فلاش بريس = سعيد الباز
الزمن ذلك العدّاء الإثيوبي
برزت في الآونة الأخيرة ظاهرة الاحتفال بالقراءة في الساحات العمومية، والدعوة إلى تشجيع فعل القراءة والحث عليه، خاصّة في صفوف الشباب. وتأتي هذه المبادرات في الغالب فردية، أو تكتسي طابعا جمعويا. كما بدأت تظهر محاولات خلق صالونات أدبية ومقاه ثقافية في الكثير من المدن والجهات في المغرب، وكسابقتها يحكمها هاجس تجاوز الفراغ المهول في المجال الثقافي ليس لدى الشباب فقط، بل حتّى في أوساط النخبة المتعلمة. ولمحدودية هذه المبادرات صار من الصعب أن نتوقع لها ذلك التأثير المطلوب، وصار أيضا من الصعب أن نتحدث عن شيء يسمّى المغرب الثقافي، رغم وجود أسماء فكرية وإبداعية مشهود لها بالريادة والألمعية في العالم العربي. بالمقارنة مع الماضي القريب كان المغرب يعجّ بالملتقيات الفنية والأدبية، بالأندية السينمائية التي تخرّج منها نقاد وسينمائيون أثروا الخزانة السينمائية، بالمهرجانات المسرحية التي خلدت أعمالا رائدة وتنظيرا مسرحيا ما زال إلى اليوم يثير مزيدا من الأسئلة، بالمجلات المتخصصة في العديد من حقول المعرفة والإبداع، ناهيك عن التجارب التشكيلية الجادّة التي تبحث في الأشكال الأكثر ارتباطا بالهوية الثقافية المغربية. هذا المغرب الثقافي الغني والمؤثر في الإنسان والمجتمع قد غاب منذ مدّة، وجمع حقائبه إلى غير رجعة. عندما نتذكّر فداحة هذه الخسارة تختلط بداخل المرء مشاعر مختلفة من الحنين إلى هذا الماضي القريب، والأسف الشديد لما آلت إليه وضعية الثقافة والمثقفين في المغرب. وكثيرا ما تراودنا أسئلة يطرحها الكثير من المثقفين مثل عبد اللطيف اللعبي وآخرين عن الجدوى من المؤسسات الثقافية والملتقيات الموسمية والظرفية التي تغطي عن الفراغ الثقافي وغياب الإرادة الحقيقية للفعل الثقافي والبنيات الأساسية المجسدة له.
لقد صار الآن من المشروع أن نقول إنّنا لسنا في حاجة لوزارة الثقافة لتسهر على عدم تسيير الشأن الثقافي، ولسنا كذلك في حاجة لاتحاد كتاب للمغرب كي تتصارع حول مقاعده زمرة قليلة من المثقفين، في وقت لم تعد تعني هذه المقاعد بالذات شيئا.. وفي الوقت نفسه لسنا في حاجة للاحتفال باليوم العالمي للشعر، مادام الشعر مفتقدا طيلة العام، وما دمنا كذلك مصرّين إصرارا غريبا على الاحتفال به بطريقة موسمية ومدرسية (ليس في التعبير المدرسي أيّ قدح للمدرسة ورجالاتها)، أقصد ذلك الأسلوب المستهلك في الاحتفال عن طريق نصب منصة ودعوة جمهرة من الناس ليلقوا نصوصهم تباعا، يتقدّمهم في العادة شخص يتمرّن على التقديم.. وهكذا دواليك تتوالى النصوص، لا جامع بينها سوى رغبة هؤلاء الناس في أن يتسيّدوا خلف ميكروفون ما، وأن ينالوا ولو للحظة شيئا من التصفيق هو أقرب إلى العزاء منه إلى الاحتفاء، ولأن ينكّلوا في النهاية بالشعر.
نحن في حاجة إلى دور نشر حقيقية، لا إلى لصوص النشر، إلى توزيع حقيقي للكتاب الإبداعي، لا إلى تجميده في المخازن، أو استعراضه في المعارض الأشبه بأسواق المتلاشيات.. وكما في السياسة الشعر والإبداع عموما حين يعيش في ظلّ الاختناق والاحتقان يلجأ إلى حلوله الخاصّة، وهذا ما يفسر لجوء الكثير من الشعراء والكتاب الشباب إلى الأنترنت وعوالمه الافتراضية.. وهذا يأتي في نظري من شعور حادّ بالاضطهاد سببه هذا الغياب التام لأيّة سياسة ثقافية، وللممارسات الخاطئة للفعل الثقافي مثل الاحتفالات الموسمية البالية والخالية من روح االإبداع وأسئلة الفكر.
في النهاية سننتبه متأخرين بأن إهمالنا للشأن الثقافي والإبداعي عموما، سيجعل من أيّ تنمية كانت تنمية عرجاء، ومن أيّ حداثة كانت حداثة حولاء. وسيفوتنا قطار الزمن وكما قال الشاعر المغربي عبد الرحيم الخصار ذات مرّة: «...ذلك الزمن الذي يركض مثل عدّاء إثيوبي».
ساحة النقاش