فلاش بريس= رشيد نيني
الجمعية المغربية للدفاع عن النهج الديمقراطي (2/2)
شن «رفاق» النهج والجمعية المغربية لحقوق الإنسان هجوما عنيفا على شخصي، استعملوا فيه كل النعوت والتوصيفات المنحطة، وهددوا باللجوء للقضاء ضدي. ومع أني كنت أنتظر أن يكون الرفاق أكثر تحضرا ورقيا في نقاشهم، لأني قدمت وجهة نظر ماتزال تبدو لي سليمة، بل وتعبر عن وجه نظر فئة واسعة من المطلعين على الشأن الحقوقي والسياسي بالمغرب، وهي أن الجمعية مجرد واجهة لحزب النهج الديموقراطي.
كل جريمتي هي أنني أعطيت وجهة نظري في الملفات الرئيسية التي تكون فيها الجمعية والنهج معا، في تناقض تام مع الإجماع العام الوطني، وهي ملفات الوحدة الترابية للمغرب والعلمانية وحقوق المثليين، وهي الملفات التي لو سألنا عليها اليوم، الأستاذ عبد الرحمان بنعمرو، فإننا سنسمع منه هذا الموقف بوضوح، والذي عبر عنه في محاضرات كثيرة، بإمكان الجميع الحصول عليها، وهذا الموقف هو أن الجمعية منذ سيطر عليها حزب النهج تعتبر واجهة لتصريف مواقف هذا الحزب، وليعود «الرفاق الشتامون» إلى أرشيف تصريحاته ليتأكدوا أننا لم نأت ببدعة، بل قلنا حقيقة يعرفها الجميع.
جميع مؤتمرات الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، سواء المحلية أوالوطنية، خلال انتداب المؤتمرين يتم التطاحن حول عدد مؤتمري كل فصيل سياسي، كما يتم التطاحن خلال المؤتمر الوطني من أجل التمثيلية داخل الأجهزة التقريرية والمكتب التنفيذي، والتي تتم بناء على «لوزيعة» بين التيارات السياسية، وليس من خلال الانتخابات الشفافة، هذه الأخيرة التي يطالب بها الفصيل الذي يتوفر على أكبر عدد من المؤتمرين، بينما باقي الفصائل تطالب إما بلجنة ترشيحات، أو كوطا لكل فصيل، وغالبا ما تتم الانسحابات أو التهديد بها عندما يرى هذا الفصيل أو ذلك نفسه أقلية.
وعليه، فإن مسألة استقلالية حزب النهج الديمقراطي عن الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، هي ادعاءات لا تجد ما يعضدها في الواقع.
وإذا عدنا لبيان «الرفاق»، سنجد تفصيلا في الملفات التي قدمت فيها وجهة نظري، حيث عرضوا رأيهم مرة أخرى في الدفاع عن العلمانية والاصطفاف وراء الطرح الجزائري المعادي للوحدة الترابية للمغرب، وهي مواقف يعارضها عموم المغاربة ويعتبرونها مضادة لكل ما أجمعوا عليه.
أما التبرير الذي جاء في بيان حزب النهج، والذي يقول بـ«التقاطع الموضوعي مع الجمعية»، فهو لعب بالكلمات، ولن تنطلي استعارته الرنانة على أحد، ومن يقول إن علاقة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بحزب النهج هي مجرد «تقاطع موضوعي»، سيكون عليه أن يعطي التسمية ذاتها لعلاقة النظام الجزائري بالبوليساريو، والذي يصر على تسمية علاقته برفاق عبد العزيز المراكشي بأنه «تقاطع موضوعي»، لكون الجزائر تؤمن «بمغرب الشعوب»، وهي نفس الجملة، التي وردت في بيان حزب النهج ضدي.
وأنا أتساءل هنا هل ورود عبارة «مغرب الشعوب» في الدستور الجزائري وفي بيان «الرفاق»، هل هو مجرد توارد للخواطر، أم مجرد «وقع للحافر على الحافر» كما يقول العرب؟
على المرء أن يعيد قراءاته لتاريخ السياسة بالمغرب، ليكتشف الطريقة التي كان يناضل بها كل المنتسبين للتيارات الممنوعة، وتحديدا في الأربعين سنة التي تلت الاستقلال، إذ نجدهم تارة يشتغلون باسم «المستقلين»، وخاصة عندما يكونون أقلية، وتارة يتخذون من جمعيات أو نقابات أو نوادي واجهات للفعل السياسي، وهذا أمر معروف يمكن لأي باحث متوسط الاجتهاد، أن يتأكد منه، بل إن هذا «التكتيك» في ممارسة السياسة لا ينحصر فقط على التيارات الماركسية، بل ويشمل أيضا التيارات الإسلامية، فلا ننسى مثلا أن أول برلماني ينتمي لحركة الإصلاح والتجديد، كان قد دخل البرلمان بصفة مستقل، وذلك قبل أن تظهر حركة التوحيد والإصلاح وبعدها العدالة والتنمية بزمن طويل، والدليل الآخر هو أن نقابات كثيرة، مثل النقابة الوطنية للتعليم العالي مثلا، ما يزال بضعة أعضاء فيها حريصين على صفة «المستقلين» بالرغم من أنهم أعضاء رسميون في حزب النهج الديموقراطي، لأنهم ببساطة يشكلون أقلية ضعيفة جدا في هذه النقابة، ولا زالوا «أوفياء» لهذا التكتيك في ممارسة السياسة.
بمعنى آخر، أن وجود مقرين وجهازين إداريين «مستقلين» للجمعية المغربية لحقوق الإنسان وحزب النهج الديموقراطي، لا يعني أنهما فعلا مستقلان تنظيميا، لذلك كنت أتوقع شجاعة أكبر بأن يقر الرفاق بهذه الحقيقة، لأن «اللي كيشطح ماكيخبعش ليحيتو».
لكن من جهة أخرى، ما أثار استغرابي كثيرا، لدرجة الصدمة، هو أن يصبح سدنة معبد حقوق الإنسان، أو من يدعون ذلك، هم أول من ينتهكها، ويصبح النقد وإبداء الرأي، مجرد رأي، موجبا لكل أشكال السباب والشتم والتخوين وكل مرادفات «الحانات»، وجعلني أتساءل إن كانت الجمعية قد انضمت إلى مقدسات هذا البلد، أو صنما جديدا يجب تقديم القرابين إليه، إلى الدرجة التي يصبح فيها كل منتقد لخِطابها وللمنتفعين بنفوذها، خائنا ومتواطئا وعميلا، إلى غير ذلك من تهم الزمن البائد.
والغريب هو أنه في الوقت الذي يتهم فيه الحزب والجمعية معا، النظام بشن حملة تخوين، وجدنا الرفاق يلجؤون هم أيضا مرارا إلى ممارسة التخوين الصريح في حق كل معارضيهم، أما الأغرب فهو أن يكون المطالبون بالعلمانية، ونزع القداسة الدينية عن الدولة والأفكار والأشخاص، هم أول من يقدسون تنظيماتهم وأشخاصهم وأفكارهم، ونجد من يدعون تبنيهم للفكر اليساري، بما هو فكر مبني بالأساس على مفهوم الجدل، هم أول من يضطهد معارضيهم، وهنا ما زلت مصرا على سؤال طرحته في المقال الذي لم يعجب «الرفاق»، وهو ماذا لو امتلك محررو هذا البيان السلطة يوما؟
أي ماذا لو حصل النهج الديموقراطي على السلطة، هل كان سيكون بديلا عن النظام؟
ما الفرق بين المحاضر المخدومة التي كان يبرر بها المخزن سجن معارضيه في السبعينات والثمانينات و«المحضر» الذي دونه النهج في حقي الآن؟
شخصيا لست محتاجا لجواب، لأن الجواب يوجد في التاريخ، والحقيقة بنت التاريخ كما يقول الفيلسوف الألماني هيغل، وهذه الحقيقة هي أن الماركسية أصولية، فكما يؤمن أغلب مناصري بنكيران بأن معارضيه هم أعداء للإسلام، فإن أغلب مناصري النهج يعتقدون هم أيضا، أن معارضيهم هم أعداء الحقيقة «العلمية» والفكر المادي والعقلاني، فالفكر الشيوعي هو فكر شمولي خذل كل معتنقيه طوال القرن العشرين، عندما حول وعوده بالتحرر إلى أنظمة شمولية تسحق الإنسان باسم الثورة، وتسحق الإبداع باسم الإنتاجية، تماما كما يسعى الرفاق «الشتامون» اليوم لسحق حريتي في إبداء رأيي، وتكميم فمي وتجفيف قلمي لأني عبرت عن رأي، لكن ما يؤسف له فعلا، هو أن الألمان أسقطوا جدار برلين قبل ربع قرن في بلد ماركس، وحولوا حجارته إلى تحف تباع للذكرى، بينما ما يزال الجدار نفسه قائما في أذهان الرفاق بعد كل التطورات التي عرفها الفكر الإنساني.
أما بخصوص الموقف من المنتدى العالمي لحقوق الإنسان، والذي أثاره رفاق الجمعية، فإني عبرت مرة أخرى عن وجهة نظري كصحافي، وتساءلت لماذا شاركت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في الدورة الأولى التي أقيمت بالبرازيل وترفض المشاركة في الدورة الثانية المقامة في المغرب، مع أن الجهة المقترحة لعقده في مراكش لم تكن هي المغرب طبعا.
ثم ساءلت كل ادعاءات الجمعية عن «وزنها العالمي»، حيث تساءلت لماذا لم تقنع الجمعية هذا العالم الذي «يحترمها» بعدم منح المغرب شرف احتضان هذا المنتدى؟
فموقفي الشخصي واضح، وهو أن المنتدى أتاح للجميع، وطنيين وانفصاليين، إسلاميين وعلمانيين، إصلاحيين وثوريين، باحثين ومتعلمين، نقابيين وجمعويين، أتاح لهم بأن يعبروا دون خوف أو خجل عن آرائهم، وقالوا بوضوح ما يؤمنون به، أو ما توصلوا إليه، فسألوا واستفسروا وجادلوا وأقنعوا ودحضوا، مهما كانت وسيلتهم في ذلك، لأن العالم كله يسمع ويرى، بما في ذلك، الجمعية نفسها، والتي قالت إنها ستقاطع المنتدى لكنها وقفت لتعبر عن رأيها أمام المكان الذي أقيم فيه، أي في الوقت الذي كان فيه اليزمي يعطي وجهة نظره داخل قاعة المنتدى كانت الرياضي خارجها، تقول هي أيضا وجهة نظرها، والأهم هو أنه طوال الأيام الأربعة كان كل شخص من هؤلاء يعود مساء إلى منزله أو حانته أو مسجده، مطمئن البال تماما، دون أن يخشى «زوار الليل» الذين كانوا يأخذون الناس بالنوايا قبل الأقوال والأفعال، كما كان الأمر معمولا به في سنوات الرصاص، والتي لم يذق مرارتها أغلب الشباب المندفع الآن، والذي ينظر بحساسية لوجود شرطي قرب المنتدى دون أن تكون له فكرة عن البوليسي الذي كان يضع معارضي النظام في «الخنشة» وصناديق السيارات.
وسؤالي للجميع: هل كان المغرب قبل عشرين سنة من الآن، وهي مدة صغيرة جدا قياسا لعمر أمة، قادرا على احتضان كل الفاعلين والباحثين وأصحاب الدعاوى في حقوق الإنسان عبر العالم؟
ماهي الدولة العربية أو المتوسطية القادرة على فعل ذلك دون أن يسبب لها ذلك حرجا؟
إن احتضان منتدى عالمي لحقوق الإنسان، يعني بوضوح أن المغرب لم يعد يخجل من واقعه وماضيه في حقوق الإنسان، ليس لكونه أضحى جنة حقوقية على الأرض، ولكن لأنه أضحى مصمما على تصحيح مساره، وجعل العالم أجمع يرى تجاوب الدولة مع مختلف الاقتراحات الكفيلة بضمان حقوق الأفراد من انتهاكات الجماعات، وحقوق الجماعات من انتهاكات الأفراد، وحقوق الفرد من الانتهاكات التي يلحقها به الفرد ذاته، وما الإعلان عن إنشاء وكالة لمناهضة العنف ضد النساء إلا دليل على مستوى التجاوب الذي أضحى اليوم واقعا بين الدولة والمنظمات الحقوقية، وعلى مرأى ومسمع من العالم.
أجدني محافظا على كل الآمال، وعيا مني بالقيم التي يقدمها لنا التاريخ ذاته، كدروس أبدية للبشرية اليقظة، ولعل أهم هذه القيم أن اللحظات التاريخية العظيمة، أنجزت بعد تفكير نقدي في أزمة ما، وأحد أبرز وجوه الأزمة في المغرب اليوم، هو تحول حقوق الإنسان إلى تجارة مربحة للبعض، وتحول خطاب العدمية والسب والشتم والتخوين ضد كل شيء باسم كل شيء إلى مصنع يصنع أبطالا من ورق وأصناما من شمع، تذوب معالمها عند كل سؤال أو نقد.
ساحة النقاش