فلاش بريس = محمد الأشهب
رماد الربيع العربي
أكثر المؤتمرات جذبا للاهتمام هذه الأيام، تتوزع على قضايا عربية وإسلامية، من البحث في الوسائل العسكرية والأمنية والسياسية للقضاء على ما يعرف بدولة الخلافة الإسلامية في العراق وسوريا، إلى الغوص في المستنقع الليبي، أملا في إقامة دولة المصالحة والاستقرار. ومن فرض منطق الحوار على الفصائل المتناحرة في اليمن إلى الانشغال بتداعيات «أفغانستان الإفريقية» في منطقة الساحل جنوب الصحراء.
القاسم المشترك بين هذه النزاعات الإقليمية أنها أفسحت المجال أمام تمدد تنظيمات سيطرت على الأرض والعقول، في غياب دولة المؤسسات التي كان في وسعها استيعاب كافة التناقضات وتحقيق انتقال ديمقراطي سلس. فقد خرجت «داعش» من رحم الطائفية المذهبية التي أدخلت العراق في نفق مظلم، وانبثقت حروب الفصائل الليبية من العجز الكبير في إدارة المرحلة الانتقالية، وتدخل أطراف خارجية، فيما لم تتخلص اليمن من ثأر العقلية القبلية.
أين كان كل هذا الرماد الذي اشتعل فجأة بعد انهيار أنظمة ديكتاتورية فرضت القبضة الحديدية لإخفاء تشوهات بنيوية عميقة؟ كيف تحولت ثورات روجت لأحلام التغيير والارتقاء إلى قبائل تأكل بعضها وتستلذ باللحم النيئ على مرأى ومسمع من العقل والوعي الغائبين؟ ما من شك في أن الظواهر التي لا تنشأ من فراغ لها أسباب وخلفيات وفرضيات، أقربها انهيار أطروحة التغيير القادم من الخارج. أكان في شكل غزو التحالف الغربي للعراق الذي أدى ضمن تداعياته إلى استباحة بلاد الرافدين، أو في شكل تدخل حلف الناتو الذي خلص ليبيا من استبداد العقيد القذافي، ولم يخلصها من ديكتاتورية السلاح والعصبية والاقتتال.
ليس صدفة أن الدول التي عرفت موجة تغييرات ذات طابع سلمي، كانت أقل عرضة لهكذا اضطرابات، كما حدث في تونس أو مصر، مع فارق في التجربتين والمسارين. وليس صدفة أن سوريا تحولت إلى مرتع حرب باردة جديدة دمرت البلاد والعباد، بفعل تداخل عوامل إقليمية ودولية، تمتد من الشرق الأوسط إلى أوكرانيا. وبينما كان يعول على أن تحمل رياح التغيير من الداخل أو الخارج التي هبت على المنطقة العربية بوادر أمل وانبعاث ثقة في التحول الديمقراطي المنشود، هوت العملية جراء عوامل عدة إلى قاع البئر، وانتقلت من حلم بالتغيير إلى حروب تخاض مباشرة أو بالوكالة، تلتقي عند نقطة محورية، وهي أن مسرحها هو العالم العربي والإسلامي.
لا يمكن إلغاء النتائج التي أسفرت عنها تدخلات عسكرية خارجة عن تكييف الواقع الراهن، فالأزمة في العراق قبل أن تكون بين «داعش» وكل العالم المتحضر الذي ينبذ الإرهاب وهدر أرواح الأبرياء على الهوية الطائفية والمذهبية، هي نتاج التقسيم الذي فرق بين الشيعة والسنة والأكراد. فقد تعرض العرب السنة إلى تهميش وإقصاء غذته نزعات مذهبية، بخاصة في ظل هيمنة الوجود الشيعي الإيراني على البلاد، ولولا بوادر التقسيم الذي عززته سياسة المحاصصة الطائفية لما كان لذلك الاصطفاف أن يحدث، وإن بطريقة تتسم بكثير من المغالاة والتطرف والاستغلال الديني.
في ليبيا أيضا، تحالف انهيار النظام والفراغ وفوضى انتشار السلاح مع النزعة القبلية التي كان يعزف عليها النظام البائد، وتمكنت أطراف خارجية من استخدام نفوذها خلال فترة دعم الثورة لفرض أنماط وجماعات وتنظيمات موالية، تتحرك على إيقاع صفارة فاعلين، من غير أبناء الشعب الليبي. والحال أن أزمة اليمن لا تبتعد كثيرا عن خطوط التماس بين صراعات إقليمية متنامية.
فشلت خطة التغيير القادم من الخارج بكل المعايير والمقاسات، وعادت الأوضاع إلى نقطة الصفر، واللافت أنه في الوقت الذي لم يكن فيه التدخل الخارجي مقبولا، أو مشكوكا في خلفياته وأهدافه، أصبح اليوم مطلوبا من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، الليبيون على مستويات رسمية وشعبية يودون تدخل الأمم المتحدة، وإن عسكريا للتخلص من أسر الميليشيات المسلحة التي تتحكم في المطارات والمعابر ومناحي الحياة وتدفق النفط وحتى الاجتماعات عبر إقامة تحالفات أكبر استقرت عند دعم التدخل العسكري لوقف تهديدات «داعش» ولجم تمددها المخيف، كما ممارساتها الوحشية التي لا تقيم وزنا لإنسانية الإنسان في ذاته وقيمه ومكانته.
إلى أي مدى يمكن للتدخل الخارجي أن يحقق أهدافه؟ المسألة رهن الأوضاع على الأرض، وفي مقدمتها أن يقرر العراقيون أو الليبيون أو اليمنيون أو السوريون في مصيرهم كما يرتضون، من أجل عودة الأمن والسلم أولا.
ساحة النقاش