الأطلس المتوسط والريف، وتداعيات حل جيش التحرير ودمج عناصره في القوات النظامية، ومجيء العقيد محمد أوفقير إلى إدارة الأمن.
أوضح أن «الكاب واحد» في بدايته وأهدافه كان عبارة عن مصلحة محدودة تختص بجمع وتحليل المعلومات ذات الطابع الأمني والسياسي والاقتصادي. وأنها لم تتغول إلا بعد أن انفرد بها أوفقير وصحبه، وحولها إلى أداة قمع واضطهاد وتعذيب. لأنه كان يعتقد أن تخويف النظام من المعارضة منهجية أمنية، كما أن تسليط القمع على المعارضة كان أسلوبا في الاستئثار بالسلطة. ورأى أن الانحراف بدأ من خلال إلغاء سلطة القانون، وأن تأسيس الفرقة الوطنية للشرطة جرى في أعقاب الفوضى التي شملت موجات الاعتقال الجماعي، حيث التحقيقات العشوائية التي ألصقت التهم بأبرياء. وكان لابد من إطار أمني للتنسيق يكون من صلاحياته كافة التراب الوطني. لم يكن أوفقير يعير اهتماما للتحريات التي يفترض أن يرعاها القضاء. ما جعله يدفع بمعاونيه ورجالاته إلى احتلال الصفوف الأمامية في الأمن والقضاء على قدر متواز.
عندما غادر الغزاوي إدارة الأمن، رافقه مولاي امحمد الجعيدي إلى إدارة المكتب الشريف للفوسفاط، ثم وزارة التجارة. قبل أن ينفض يده من العمل في دواليب الإدارة ويفتح مكتب استشارات قانونية وأعمال تجارية. وبسبب ميوله المحاسباتية، انتخب محاسبا في برلمان العام 1984، بعد أن ترشح عن دائرة في سلا باسم «الاتحاد الدستوري»، ثم شق طريقه بعيدا عن الحزب. وكشف لي أنه عارض بشدة الملابسات التي أحاطت بحملات التطهير الشهيرة التي قادها الوزير المتنفذ إدريس البصري، بمبرر إنقاذ الاقتصاد من التهريب. فقد كان يعمل آنذاك في ديوان وزير العدل عبد الرحمن أمالو، وخالفه الرأي في أسلوب تدبير تلك العمليات.
أسر لي الراحل مولاي امحمد أنه رشح لشغل منصب وزاري في حكومة محمد كريم العمراني لعام 1985. لكن الاختيار وقع على اقتراح غيره لاعتبارات حزبية، وحمد الله أن المناصب الوزارية لا تدوم. لاحظت حينها أنه بدا يأنس في نفسه القدرة على إعادة كتابة الأحداث كما عاشها في زمن آخر. وغاب عني أن بعض البوح يأتي مثل وجع الميلاد، إذ يفرح المرء بعطاء اسمه زينة الدنيا.
ودعني إلى باب منزله في شارع الأطلس بالرباط، وحين هممت بإشعال سيجارة، قال إن اللفافة الشقراء مثل الغبار الأبيض، إذ يكون ملحا أو سكرا أو مهلوسا. ومدني بروايتين إحداهما بالعربية والأخرى أقرب إلى سيرة ذاتية بالفرنسية، أما الكتاب الثالث، فقد استقر الرأي على أن نكتبه معا، وها أنذا أحلق بحثا عن مفتاح أضعته في حالة شرود.
غيب الموت مولاي امحمد الجعيدي في غفلة عن بداية لحظة البوح. ولا أخال أن مكتبته وأوراقه لم يبصم عليها ببعض الأسرار حول تجربة العمل الأبيض في غرفة سوداء. فهل تعمد نسيان أن بعض المهن متعبة وقاتلة، كما السكر والملح وما جاورهما؟
ساحة النقاش