المساء = عبد الله الدامون
الذّبح.. والذبْح
العدد :2495 - 04/10/2014
مرة أخرى، يأتي عيد الأضحى ولا نفهمه.. نتعامل معه كما نفعل دائما ونسفك دم الخروف ونفترس لحمه ونمرر أيادينا على بطوننا شبعا ونحس براحة ضمير عجيبة لمجرد أننا استطعنا توفير ثمن الخروف.
يأتي العيد ولا نفهم منه إلا ما يشمه الأنف وتحسه المعدة، أما القيمة الروحية العظمى للعيد فذهبت من زمان كما ذهبت أشياء كثيرة أخرى.
نكتشف اقتراب العيد فقط من خلال تلك الروائح التي تحملها الرياح من هنا وهنا، روائح الأكباش القادمة من بعيد، ومن خلال الإعلانات العملاقة على الطرقات لشركات القروض المتوحشة التي حولت اسم «عيد الأضحى» إلى «عيد الخروف»، وذلك حتى يقتنع الناس أكثر بأن هذا العيد هو مجرد يوم للحم والشحم، وليس عيدا برموز روحية إنسانية جليلة.
الكبش الذي هو مجرد رمز للتضحية الإنسانية، في قصة نبي الله إبراهيم وولده إسماعيل، صار هو كل شيء.. هو الغاية والنهاية، فلا معنى فوق معنى قرون الكبش، ولا معانيَ روحية ًتعلو على المعاني والرسائل التي يخلفها دخول كبش كبير بين الأزقة وأمام عيون الجيران.
بائعو الأكباش أدركوا بدورهم هذه «المعاني الروحية» العظيمة للكبش، فصاروا يطعمونها الكثير من الماء المالح والخميرة، وحتى بعض الكوكا كولا، حتى تنتفخ أكثر، وكلما انتفخت الأكباش أكثر ازدادت أخلاقنا وسلوكاتنا اضمحلالا وتقزما.
يقترب العيد فيبيع عدد من الناس أثاث منازلهم ليشتروا كبشا، ويقترض آخرون أو يتدبرون المال بكل الوسائل المشروعة والمحرمة، وكثيرون من هؤلاء لا يؤدون حتى الفرائض الواجبة، وفي عيد الأضحى يمارسون حربا ضد أنفسهم وضد العالم من أجل شراء كبش وإنجاز سنة مؤكدة.
في العقود الماضية، كان كثيرون يحسون براحة عجيبة حين كان الحسن الثاني يعلن، في خطبة إلى شعبه العزيز، عن إلغاء العيد. كان الناس يتصرفون وكأن أمرا إلهيا نزل من السماء وأعفاهم من مشقة العيد. اليوم، توقفت تلك الأوامر «الإلهية»، والناس الذين لا يحبون العيد لا يمتلكون الشجاعة لكي يريحوا أنفسهم ويقرروا من تلقاء أنفسهم إلغاء عيدهم بدون «أمر إلهي».
في الأعياد الكبيرة للأمم الكبيرة، يصبح العيد وجها للشعب، والشعب مرآة لعيده. نحن حوَّلنا عيد الأضحى إلى مرآة لحمقنا وتخلفنا ووساختنا، لقد جعلنا منه يوما وطنيا لتحويل مدننا إلى مزابل وسلوكاتنا إلى مهازل.. نذبح الكبش أمام الكبش ونسلخ الخروف قبالة الخروف، وكأن «إن ذبحتم فأحسنوا الذبحة» مجرد نظرية من دخان تشبه عبارة «ويّاكم من الرشوة».
قبل العيد وبعده نصر على أن يكون العيد رمزا للهمجية والوساخة فنحول مدننا وقرانا إلى ساحات وغى، بينما القليل من النظام بإمكانه أن يفي بالغرض ويجعل من عيد الأضحى مناسبة نبرز فيها تحضرنا ورقينا.
أتذكر أنني، قبل سنوات، قضيت أيام عيد الأضحى في بلد عربي.. كنت أرى الناس قبل العيد يقتادون الأكباش نحو منازلهم وتوقعت مشاهد مشابهة لما يحدث عندنا. لكن مفاجأتي كانت ثقيلة حين كنت أتجول بالمدينة صباح العيد، إذ لم أجد ولا مواطنا واحدا يذبح أضحيته في الشارع، ولم أجد كومة أزبال واحدة على الرصيف، ولم أر دخانا يتصاعد من سطح منزل، ولا رأيت رجلا واحدا متسخا بالدم يجري في الشارع كأنه هارب من مكان الجريمة، ولا وقعت عيني على امرأة تدفع بالماء الوسخ من منزلها نحو الشارع، وأكثر من هذا، لم أر سيارة أمن واحدة تطوف في الشوارع لمعاقبة المخالفين.
ليس هناك أي سر في الموضوع، فهناك قوانين صارمة تمنع الناس من الذبح في الشوارع، والغرامات ثقيلة جدا على المخالفين. هناك قوانين تمنع أيضا رمي الأزبال في أي مكان، إلى درجة أن من يفعلها قد يجد نفسه خلف القضبان،وتطبيق القانون بصرامة جعل الناس يفرضون على أنفسهم رقابة ذاتية كبيرة، ولم تعد الشرطة في حاجة إلى التجوال بين الشوارع والأزقة لمراقبة المخالفين لأن من يفعلها سيفتضح أمره فورا.
نحن لا نحتاج إلى أن تنزل علينا معجزة من السماء ونتصرف بهذه الطريقة، لقد ضيعنا السلوك والأخلاق من زمان لذلك. لا بد من سيف القانون،لكن من سيطبق ذلك القانون،لأن من يزرعون الفوضى هم أولئك الكبار الذين يتركون الصغار يلعبون ويفعلون ما يشاؤون حتى تعم الفوضى في كل شيء، وفي الفوضى الشاملة يربح الفوضويون الكبار أكثر بكثير مما يبرح الفوضويون الصغار.
البلاد الفوضوية التي يفعل فيها الجميع ما يشاؤون هي بلاد لا أمل في مستقبلها على الإطلاق؛ فالصغار يذبحون الأكباش كما يشاؤون، والكبار يذبحون الصغار كما يريدون.
ساحة النقاش