فلاش بريس= رشيد نيني
أسواق في الذاكرة
عندما يأتي «العيد الكبير» يعود الكثير من الناس إلى الأسواق الأسبوعية التي فرقت بينهم وبينها المدن والسنوات. تعود رائحة الغنم لمداعبة الخياشيم وتسترجع الحواس روائح وأصوات القرية التي غلفتها المدينة بأقنعتها الملونة والخادعة.
كل واحد منا لديه قصصه الخاصة مع السوق الأسبوعي لمدينته وقريته وبلدته.
في مدينتي يسمى السوق «لاربعا»، نسبة إلى يوم الأربعاء الذي يقام فيه. صحيح أن معالم السوق تتغير في الصيف بسبب سلع المهاجرين التي يجلبونها على ظهور سياراتهم من الخارج والتي تكون في غالبها عجلات «مفشوشة» وأباريق محروقة الجوانب وملابس داخلية لنصارى توفاهم الله منذ قرون.
يوقظ العيد الكبير وسوق الغنم في دواخل كل واحد منا ذكريات قديمة جدا لطفولة مفتقدة عاشها كل من قدر عليه العيش في مدينة صغيرة، فقد كان السوق بالنسبة إلينا نحن أطفال تلك السبعينات المتعة الوحيدة في مدينة محاصرة بقشلة للعسكر وغابة ممتدة حيث ينفخ «طياب العنب» مزاميره المجنونة كلما حل الصيف القائظ وانفرد بنا وسط حاراتها وأحيائها.
وقد كان السوق الأسبوعي أنسب يوم لاقتناء اللحوم الطرية، إلى درجة أن الأبناء الغائبين عن المدينة بسبب ظروف العمل والدراسة في الرباط أو الدار البيضاء كانوا يعودون إلى ابن سليمان، أو «سلايمن سيتي» بالنسبة لقدماء القاطنين، لكي لا يفلتوا «لحيمات لاربعا». وهي اللحيمات التي يتعشى بها كافة سكان المدينة نظرا لانشغالهم أثناء فترة الغداء بالتسوق.
ومن مقاعدنا بمدرسة ابن زيدون كنا نسمع أصوات الباعة القادمة من أبواقهم والتي يروجون عبرها بضائعهم وأدويتهم ضد البرغوث والبق والفئران وسائر الحشرات والقوارض التي كانت تنغص على الناس عيشهم في تلك السبعينيات، كما كنا نستطيع من مقاعدنا تمييز أصوات الحلايقية الذين يحطون رحالهم في السوق جنب الجزارين، ونعرف من حضر منهم ومن غاب. فقد كانت الحلقة آنذاك هي التسلية الهزلية الوحيدة المتوفرة لدينا، بالإضافة إلى تلفزيون بلا ألوان ساعات إرساله معدودة على رؤوس الأصابع.
وكان المرحوم «خليفة» ومنافسه «الفرم» من بين النجوم المتألقة في السوق الذين لم يكن يزعجهم أن تكون حلقتهم مجانبة للكوري حيث تنتظر البغال والحمير أصحابها شاغلة وقتها في ركوب بعضها البعض.
والحقيقة أن الكثيرين من أبناء جيلنا تلقوا المبادئ الأولى في التربية الجنسية فوق سور أحد «الكوارا» حيث يترك البدو دوابهم بينما يتفرغون للتسوق. وكان الفضل في تلقينا لأولى حصص مادة التوالد آنذاك يعود لهذه الحيوانات البريئة التي لم تكن تهتم بجلستنا المقرفصة فوق السور ونحن نفترس بنظراتنا الطفولية المندهشة وأفواهنا المشرعة مشاهد تلك الخلاعة الحيوانية.
وكانت جلساتنا تنتهي عندما يستعيد البدو دوابهم استعدادا للعودة للقرى المحيطة بالمدينة، في الوقت الذي تبدأ فيه تسليات أخرى مع أصحاب «الضاضوص» والرماية والعيطة، ليس العيطة التي يغنيها أولاد المرساوي وإنما العيطة التي يعرفها «القمارة». فقد كانت طاولات «الضاضوص» فرصتنا الوحيدة لربح بعض الدراهم الإضافية لضمان نصف خبزة وبعض القطبان من الشواء وبراد من الشاي وشراء حفنة من «حلوة المكانة» لتكتمل «التسويقة». وقد كانت تلك الدراهم بالنسبة إلي مفيدة في اقتناء بعض القصص المصورة مثل «بليك لوروك» و»زومبلا» و»روديو» وقصص عطية الأبراشي وجرجي زيدان التي اختفت من الأسواق الآن وعوضتها أقراص ألعاب الفيديو حيث يقضي الأطفال وقتهم في قتل خصوم كرتونيين وهميين وفي إحراق مبان ومكتبات لربح النقط والانتقال من مستوى إلى آخر أعقد، في القتل الإلكتروني.
السوق لم يكن فقط مناسبة أسبوعية للتسلية بل كان بالإضافة إلى ذلك فرصة لبعضنا لكي يشتغل، وقد كان المعلمون يتساهلون مع التلاميذ الذين كانوا يضعون حقائبهم المدرسية جانبا لكي يتقمصوا مهنة «بوكتف» ويحملوا السلال ويدفعوا «كراريص التقضية» لعباد الله نحو بيوتهم. ولم يكن طبعا كل التلاميذ الذين يتغيبون عن القسم يصنعون ذلك من أجل العمل بل كان بعضهم يتغيب فقط بسبب حبه الشديد لأسماك «كبايلا» المقلية والتي كانت تتفنن إحدى البائعات، أذكر أن يدها اليمنى كانت مبتورة، في تمريغها في تلال من الطحين المخلوط بالتصفيرة قبل قليها في زيت يعقل على جد النمل.
وقد كان عشاق «كبايلا» المقلية تلك من أبرع اللصوص الذين شاهدتهم في حياتي، إذ كانت أيديهم أسرع من مخطاف البائعة الذي كانت تلوح به في وجه هؤلاء اللصوص الصغار الباحثين عن وجبة مجانية ينازلون بها جوعهم الطفولي.
ومع مرور السنوات فقد سوق «لاربعا» الكثير من علاماته. مات خليفة الذي كان يأتي إلى حلقته الرجال والنساء ليستمعوا إليه يروي حكاية موته، حكايته المفضلة التي ظل يرويها في كل الأسواق. اختفى «الفرم» الذي كان فمه الخالي من الأسنان وحده فرجة تجعلك تنقلب على قفاك من الضحك، واختفت معه ساعات أسبوعية من المرح والسخرية.
لم يعد هناك مكان لتعلم الرماية وقصف أصابع الطباشير ببنادق خفيفة تمنحك نشوة الذاهب في حرب ضد أعداء يقعون على مبعدة نصف متر من فوهة بندقيتك. لم يعد هناك وجود لطاولات «الضاضوص» حيث يمكنك أن تقامر بثروتك الصغيرة في سبيل بضعة دراهم هي كل ما تملك في هذا العالم. ذهب الحجامة الذين يخلصون الناس من دمائهم الثقيلة الزائدة عن اللزوم، وذهب أطباء الأسنان الذين يقتلعون للناس أضراسهم باللقاط من دون حاجة إلى بنج، وذهب الحلاقون الذين يحسنون للبدو بلا ماء.
حتى السوق نقلوه من مكانه ونفوه خارج المدينة.
وقد كان الشيء الذي يغزو السوق بشكل كبير كل صيف هو سيارات عمالنا المقيمين بالخارج الذين يفتحون «الكوفر» ويجلسون فوقه بجانب سلعهم التي يجمعها بعضهم من أزقة المدن التي يقطنون بها أسبوعا قبل جمع حقائبهم والعودة إلى المغرب.
وهكذا، ففي الوقت الذي كان يجب أن يكونوا فيه ممددين فوق فوطاتهم على شاطئ البحر تجدهم مكسلين في الأسواق تحت الشمس منتظرين من يشتري منهم تلك الآلات الغريبة التي هم أنفسهم أحيانا لا يعرفون لماذا تصلح.
ومشكلة بعض هؤلاء المهاجرين أنهم مازالوا يعقلون على مغرب السبعينات حين كانت «مولينيكس» تدخل في إطار الخيال العلمي، لذلك تجدهم واقفين أمام أنواع من السلع التي تبعث على الضحك أحيانا وفي اعتقادهم أن المغاربة المحليين سيشترونها منهم بالثمن الذي يطلبونه.
تلك أسواق انقرضت في بعض المدن، فيما لا تزال صامدة في مناطق أخرى من هذا المغرب الحبيب.
ساحة النقاش