فلاش بريس = حسن البصري
قناطر صنع محلي
مكنتنا الفيضانات التي اجتاحت جنوب المغرب من التعرف على أودية وأنهار سقطت من دروس الجغرافيا التي صنفتها في خانة الوديان الأليفة.فجأة انتفضت الوديان وقررت تحطيم القناطر وقطع الطرقات، بعد أن ظلت مجرد أسماء مستعارة لسيول موسمية.
هكذا أصبحنا نعرف اسم الوديان والأنهار التي كانت مبنية للمجهول، ونحفظ عن ظهر قلب مجراها ومرساها، بعد أن عبثت بقناطر عليها عبارة «مايد إن موروكو»، وحولتها إلى بقايا غارة.
كشفت غضبة وديان «درجة ثانية» عن قناطر «كاورية» صامدة ضد عاديات النشرات التحذيرية، وأخرى محلية الصنع تعاني من هشاشة العظام، سرعان ما تعلن استسلامها للسيول وولاءها للمناطق المنكوبة.
لذا يمكن أن نفهم جيدا المغزى الحقيقي من جعل القناطر مرادفا للكذب، فـ«التقنطير» في قاموس الدارجة المغربية هو أعلى درجات البهتان. لذا باتت صلابة قناطرنا مؤجلة إلى يوم تغضب فيه الوديان، فعند الامتحان تعز الجسور أو تهان. يحصل هذا لقناطرنا رغم أن أغلب وزراء حكومتنا هم من خريجي المدرسة الوطنية للقناطر والطرق في باريس، أي أنهم تقنطروا في فرنسا وعادوا إلى المغرب وهم يبحثون عن جسر عبور صوب الوجاهة، لا يهم إن كان الجسر سياسيا أو عائليا أو ماليا.
اعترف عبد العزيز الرباح،وزير التجهيز والنقل في حكومة عبد الإله بنكيران،أثناء رده على سؤال شفوي بمجلس المستشارين، أول أمس الثلاثاء، بوجود ألف قنطرة مهددة بالانهيار إذا لم تقدم لها الإسعافات اللازمة. وعوض أن يطالب الوزير بمحاسبة المتسببين في هشاشة القناطر مغربية الصنع، كشف عن تخصيص وزارته ميزانية استثنائية قدرها 25 مليار سنتيم سنويا لعلاج كسور بعض القناطر وترميمها قبل إخضاعها لعملية ترويض.
وافق محمد بوسعيد، وزير الاقتصاد والمالية، دون تردد على مطلب الرباح، فهو لا يرد ملتمس وزير عاش معه أيام الجد والنشاط في مدرسة القناطر الفرنسية، على غرار عدد من الأسماء التي استوزرت بعد أن تبركت بكرامات قيدوم خرجي مدرسة القناطر مزيان بلفقيه، الذي فتح جسر عبور بين مدرسة القناطر الباريسية والحكومة المغربية. حتى وزير الداخلية محمد حصاد لا يخرج عن الصف، إذ شغل لسنوات مهمة منصب رئيس ودادية مهندسي الطرق والقناطر بالمغرب، ويعرف أن قناطر المغرب نوعان: قناطر للعبور نحو الضفة الأخرى وقناطر للعبور إلى دار البقاء.
لنذكر أمواتنا بالخير، ونعترف بأن بلفقيه كان الراعي الرسمي لكثير من خريجي هذه المدرسة والمحتضن الأساسي لهم، وكان وراء تولي العديد منهم مناصب حكومية. فالحصول على شهادة مدرسة القناطر هو في حد ذاته قنطرة عبور لوجدان مستشار ظل لسنوات يختار التشكيلة الحكومية أو على الأقل عناصرها الأساسية.
غضب الوديان الصغيرة التي كانت مجرد روافد وثورتها على الجسور، جعلانا نرفع القبعة لمهندسي زمان الذين كانوا يبنون قناطر وطرقات المغرب بسواعد مغربية. وحين نال المغرب استقلاله كان عمر «نص بلاصة» يستكمل البناء بالنية الصادقة نفسها، لكنه مات وهو يتفقد ورش بناء قنطرة وظل موته لغزا محيرا.
مات عمر قبل أن يكمل مشروع بناء الطريق السيار الرابط بين الدار البيضاء والرباط، لكن قناطره وقناطر ليوطي نجحت في امتحان السيول الموحد، بينما أخفقت الجسور محلية الصنع، وتبين أنها أشبه ببضاعة «شينوا» ثمنها قليل وضررها كبير، سيما تلك القناطر التي تحطمت قبل أن تحتفل بعيد ميلادها الأول.
يقال، والعهدة على ما تبقى من حزب البعث، إن الرئيس العراقي السابق صدام حسين كان حريصا على جودة الجسور، وظل يردد مقولته الشهيرة «شيدوا على دجلة والفرات جسورا تحرسها»، وكان يطلب من وزير ماليته عدم تسديد ثمن صفقة بناء أي جسر إلا بعد إخضاع المشروع لامتحان، حيث كان يطلب من المهندس ومساعديه المكوث تحت الجسر الذي تمر فوقه آليات عسكرية ثقيلة لقياس درجة صمود الجسر، وإذا انهار فإنه سيسقط فوق رأس مهندسه وتنتهي الحكاية بجنازة غشاش. الصدف الماكرة شاءت أن يعتقل من تحت جسر ويموت معمر القذافي تحت قنطرة. أخشى أن يصدر أمر وزاري يحذر أطفالنا من ترديد نشيد الفرح بالمطر، ويدين كل من يردد نشيد «الشتا تاتا تاتا.. أصبي صبي صبي»، بتهمة التحريض على القناطر.
ساحة النقاش