فلاش بريس= رشيد نيني
فلوس اللبن يديهم زعطوط
فجأة «سلطت» مجلة أجنبية اهتمامها على شركة سويسرية فازت في المغرب على عهد حكومة عباس الفاسي، بصفقة «الختم الجمركي» لقناني المشروبات الروحية وعلب التبغ وقنينات الماء المعدني.
الموضوع مهم وحساس جدا، لأنه يتعلق بإشكالية سبق لنا أن أثرناها في هذا العمود قبل ثلاث سنوات، ولم تتحرك في رأس الفريق البرلماني للعدالة والتنمية، الذي كان وقتها يشقى في المعارضة، ولو زغبة واحدة.
اليوم عندما أصبح حزب العدالة والتنمية ينعم في الحكومة،سمعنا النائب بوانو يتهم برلمانيين بتلقي رشاوى من شركة «أمبريال طوباكو» بالمليارات، ومع ذلك لم يفتح وزير العدل أي تحقيق في الاتهام، كما لم يشكل البرلمان أية لجنة لتقصي الحقائق بشأن هذه الاتهامات الخطيرة التي تجعل من كل برلماني متهما مفترضا.
سعادة النائب المحترم منشغل برشوة قيمتها ملياران، بينما يشيح بوجهه عن مئات المليارات التي تضيع على خزينة الدولة، بسبب صبها في حسابات هذه الشركة السويسرية التي تلصق أوراقها على «القراعي» وعلب التبغ.
فلماذا لا يطالب سعادة النائب بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول الظروف التي تم فيها تأسيس فرع هذه الشركة بالمغرب، وكيف حصلت على الصفقة، ولماذا تضخ في حساباتها كل هذه الأرباح عوض ضخها في حسابات الجمارك؟
نحن نرفع في وجهه هذا التحدي ونعرف مسبقا أنه لن يجرؤ حتى على الاقتراب من هذا الملف فبالأحرى فتحه.
ولعل البعض منكم لازال يتذكر كيف هددت سنة 2011 شركة «براسري دي ماروك» بالتوقف عن إنتاج «البيرة»، مهددة شعب «الشاربان» بخصاص فظيع في هذا المشروب، الذي يستهلك منه المغاربة 90 مليون لتر سنويا. بعدها مباشرة هددت شركة التبغ برفع أسعار السجائر. كما هددت شركات إنتاج وتسويق النبيذ وبقية المشروبات الكحولية الأخرى بمراجعة أسعارها.
لماذا يا ترى اكتشفت فجأة هذه الشركات العاملة في قطاع الدخان والمشروبات الكحولية، أحد أكثر القطاعات ابتعادا عن المطالب النقابية والأكثر تحقيقا للأرباح السنوية الضخمة، هذا النفس الاحتجاجي الذي جعلها تصل إلى الإضراب عن العمل وإلى ردهات المحاكم.
القصة بدأت عندما قررت إدارة الجمارك، بأمر من وزير المالية صلاح الدين مزوار، إخضاع شركة السجائر والمشروبات الكحولية والغازية والماء الطبيعي لعملية «الختم الجمركي» لكل ما تنتجه من علب وقنينات، من أجل إخضاع هذه المنتوجات للضريبة الداخلية على الاستهلاك.
الإجراء في حد ذاته منطقي وضروري للقضاء على التهرب الضريبي وإقرار الشفافية، وهو إجراء معمول به في كل الدول الديمقراطية، سوى أن «الاستثناء المغربي» يظهر مرة أخرى في طريقة تنفيذ هذا الإجراء. فعوض أن تتكفل به إدارة الجمارك تم خلق فرع شركة سويسرية، متخصصة في «الختم الجمركي» في المغرب، خصيصا لإعطائها هذه الصفقة.
وهكذا استثمرت هذه الشركة السويسرية (سيكبا) حوالي 100 مليون سنتيم في شراء الآلة التي ستطبع «الأختام الجمركية»، وشرعت تتقاضى درهما و30 سنتيما عن كل «تيكيت» تلصقها فوق كل قرعة من قراعي «الروج»، و20 سنتيما عن كل «تيكيت» تلصقها على كل «كانيط بيرة» و2،4 دراهم عن كل قنينة ويسكي، و50 سنتيما عن كل علبة سجائر، وسنتيما واحدا عن كل قنينة ماء معدني.
إن المغرب هو البلد الوحيد في العالم الذي تستطيع أن تؤسس فيه شركة، وبعد أسبوعين من وضع أوراقها في المحكمة التجارية، تفوز بصفقة وتستثمر 100 مليون لكي تحقق قبل نهاية السنة رقم معاملات يتجاوز 60 مليار سنتيم، فقط في ما يتعلق بشركة «براسري دي ماروك». وهي الأرباح التي سجلتها هذه الشركة المحظوظة التي لا تقوم سوى بطبع «التيكيت» وإلصاقها على علب السجائر وقنينات الجعة والويسكي والنبيذ والماء المعدني.
ومن المتوقع أن تجني الشركة السويسرية أرباحا إضافية بأكثر من 600 مليون درهم في السنوات القادمة. إنها ليست فقط دجاجة «بكامونها»، بل هي خم دجاج كامل يبيض ذهبا.
وهذا طبيعي، طالما أن «الختم الجمركي» لـ 100 علبة سجائر في المغرب يكلف حوالي 3.05 دولارات، وهو رقم يفوق 15 مرة ما تطلبه في تركيا التي لا يتعدى فيها الختم 0.20 دولار، أو كندا التي لا يتعدى 0.27 دولار.
وحتى عندما تجرأت الشركات المغربية المتضررة من ماكنة «الترياش» هذه، تعرض أصحابها لقرصات ضريبية ذكرتهم أنهم في المغرب وليس سويسرا.
إنها صفقة القرن بالنسبة لهذه الشركة السويسرية التي توجد بين مساهميها في فرع المغرب، مغربيتان من مواليد 1972 ومغربي من مواليد 1968.
في الدول التي تحترم جماركها الشفافية، يتم إسناد مهمة استخلاص واجبات «الختم الجمركي» لإدارة الجمارك، بينما تكتفي الشركة بإنتاج «التيكيت» وتتقاضى تعويضاتها عن هذه الخدمة.
في المغرب الآية عندنا معكوسة، فالشركة السويسرية تطبع «الأختام الجمركية» وتتقاضى مباشرة من شركات الجعة والمشروبات الكحولية والسجائر ثمنا محددا عن كل ختم جمركي وتضعه في حساباتها، ثم بعد ذلك تعطي من هذه المبالغ 12،5 بالمائة لإدارة الجمارك. ومدة هذا «الكاضو» ستمتد إلى خمس سنوات كاملة، تشير كل الاحتمالات إلى حتمية تجديده لخمس سنوات جديدة.
نحن هنا لا ندافع عن شركات التبغ والمشروبات الكحولية، فلهذه الشركات محامون «صحاح» في الإعلام يتلقون الأموال مقابل الدفاع عن مصالحها. كما أن هذه الشركات لديها لوبي قوي في البرلمان والحكومة يعرقل الإجراءات الضريبية ومشاريع القوانين التي تمس بمصالحها المادية.
نحن هنا نحاول البحث عن المستفيد الحقيقي من هذه الصفقة، التي تم تضمين قانونيتها في القانون المالي لسنة 2010، الذي صوت عليه ثلاثون نائبا فقط في البرلمان. ماذا يقول هذا القانون بخصوص «الختم الجمركي»؟
يقول بالضبط: «ينتظر قانون المالية لسنة 2010 أن تكون المراقبة الجمركية لعملية استخلاص الضريبة الداخلية على الاستهلاك بواسطة وسائل وإجراءات مقبولة من طرف الإدارة، وهذه الوسائل يجب أن تأخذ بعين الاعتبار التطورات المسجلة في عالم التكنولوجيا الحديثة».
بمعنى آخر فقانون المالية، الذي صوتت عليه هذه الحفنة من النواب، الذين يجهل معظمهم ماذا تعني الضريبة الداخلية على الاستهلاك أو الفائدة من «تيكيت» الختم الجمركي، إذ أغلبهم لا يفهم سوى في «التيكيت» الذي سيجمعه قبل أن تنتهي ولايته في البرلمان، لم يحدد على وجه التحديد شروط وآليات تطبيق هذا القانون المتعلق بالختم الجمركي. هل هناك مشروع قانون في العالم يصاغ بهذه الطريقة الغامضة والمفتوحة على جميع التأويلات؟
إن تمكين شركة جي إس لإس موروكو سيكبا من هذه الصفقة المدرة لدخل سنوي يصل إلى عشرات المليارات من السنتيمات، مقابل طبع أوراق عادية لا تكلفها سوى حفنة من السنتيمات، يحتاج إلى لجنة تحقيق برلمانية لبحث قانونية هذه الصفقة والكشف عن المستفيدين الحقيقيين من مداخليها المالية السنوية الهائلة، خصوصا بعدما لجأت الشركات المستهدفة من اقتطاعات الشركة السويسرية إلى القضاء، فوضع هذا القضاء بدوره ملفاتها في «الحفظ والصون».
وإذا كانت شركة سيكبا السويسرية شركة معروفة على الصعيد العالمي بجودة خدماتها على مستوى الحبر، الذي تستعمله في صناعة الأوراق المالية وأوراق الختم الجمركي، والذي يستحيل تزويره، فإن الشروط التي حصلت بموجبها على صفقة الجمارك تثير العديد من الشكوك، خصوصا أن الشركة السويسرية ترد على مطالب أصحاب الشركات المستهدفة باقتطاعاتها، أن أسعار هذه الاقتطاعات ليست متساوية، وأن ذلك راجع إلى الاتفاق الذي وقعته مع إدارة الجمارك.
إدارة الجمارك من جانبها لم تراجع الشركات المعنية بهذه الاقتطاعات، وتصرفت بشكل انفرادي كما لو أنها تدفع هذه الشركات إلى استخراج هذه الأموال، التي تذهب إلى حساب الشركة السويسرية من ظهور المستهلكين عبر اللجوء إلى الزيادة في الأسعار.
إن ما يهمنا هنا ليس رفع شركات التبغ والمشروبات الكحولية أسعار منتجاتها، فنحن نتمنى أن تضاعف هذه الشركات أسعارها ثلاث أو أربع مرات حتى يتراجع استهلاك الكحوليات والتبغ في المغرب، وتنخفض نسبة الإصابة بالأمراض القاتلة المرتبطة باستهلاك هذه المواد، لكن ما يهمنا أساسا هو هذا السعي لتسمين الشركات الأجنبية على ظهور المستهلكين المغاربة.
ففي النهاية، الخاسر في هذه الحكاية هو المستهلك لأنه هو من سيدفع تكاليف الختم الجمركي للشركة السويسرية وليس الشركات المصنعة.
لقد سبق لمثل هذه القصة أن وقعت عندما أهدى البصري قطاع التدبير المفوض للماء والكهرباء والتطهير بالدار البيضاء إلى شركة «ليدك» الفرنسية. وعندما اكتشفت «ليدك» أن مستخدميها الذين ورثتهم عن «لاراد» ليسوا مسجلين في صناديق التقاعد، استدانت من البنك المال الكافي لإحداث هذا الصندوق، وعوض أن تؤدي أقساط هذا القرض من أرباحها بدأت تقتطعه من جيوب زبائنها عبر النفخ في فواتير الماء والكهرباء، والمصيبة أن هذه «السرقة» القانونية كانت باتفاق مع مجلس مدينة الدار البيضاء.
وهكذا وجد زبائن شركة «ليدك»، الذين يقدرون بالملايين، أنفسهم يساهمون في دفع تكاليف صندوق تقاعد مستخدمي الشركة دون علمهم، علما أن هذا الصندوق يجب أن تموله شركة «ليدك» من حسابها الخاص.
إن ما قامت به الجمارك عندما مكنت هذه الشركة السويسرية من تحصيل كل هذه الأرباح السنوية، يدخل في إطار المساهمة في تعميق النزيف، الذي يعاني منه بنك المغرب، فالأرباح السنوية التي تحققها هذه الشركة تذهب مباشرة إلى سويسرا بالعملة الصعبة.
ساحة النقاش