فلاش بريس= رشيد نيني
بيداغوجيا الخطأ (2/1)
عندما ظهرت نتائج الدراسة التي أنجزتها مديرية المناهج بوزارة التربية الوطنية قبل أسبوع، بشراكة مع المنظمة الأمريكية (أوسايد)، والتي توصلت إلى أن ما يناهز نصف مدرسي التعليم الابتدائي يعتقدون بأن تلامذتهم ميؤوس منهم، ولا يمكنهم التعلم إطلاقا، قلنا إن تعميما بهذا الشكل مفتقد لكل مصداقية، من الناحية العلمية نظرا للعينات المختارة، ومن الناحية الأخلاقية نظرا لاختصار هذه المشكلة في رجل التعليم وعدم تحميل المسؤولية أيضا للمسؤولين الآخرين عن هذا الوضع، بدءا من المفتشين صعودا حتى أكبر مسؤول وزاري، وكذا تحميل المسؤولية للمناهج واستراتيجيات التدبير. لكن عندما رأيت الفيديو المشهور بـ«فيديو نادية»، والذي يظهر مدرسا للتعليم الابتدائي يسخر بطريقة مقرفة ولا إنسانية من تلميذة تحمل طباشير وتعجز عن كتابة الرقم 5، ازدادت قناعتي الشخصية بأن ما تقوله الدراسة أمر ممكن، وأنه آن الأوان أن ننتقل من مرحلة نكتفي فيها بإنجاز الدراسات غالية التكلفة والتي تنتهي دوما إلى رفوف الأرشيفات، إلى مرحلة البدء في محاسبة كل الذين أساؤوا لـ«نادية»، لأننا إذا قارنا حجم الجرم الذي ارتكبه هذا المدرس في حق هذه الطفلة، والجرم الذي ارتكبته منظومة التربية ببلادنا، سنجد أن هذا المدرس أساء لطفلة واحدة بينما الوزارة تسيء لعشرات الآلاف من الأطفال في عمر نادية وأقل من عمرها، ذلك لأنه من غير الطبيعي أن طفلة تبلغ من العمر 7-6 سنوات ما تزال تجد مشكلة في كتابة رقم مكتوب أمامها في السبورة.
الفيديو إذن، والذي تصل مدته إلى دقيقة ونصف، يصور فيه مدرس تلميذة ترتدي وزرة وردية، تحاول كتابة رقم 5 مكتوب أمامها على السبورة، حيث بدأت التلميذة في كتابة الرقم أمامها بطريقة جيدة، لكون أغلب مدرسي التعليم الابتدائي يعتمدون في رسم الحروف والأرقام على سبورة مقسمة إلى مربعات صغيرة، وإذا نظرنا للرقم الذي كتبه «مدرس نادية» سنجده مكتوبا بالاعتماد على المربعات الموجودة في السبورة، وذلك لكي يكون رسم الحرف أو الرقم واضحا، فـ«نادية» إن فهمت فكرة ضرورة احترام مربعات السبورة في كتابة الرقم، فإن المدرس لم يدعها تنهي كتابة ما فهمته حتى بدأ يعلق عليها بسخرية، بل ويطلب منها أن تستمر في كتابة المزيد، حيث وردت كلمة «زيدي» عشر مرات، لذلك استمرت هذه الطفلة البريئة في الكتابة وفقا لمربعات السبورة، ليتحول هذا الدرس السيئ من الناحية التربوية، إلى جرم أخلاقي خطير، إذ بدل أن يوقف المدرس نادية وينبهها إلى خطئها، استمر في تحريض زملائها على السخرية منها، باستعمال كلمات سوقية وتعابير لا علاقة لها بالتربية، بينما نادية، بعينين بريئتين، تنظر في دهشة للمدرس تارة، وللتلاميذ الساخرين منها تارة أخرى، دون أن يشرح لها أحد منهم خطأها، كل هذا و«السي المدرس» مستمر في تصوير دهشتها وبراءتها، لكن دون أن يدري أنه بهذا الفيديو إنما كان يصور أخطاءه هو وعدم كفاءته، بل وأخطاء منظومة بكاملها هي من يستحق السخرية.
طبعا دخل البرلمان على الخط، وطالب فريق نيابي وزير التربية الوطنية بمحاسبة الأستاذ، ليشرع الوزير في إجراء تحقيق لمعرفة «الجاني» ومحاسبته أمام لجنة تأديبية، لكن في نظري، يجب محاسبة الأستاذ، ولكن لا يجب استغلال هذا الحادث المدان، لتحميل فشل منظومتنا التعليمية لرجل التعليم وحده، فعندما نجد طفلة تبلغ من العمر 7-6 سنوات ولا تعرف كتابة رقم مكتوب أمامها، فهذا يدين أولا وأخيرا منظومتنا كلها، لأن كل الأدلة تشير إلى أن تعليم أطفال المغاربة هو آخر هموم هذه الحكومة، فإذا كانت نادية عاجزة عن كتابة رقم، فإن عشرات الآلاف مثلها يسربن في العالم القروي دون أن يتمكن هن أيضا من كتابة رقم أو حرف، وبدل أن تتحمل الحكومة مسؤوليتها في إرجاعهن للفصول الدراسية، فإنها تترك المجال مُشرعا لأمثال عيوش لكي يتاجروا بأميتهن، وحتى عندما لا يستفدن من أية عملية لإرجاعهن إلى الدراسة، فإنهن ينضممن إلى ملايين الأميين بالمغرب، ومن الطبيعي أن هذه الحكومة لن تفكر في مصيرهن، تماما كما لم تفكر في طريقة لإبقائهن في مدارسهن.
كل من شاهد الفيديو الشامت لا بد أنه قال في نفسه إنه لو كان والد الطفلة لما تردد ولو دقيقة واحدة في رفع دعوى قضائية ضد هذا المدرس، لأن من يرسل ابنته إلى المدرسة لا يصنع ذلك من أجل أن يسخر أحد من أخطائها، بل ليُقَوِّمها ويعلمها الصواب، تماما كما أن من يرسل ابنته للمدرسة يصنع ذلك لتتفتح شخصيتها بالعلم والمعرفة، وليس لتعود إلى البيت منكسرة وذليلة بسبب مرضية معلمها أو عدم كفاءته.
فإذا كان خطأ نادية هو أنها لم تعرف كيفية كتابة رقم، فإن كل من شاهد الفيديو سيلاحظ أن الخطأ الأول لمدرسها هو أنه يشجعها على الخطأ، وما استمرارها في رسم «الدروج»، ما هو إلا تنفيذ لأوامر المدرس، بل إني أجزم أن دوافع تصويرها لم تكن أبدا بريئة، إذ أن المدرس كان يعلم قبليا أنها لا تعرف الكتابة وأراد التشهير بها عبر تصوير شريط فيديو يوثق خطأها، لكن لم يعلم أنه كان يوثق لبراءتها هي وعدم كفاءته هو، وإلا هل المدرس الذي لا يعرف أن خطأ التلميذ أضحى في علوم التربية الحديثة حقا مقدسا يستحق أن يؤتمن على أطفال يخطئون بطبيعتهم؟ هل يعلم هذا المدرس بشيء اسمه «بيداغوجيا الخطأ»، والتي تتأسس بالكامل على ضمان حق التلميذ في الخطأ وكيفية استثمار المدرس لهذه الأخطاء لدفع تلامذته للتعلم بدل السخرية منهم، فلو كانت التلميذة نادية تعرف كتابة رقم 5 وغيره من الأرقام، فما حاجتها لمدرس من أساس؟
ساحة النقاش