فلاش بريس = محمد الأشهب
ازدواجية جزائرية !
أن تبدي الخارجية الجزائرية حماسا أكبر إزاء الجهود المتواصلة لحل الأزمة الليبية، فالأمر إيجابي ويبعث على التفاؤل في عودة الوعي بأهمية إنقاذ البلد المجاور، بخاصة إذا كان ذلك يتم في إطار جهود الأمم المتحدة ورعاية مبعوثها الخاص برناردينو، وما من عاصمة مغاربية أو عربية أو دولية إلا وتشجع هذه المساعي، في ضوء استمرار المخاطر التي تهدد المنطقة بأسرها.
بيد أن تحفظات بعض أطراف المصالحة الليبية المطلوبة حول موقف الجزائر التي كانت اتخذت قرارا سلبيا إزاء الثورة الليبية التي أطاحت نظام العقيد معمر القذافي لها ما يبررها، والمطلوب في أي وسيط موثوق أن يكون محايدا وذا مصداقية، ولا تحركه سوى الرغبة في رأب الصدع ومساعدة الأطراف المتناحرة على الوصول إلى طاولة المفاوضات، ولأن الأمر يتعلق بمستقبل دولة مغاربية مهددة في وجودها بمخاطر التقسيم والفتنة واتساع رقعة الاضطرابات، لا يمكن إلا الترحيب بأي جهد يبذل في مساعدة الأطراف على إبرام صيغة وفاقية برسم الحل الذي يعيد الاستقرار والأمن ويحد من مخاطر الانفلات.
نذكر هنا أن الجزائر سبق لها أن توسطت بين فصائل متصارعة في تونس، قبل أن يهتدي الشركاء إلى حل وفاقي، مهد الطريق أمام إجراء الانتخابات التشريعية ثم الرئاسية التي تدور منافساتها باحتدام، إلا أن اللافت في الموقف الجزائري أنه يبدو مهتما بما يحدث إلى جواره الشرقي، ولا يبالي، أو لا يعير ما يحدث إلى جواره الغربي الاهتمام الموضوعي، فقد تم رصد تحركات جزائرية حيال أزمة مالي وأخرى في اتجاه ليبيا وتونس، ولعل السبب المحوري في «الغياب الجزائري» أنه طرف معني ومتورط في التوتر القائم منذ حوالي أربعة عقود.
في حالة بهذا التعقيد وهذه الازدواجية ليس مطلوبا من الجزائر القيام بوساطة، وإنما مجرد الكف عن ممارسة سياسة عدائية تجاه بلد، يفترض أنه يرتبط معها باتفاقات حسن الجوار، ولأنها جزء من المشكل القائم لا تقدر الجزائر بل لا توجد لديها لا الرغبة ولا الإرادة في إنقاذ المنطقة من توتر يستنزف الطاقات والقدرات ويسمم الأجواء. فكيف لهكذا ازدواجية أن تستقيم. لا على صعيد أبجديات حسن الجوار ولا على مستوى متطلبات البناء المغاربي المتعثر، بفعل المواقف الجزائرية التي تنكرت حتى لأسس ومبادئ الخيار المغاربي، ونعني بذلك في المقام الأول البند الصريح في المعاهدة التأسيسية للاتحاد المغاربي الذي «يحظر إيواء ودعم أي حركة معارضة لأي دولة مغاربية» من طرف الشركاء المغاربيين.
تريد الجزائر أن تتوسط في الأزمة الليبية، وهي ذات علاقة بانتشار السلاح وتنامي التطرف وتزايد نفوذ التدخلات الخارجية، كيف لها أن تفعل ذلك وأن يكون لمساعيها المصداقية، وهي تواصل دعم حركة انفصالية تمدها بالسلاح والعتاد وتسخر لها آلياتها الدبلوماسية والدعائية؟ مصدر التناقض أن الناهي عن الكفر يقترفه بشتى الوسائل.
ولو كانت الجزائر في وارد الانسجام لقدمت المثال عن التزام صريح بالبعد المغاربي في علاقتها مع الجوار الشرقي والغربي على حد سواء.
الغريب أن وزير خارجية الجزائر رمطان العمامرة يقول أن بلاده تتعاون مع الأمم المتحدة في الأزمة الليبية، فهل يمكن تجزئة الالتزام الدولي في التعاون مع الأمم المتحدة، أي يكون مقبولا في الحالة الليبية ومرفوضا في حال التوتر مع الجار المغربي. ما من مقياس يصمد أمام ازدواجية المواقف، فقد طلب مجلس الأمن إلى الجزائريين بقرار صريح مجرد الإذعان لتسهيل مهمة المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في القيام بإحصاء دقيق للسكان المقيمين في تيندوف. وعوض انصياع الجزائر للقرار الدولي صعدت لهجتها مع المغرب، تارة عبر إثارة إشكاليات مغلوطة لتبرير سريان مفعول إغلاق الحدود البرية مع المغرب، وتارة أخرى بتلويك المقولة المفلسة حول «تصفية الاستعمار» وتارة بالإيحاء إلى كراكيزها في تيندوف للتلويح بحمل السلاح.
تتصور الجزائر أنها يمكن أن تفرض نظرتها المغلوطة حول أصل المشكل وأطرافه وملابساته على الأمم المتحدة. السبب في ذلك أن بعض موظفي هذه الأخيرة أذعنوا لردود أفعال جزائرية، حدث ذلك خلال تقديم الوسيط الدولي جيمس بيكر للطبعة الأولى لاقتراحه حول الحكم الذاتي، قبل أن ينحاز للطرف الآخر بطريقة مكشوفة. وتكرر عندما أعلن الموفد الدولي بيترفان فالسوم أن خيار استقلال إقليم الصحراء «ليس واقعيا ومستحيلا» وهي اليوم بصدد جذب بعض الموظفين إلى طروحات مشبوهة، تزيد في تعقيد المشكل وليس حله.
المسؤولية إذن تقع على عاتق الأمم المتحدة، إضافة إلى الجزائر، ولو لم تجد هذه الأخيرة من يجاريها في سياسة إدامة التوتر، لما أصرت على عنادها المعاكس لأوفاق الشرعية الدولية، ذلك أن بعض المصالح تلتقي عند هاجس استمرار تدهور الأوضاع، على رغم أن طريق الحل مثل الخط المستقيم يكمن في احترام إرادة السكان المعنيين الذين جاهروا بخيار الوحدة والحكم الذاتي والديمقراطية.
أن تهرب الجزائر إلى فتح جبهات جديدة لتصريف أزمتها الداخلية، فالمسألة لا تحتاج إلى عناء تفكير، لكن أن تحاول الظهور بمظهر من يسعى لإنقاذ المنطقة المغاربية، فاللعبة أكثر من مكشوفة، وإذ لا يخالجنا شك في أن ليبيا بحاجة إلى مساعدة الأشقاء المغاربيين، خصوصا أولئك الذين أبانوا عن التزامات صريحة في دعم الثورة وإنقاذ البلاد من الاستبداد، فإن آخر من يمكنه التبجح بذلك هي الجزائر التي تبحث عن صكوك غفران، مع أنها قادرة لوحدها على أن تنقذ نفسها من التورط واستمرار الفساد، وبلا ازدواجية.
ساحة النقاش