قاموس النخبة
يبدو أن حمى الانتخابات المقبلة أفقدت النخبة السياسية البوصلة، حيث بدأت الأغلبية والمعارضة تتقاذفان الحجارة، وكل فريق يسعى للإطاحة بالفريق الآخر بالضربة القاضية خارج حلبة قوانين الصراع لإزاحته من طريق التنافس على أصوات الناخبين، حتى أن القاموس المستخدم بين السياسيين وصل إلى الدرك الأسفل.
وعوض مناقشة هادئة في الأرقام التي تظل أكثر تعبيرا من الخطب الرنانة، فضل قياديو المعارضة والأغلبية أن يغرفوا من قواميس شعبية رخيصة، لا تزيد اللحظة السياسية المضطربة إلا انفعالا.
وبرغم أن الحكومة هي من يفترض أن تشعر بالتوتر بسبب كل القرارات المؤلمة التي اتخذتها دفعة واحدة بعد الرفع من أسعار المحروقات والزيادة في تسعيرة الماء والكهرباء، إلا أنها تبدو أكثر اطمئنانا لوضعها مقارنة بالمعارضة التي أصبحت تواجه مأزقا وجوديا أكثر من أي وقت مضى.
وبينما كانت أحزاب المعارضة في السابق تستمد قوتها من وضوح الرؤية ومساحة الصراع في مواجهة النظام على عهد الملك الراحل الحسن الثاني، قبل أن يطوي التناوب بقيادة عبد الرحمن اليوسفي مرحلة شد وجذب استمرت عقودا، أصبح ضعف المعارضة اليوم يأتي من ذاتها، حتى باتت تستعصي عليها مواجهة الحكومة.
فحزب الاستقلال لا تزال تتجاذبه نزوعات التشكيك في انتخاب القيادة بزعامة حميد شباط، فيما يواجه الاتحاد الاشتراكي مصيرا أكثر تعقيدا، بعد تناسل الحديث عن انشقاق محتمل داخل الحزب يقوده الغاضبون على الكاتب الأول إدريس لشكر.
ولم ينجح لا عامل الوقت ولا تكتيكات الزعيمين في تضميد الجراح الداخلية الغائرة، ولو كانت الحكومة تمنت وضعا مماثلا لما حصلت عليه حتى لو خططت واشتغلت عليه مليا. وعوض أن تركز المعارضة صراعها في مواجهة الحكومة، شرعت تأكل أطرافها اعتقادا منها أن ذلك كفيل بتصفية خصوم الداخل، أو ما يعرف بالجبهة الثائرة. ولعل ذلك ما جعل رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران يقول في اجتماع الملتقى الجهوي الأول للهيئات المجالية لجهة الغرب الشراردة بني احسن في 28 من الشهر الماضي بالقنيطرة أن المعارضة «خاصها سبيطار»، معتبرا أن المغرب يشهد أزمة معارضة وليس أزمة حكومة.
وحتى لو افترضنا أن بنكيران بالغ في التقدير، مستغلا فرصة تشرذم الساحة السياسية للنيل من أحزاب كانت إلى وقت غير بعيد تحتل المراتب الأولى في الانتخابات، إلا أن القيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي عبد الهادي خيرات ذهب أبعد منه في تحليل وضع حزبه على الأقل، وكان وصفه أكثر حدة، حيث حذر خلال ندوة نظمت في الرباط الخميس الماضي من انفجار الاتحاد الاشتراكي من الداخل، قائلا إن الاتحاد «قرب يتشتت»، وبالنسبة لخيرات فهذه «التشتيتة» لها مهندسوها الذين يوجهون اللعبة من وراء ستار، لذلك اتهم جهات لم يسميها بالتخطيط لشق صف الاتحاديين. قبل أن يضيف متحديا «وشنوا زعما كاع إلى تفركع الاتحاد.. حنا غاديين نتفركعو على مصالح بلادنا».
ورغم أن خيرات طلب من الدولة الرقي بأسلوبها في التعامل مع الأحزاب السياسية، إلا أنه لم يعمل بنصيحته وداس عليها في الحين، فبعدما وصف مسودة الحكومة حول القانون التنظيمي، بأنها «وسخ»، زاد بنعت المطالبين بمشورة المجلس الدستوري بشأن تلك المسودة بأنهم حمير، حيث قال «لي تيمشي للمجلس الدستوري غير حمار»!
والواقع أن خيرات ليس الأول الذي ينهل من قاموس الحمير، فقد سبقه قياديون آخرون أصبحوا يتنافسون على استعمال أحط النعوت لإيصال رسائلهم. إنه السقوط المريع للخطاب السياسي الذي يعكس وجود أزمة حقيقية. وعوض التباري بالبرامج والأفكار، استطابت بعض النخب الحزبية النهل من قواميس سوقية، تعكس درجات منفعلة من التنابز بالألقاب والأوصاف، فلم يعد هناك فكر يطرح للنقاش أو قضايا تثير الجدل علما أن البلاد تعاني من أزمات بنيوية عديدة. وبدل تأمل الصورة والبحث في حلول للمشاكل المستعصية يتردى الخطاب السياسي إلى مستوى الحضيض.
يستحق المغرب بشبابه ونسائه ورجاله وأطفاله نخبا سياسية تعكس حيوية المجتمع وتطلعاته إلى الأفضل. وحين ينحدر الخطاب السياسي يصبح من العبث طرح السؤال حول أسباب العزوف في الإقبال على صناديق الاقتراع.
ساحة النقاش