فلاش بريس = محمد الأشهب
الإجماع الغائب في الجزائر
لو كان في نية الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة تعديل دستور بلاده، بما يضمن توزيعا متوازنا للسلطات والاختصاصات، لفعل ذلك قبل الاستحقاقات الرئاسية. أقله أن المناسبة كانت سانحة لبدء حوار وطني حول الوثيقة الدستورية المعدلة، بوفاق جماعي. ولو كانت الرغبة صادقة وذات مصداقية، على إيقاع الحراك الذي عرفته مجتمعات عدة، لأوفى بالتزام كان قطعه على نفسه في العام 2011 لإحداث تعديل دستوري لم ير النور إلى اليوم.
الآن، وبعد أن أخفقت خطة «الإجماع الوطني» التي طرحت على مستويات عدة للخروج من مأزق السلطة والسياسة. رمى بوتفليقة عبر أحد مستشاريه الكرة إلى مؤتمر إفريقي أكد خلاله عزمه إدخال تعديلات على الدستور. وفهم أن أقرب بند إلى ذلك يتمثل في الإعلان عن منصب نائب للرئيس يقوم مقامه، لتلافي حالة الشغور في قيادة البلاد. لكن طرح الفكرة جاء برأي راصدين لتطورات الأوضاع في الجزائر، في الوقت الضائع، أي بعد أن تحولت الأزمة إلى مرادف لشغور منصب الرئاسة، نتيجة المعاناة المتواصلة لبوتفليقة مع المرض، حتى أنه لم يعد يظهر إلا في مناسبات محدودة، ترتبط عادة بتسويق صورته في استقبال ضيوف عرب وأجانب، للدلالة على أنه لا زال يمسك بزمام الأمور.
تعديل الدستور مسألة حيوية، فالوثيقة الدستورية تخضع لملاءمة مفروضة حسب تطورات المجتمع والتطلعات، وهي بهذا المعنى لا تخص البحث عن بؤرة ضوء في نهاية النفق، حين تدلهم الأجواء والطرقات، بل تروم تفصيل الرداء المناسب للمرحلة، أي الخروج من استبداد السلطة إلى مرجعية القانون الأسمى الذي يصيغ خيارات الهوية وآليات التدبير السياسي المعاصر. وقد شعر الجزائريون منذ أمد بعيد بأن التغيير المطلوب يكمن في الانتقال إلى حياة سياسية تنطبع بالتعددية والمنافسة والشفافية وتغليب المصلحة العليا.
وإذا كانت ثمة معضلة أبانت عنها تجربة الولاية الرابعة للرئيس بوتفليقة، فهي أن الدستور جرى تفصيله بهاجس ضمان تلك الولاية. وإحكام قبضة اللوبيات المتنفذة في المحيط الاقتصادي والعسكري، دونما اعتبار لإرادة الشعب الجزائري التواق إلى الخلاص من تجارب حكم انتهت إلى إفلاس، ولم تسعف في نقل البلاد إلى مصاف الدول التي يحكمها القانون. لكن أزمة الجزائر عميقة ومتعددة الوجوه والأبعاد. تبدأ من استمرار عقلية ومنطق الحزب الوحيد، وتتدرج إقليميا في اتجاه التمسك بآخر خشبة من زورق الحرب الباردة المنتهية، ولا تتوقف عند هدر الموارد في غير ما ينفع أهل البلاد الذين صاغوا فكرة «الحكرة» كملاذ يشي باحتقار الكفاءات وعدم الإنصاف. وبالتالي فالدستور عدل أم لا يبقى الوثيقة التي في إمكانها أن تعكس حدود الالتزام بالخيار الديمقراطي الذي لا يكون مع استمرار احتكار السلطة والثروة.
لن يخسر الرئيس بوتفليقة سوى نصف معاناته مع المرض، ونصف اضطراب البلاد إن أقدم على منهجية الحوار الوطني الشامل في إعداد وثيقة دستورية، لا تقصي أحدا ولا تهمش منافسين له. فالمعارضة الأكثر بروزا على الساحة الجزائرية، خرجت من معطف الحكومات المتعاقبة. ما يعني أن هناك خللا عميقا في تدبير الملفات. ولأن فكرة «الإجماع الوطني» تعرضت للهدر، فلا أقل من إدخالها غرفة الإنعاش الذي تستفيق منه معافاة، عبر إطلاق حوار يقود إلى الإجماع. أقربه الاتفاق على آليات العمل السياسي، أما اختيار صفوف المعارضة أو الأغلبية، فتلك قضية يفترض أن تترك لخيارات الناخبين. إذ يلمسون أن البلاد قطعت مع مرحلة صنع الحزب الوحيد الذي تشهده وجوه تحت يافطة تعددية بلا مضمون ولا ملامح.
لو تلفتت الجزائر إلى يمينها وشمالها، لأصبحت في غنى عن تلويك سياسة هدر الفرص الضائعة. وإذا كان تأثير الزعامات السياسية سمة مشتركة في دول عدة، فإن خلود الفكر الديمقراطي ينوب عن خلود الأشخاص، ففي تونس إلى الجوار الشرقي للجزائر تتنامى تجربة جديرة بالاهتمام، أقله أنها تجاوزت جدار مقاطعة الاستحقاقات الدستورية والانتخابية تشريعيا ومحليا. وإلى غربها يتفاعل وضع سياسي يتميز بالانفتاح والمشاركة والحراك الدائر داخل المؤسسات، وإن اتخذ أحيانا طابع استخدام الشارع، وليس من مصلحة الجزائر أن تغرق في وهم الاستثناء. فإذا كانت موجة الربيع العربي لم تقض مضاجع السلطة في فترة الحراك الشديد، فإن ثمة حراكا آخر بروح جديدة يدور على نطاق واسع، ولم يعد مقبولا استثناء فصائل المعارضة من أي توجه يراد به الانطلاق نحو ملامسة الخطوات الأولى الصعبة على طريق التغيير.
لكن تعديل الدستور إن كان مجرد وسيلة للالتفاف على الأزمة القائمة، فإنه يفقد دلالاته السياسية، لأن المشاركة في وضع الوثيقة الدستورية من أولى الالتزامات التي تشير إلى القطع مع سياسة الإقصاء والتهميش، وبعدها وفي غضونها، يمكن للحوار أن ينبثق عن مبادرات إيجابية، ولأن عنوان الأزمة يمكن الاصطلاح عليه بالوضع الصحي للرئيس، فإن معالجتها لن تتم من دون تشخيص حالة الإنهاك التي اعترت المؤسسات التي لا تشتغل في الاتجاه الصحيح. فمن يقوى على إنهاء مسلسل الفرص الضائعة محليا وإقليميا؟
ساحة النقاش