فلاش بريس=رشيد نيني
التْمَكريهْ
دائما كنت أقول مع نفسي إن ما يعوزنا في هذه البلاد ليس الإمكانيات، ولكن التخلص من رياضة وطنية اسمها «التمكريه».
و«التمكريه» لا يمارسه بعض المسؤولين على المغاربة بل يمتد ليشمل كافة المجالات. ولذلك فسياسة «التمكريه» وقاعدة «جوع كلبك يتبعك» و«خلي بنادم يتلاهى غير مع كرشو ومع مرضو»، تفرض نفسها.
و«التمكريه» يظهر على أوجه كثيرة وفي صفات متعددة.
مثلا، يجب أن يتركوك بلا عمل، لكي يتباهوا أمامك بربطات عنقهم وهم متجهون صباحا إلى سلالمهم الإدارية حيث تنتظرهم وظائفهم السامية.
يجب أن يتركوك بلا علاج لكي يتباهوا أمامك بوجوه نسائهم «المجبدة» بالعمليات التجميلية التي يقومون بها في مصحات خمس نجوم بالخارج.
يجب أن يتركوك بلا بيت لكي يتباهوا أمامك بفيلاتهم الفسيحة، حيث باب الحديقة وحده يساوي عمرك كاملا من العمل في سلمك الإداري الحقير.
يجب أن يتركوك بلا سيارة لكي يمروا أمامك بخيلاء، محركين بين أصابعهم المشمولة بعناية «المانيكير» مفاتيح سياراتهم الفارهة، بعد أن يكونوا قد وزعوا أبناءهم على كراسي المسؤولية في المؤسسات العمومية.
يجب أن يتركوك جائعا أبدا، حتى لا تشبع في كرشك، فالكرش عندما تشبع تقول للرأس غني، وهم يريدونك دائما حزينا وبائسا لا تغني سوى في الحمام من شدة القنط.
يجب أن يتركوك بلا أمل حتى ترى الحياة أضيق من ثقب إبرة، وتقول في نفسك ما أضيق الحياة لولا فسحة القبر. مع الاعتذار للطغرائي صاحب «لامية العرب» على هذا التحوير الذي اقتضته الضرورة غير الشعرية.
يجب أن يتركوك بلا كرامة لكي يقضوا وقتهم يتلهون في تمريغك في التراب دون خوف من أن تغضب وتشهر أظافرك في وجوههم السمينة.
يجب أن يتركوك بلا أمن لكي يستمتعوا بقراءة أخبارك في الجرائد في اليوم الموالي، عندما يكون قد اعترض سبيلك قطاع الطرق وجردوك من محفظة نقودك، وربما جردوك من حياتك أيضا.
يجب أن يتركوك تحت السباط لكي يشعروا بأنهم يسحقون شيئا بينما يمشون، فينتشون بصوت حطام عظامك الشبيه بصوت صرصار داسه حذاء ثقيل في شارع مظلم.
يجب أن يتركوك بلا كبرياء لكي تتعود على المهانة والعبودية والخنوع، حتى إذا رأيتهم شعرت بنفسك صغيرا جدا وحقيرا جدا وأنك خلقت لكي تكون دائما في خدمتهم.
يجب أن تكون أنت العبد ويكونوا هم الأسياد، أن تكون أنت التراب وهم الذين يمشون فوقه، أن تكون أنت جندي الخفاء الذي يضحي بوقته لكي يصنع كل شيء، وأن يكونوا هم الذين يأتون في آخر لحظة ويقطعون الشريط الأحمر ويلتقطون الصورة وينصرفون متثاقلين يجرجرون أجسادهم المترهلة وخطواتهم المتعبة من شدة السهر.
يجب أن يتركوا زقاقك الحقير بلا نظافة لكي تشعر بقذارتك وعندما تمر من شوارعهم الواسعة والنظيفة تفهم أنك لا تشبههم، فتقتنع أنك خلقت وسخا وستعيش وسخا إلى أن تموت في أوساخك.
يجب أن يتركوك مرميا في الشارع تنتظر سيارة الإسعاف، وعندما يأخذونك إلى المستعجلات يجب أن يتركوك مرميا في الباب تنتظر أن يرق قلب أحدهم لكي يمنحوك قطرة الدم التي تحتاجها لكي تعود إلى حياتك التعيسة، وتتابع حياة العبد التي تنتظرك خارج أسوار المستشفى القذر الذي أخذوك إليه.
يجب أن يتركوا أبناءك بلا تعليم حقيقي لكي يكون أمامهم الوقت الكافي لتعليم أبنائهم في الخارج، وبعد سنوات يتخرج أبناؤهم مباشرة نحو المناصب العليا بينما يتخرج أبناؤك مباشرة إلى الشارع.
يجب أن يتركوك بلا ثقة في وطنك لكي تجمع حقائبك وتذهب وتتركه لهم بمفردهم.
يجب أن يتركوك بلا رجولة لكي تصبح مستعدا لبيع بناتك لضيوفهم الأثرياء القادمين من دولهم الشقيقة والصديقة.
يجب أن يتركوك بلا أنياب حتى يطمئنوا إلى أنك لن تنشبها في أذرعهم عندما سيمدونها خلسة إلى جيبك.
يجب أن يتركوك مخدوعا فيهم إلى الأبد، حتى لا تفطن إلى بشاعة وجوههم وتكتشف كل العفونة التي تعشش في قلوبهم.
يجب أن تفهم أنك خلقت لكي تعيش فقط، أما هم فخلقوا لكي يحيوا.
يجب أن تفهم أنك خلقت لكي تنظر فقط، أما هم فخلقوا لكي يروا كل شيء.
يجب أن تفهم أنك خلقت لكي تكافح، أما هم فخلقوا لكي يجنوا ثمار الكفاح.
يجب أن تفهم أنك رضعت حليب أمك، أما هم فرضعوا من حليب السباع، ولذلك عندما كبروا أصبحت لهم كل هذه المخالب التي تمزقنا كل يوم، وكل هذا الزئير الذي يخيفنا كلما فكرنا في مغادرة أسوار حديقة الحيوانات المفترسة هذه.
يجب أن تفهم كل هذا، وفي المقابل يجب أن يفهموا هم شيئا واحدا:
حذار، فالكلب الذي نتعود تجويعه لكي يظل دائما تابعا قد يستدير ذات يوم عندما سيصيبه السعار، ويشهر أنيابه الحادة في وجوهكم السمينة!
ساحة النقاش