فلاش بريس = محمد الأشهب
اقتصاد الطبيعة.. اقتصاد الحياة
إذا لم يكن من دور لمراكز الأبحاث والدراسات في التنبيه إلى المخاطر الطبيعية التي تهدد المغرب، في إنسانه وعمرانه، فما الفائدة من بعض هذه المراكز، بخاصة ذات الصفة الرسمية. وإذا لم يشكل الاهتمام بالمتغيرات المناخية التي تضرب العالم جزءا من آليات الأمن الاستراتيجي الشامل، فأي معنى لأمن لا يصون الإنسان في بيته وحقله وطرقاته والقناطر التي يعبرها. لكن المسؤولية إن كانت تقع في جزء منها على النخب الفكرية والباحثين الذين لا يعيرون الأمر ما يستحق من الاهتمام، فإن الظروف التي تكتنف مجالات البحث العلمي واستقراء خرائط الطبيعة لا تبعث على الاطمئنان، ودور المكونات أن تنقاد إلى منبهات الأبحاث والدراسات.
غالبية الدراسات التي يتم نفض الغبار عنها تتحدث عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وتحديات التحولات العاصفة، وتكاد تغفل أجراس الإنذار التي تطلقها الطبيعة بين الفينة والأخرى، إما في شكل جفاف وتصحر وانحباس أمطار، أو على نقيضه في صورة فيضانات وسيول جارفة تغرق ما تحت الأرض وما فوقها. ولم يكن المغرب في تركيبته الجيولوجية والمناخية والمائية بعيدا عن هذه المخاطر. لكن السدود التي جرى إنشاؤها منذ السنوات الأولى لاستقلال البلاد خففت من وطأة هذا التأثير، ولا أحد يكلف نفسه الآن عناء معاودة تقويم سياسة السدود، أقله على مستوى تنظيفها من التوحل والأتربة التي تغطي فضاءاتها.
الغريب أنه عندما ضرب الجفاف المغرب سنوات متوالية، لازالت مضاعفاتها قائمة إلى اليوم، انفتحت العقول على دراسة الأسباب الكامنة وراء تنامي الظاهرة الطبيعية المقلقة، وعلى عكس ذلك تماما لم يحدث الاهتمام نفسه، وقد أصبحت الفيضانات تضرب في كل موسم ماطر، علما أن التوجهات الدولية أولت مسألة تغير المناخ أهمية كبيرة. أكان ذلك على صعيد التهديدات التي يطرحها ذوبان الجليد في المناطق القطبية الشمالية، حين تذيبه الحرارة، أو على مستوى تزايد حدة السيول وعلى أمواج البحر وتأثيرها على المباني الشاطئية وعلى مخزون الثروات السمكية وغيرها.
يتغاضى الناس عن هذه القضية المحورية، لأن الطبيعة أضحت عاملا محوريا في توجيه السياسات الدولية التي كانت تتأثر بالميول والطروحات الإيديولوجية. ثم أصبحت اليوم أكثر إذعانا لميولات الطبيعة التي من شأنها أن تغير الخرائط والمواقع وحسابات الدول. وما الاهتمام المتواصل بالقارة الإفريقية ذات الرطوبة الساخنة إلا جزءا من آليات صراعات دولية جديدة، تركز على اكتشاف فضاءات الوجود الجديدة، هروبا من صقيع الثلوج وبرودة الأجواء واكتساح البحار والأنهار.
في تقرير نشرته «الاتحاد الاشتراكي» الأسبوع الماضي، أنجزه البنك الدولي والوزارة المكلفة بالشؤون العامة والحكامة، تبرز معطيات علمية دقيقة حول أضرار الفيضانات واحتمالات الزلازل وتعرض المدن الساحلية إلى المخاطر. وخلص التقرير إلى أن المغرب من ضمن البلدان المهددة بالكوارث الطبيعية، كونه عرضة مثل غيره لتأثير المتغيرات المناخية.
لكن السؤال المحوري، هو ماذا فعل المغرب لمواجهة هذا الواقع المقلق والتهديدات المستمرة، حاضرا ومستقبلا! ذلك أنه لا يكفي إصدار النشرات التحذيرية لحض المواطنين على اليقظة والحذر. فهذه من أول مهام ضمان الأمن. ولكن لابد من انتهاج سياسة مضادة على المدى القصير والمتوسط والبعيد، لأنه لم يعد مقبولا أن نواجه مثل هذه الأحداث بطرق شبه بدائية، تعتمد على حدس المواطنين فقط، بل يتعين إقرار مظاهر تنمية بديلة، أكان ذلك على مستوى إعادة النظر في أساليب البناء، خصوصا العشوائي والتقليدي، أو في نطاق إقامة وتوسيع التجهيزات الأساسية والمرافق القابلة للتكيف مع عوامل الطبيعة صيفا وشتاء.
أضحت الطبيعة عنصرا أساسيا في إقرار المخططات ووضع السياسات. وهي إن كانت متقلبة بسبب التحولات التي طالت مظاهر الحياة العصرية والاستغلال العشوائي للموارد، وعدم الاكتراث بالحواجز الواقية التي تستطيع مواجهة التصحر والفيضانات على حد سواء، فإن الاكتشافات العلمية أبانت عن قدرات هائلة في مواجهة هذا التقلب الذي يغزو الكرة الأرضية في كل الأصقاع. فقد أثبتت الأحداث المأساوية التي عرفتها البلاد مرات عدة هشاشة البنيات التحتية التي لا تقدر على الصمود، من طرقات وقناطر وبيوتات، فيما أن خرائط البناء لا تخضع لرؤية عميقة، تضع في الاعتبار حجم المخاطر التي تهدد الساكنة بجوار ضفاف الأنهار، فيما أن البرك المائية تكشف عورة التجهيزات المتعلقة بطرائق صرف المياه في أكبر وأهم المدن المغربية.
التوسع العمراني ظاهرة إيجابية، لكن لابد من مراعاة قواعده الصلبة، وفي غياب المنظور المستقبلي الذي يستقرئ تفاعل الطبيعة، يبقى ذلك التوسع مهددا ومدعاة للمزيد من القلق، فيما غياب مرافق الخدمات ووسائل الإنقاذ والوقاية والسلامة الطرقية والإسكانية والسكانية، تتطلب فرض سياسة جديدة، أقربها معاودة توزيع مراكز الوقاية والالتفات إلى المناطق النائية التي تعاني التهميش.
الاقتصاد الجديد أصبح اقتصادا تفرضه الطبيعة، كما في ظاهرة الاقتصاد الأخضر، وكي لا يتحول اللون الأزرق إلى أحمر يحيل على الموت الغادر، وجب إعادة النظر في الكثير من المخططات.
ساحة النقاش