http://kenanaonline.com/AAC-ES-SMARA

الفرع المحلي للجمعية الوطنية لقدماء المحاربين بالسمارة

 

 

 

محمد الأشهب

 

كاتب و صحفي

 

ثورات لتغيير الجغرافيا

 

في فترة حصارها على امتداد سنوات، تحولت الحدود الشرقية والغربية والجنوبية في ليبيا إلى مراكز حيوية، يتطلع من خلالها الليبيون إلى ما يجري خارج بلادهم. وتنامت عبرها حركة التجارة والتهريب وكل أشكال الأنشطة التي تنشأ جراء الحصار وإغلاق الأجواء أمام الطائرات.
كان الداعون إلى فك الحصار عن نظام العقيد القذافي يتجهون عبر الحدود مع تونس غربا، ومن مصر شرقا، فيما كان المستفيدون يودون سرا أن يطول الحصار. لأن كم من نقمة على البعض فيها نعمة لآخرين. فالمال الليبي يبرق من بعيد، وكذلك النفط الذي يعتبر من بين الأجود في معيار الذهب الأسود. غير أن الحدود التي استقطبت حركة التجارة هي ذاتها اليوم التي أصبحت مرتع مخاوف ومخاطر، جراء الانفلات الأمني وتدهور الأوضاع وغياب السلطة. ولم تكن حرب مطار طرابلس المتواصلة أكثر من صورة مصغرة لرغبات تدميرية تنشد السيطرة على الأجواء بعد احتلال الموانئ والمعابر وإقامة معسكرات مسلحة خارج أي رقابة.
ذات الحدود التي كان يصفها العقيد معمر القذافي أنها مجرد بوابات، يوم كان يروج لوحدة بلاده مع أي دولة أخرى شرقا وغربا، هي التي عرفت نزاعات مع مصر وتونس والجزائر. ثم انتقلت اليوم إلى درجات المخاطر، فصار التلويح بإغلاقها خيارا مطروحا لتجنب مضاعفات الأزمة الليبية التي يصعب التكهن بالمدى الذي يمكن أن تصل إليه، في ظل الفوضى والاضطرابات التي تغذيها نزعات متشددة في الداخل والخارج. ما يدفع متشائمين إلى معاودة استحضار سنوات الحصار في اتجاه معاكس. فالبلد الذي كان يقول عنه زعيمه الراحل بأن من ليبيا «يأتي دائما شيء جديد» أصبح ذلك الجديد مرادفا للاقتتال والفتنة واستباحة الأرض والسماء وأرواح الأبرياء الضحايا.
لا يتوقف التأثير السيئ جدا للأزمة الليبية على أوضاع البلاد الداخلية، بما هي عليه من تدهور وفوضى ومصير مجهول، بل يتجاوزها إلى الجوار الإقليمي. وقبل أسابيع انفلتت تصريحات أميطت بها الشكوك نسبت إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حول إمكان التدخل عسكريا في الجزائر. فقد جرى نفيها، لكنها في جوهرها اليوم تحيل إلى الحاجة إلى تدخل ما من أي طرف لوضع حد للاقتتال الداخلي في بلاد ما بعد ثورة 17 فبراير التي أطاحت بنظام القذافي وأقبرت معه مصالح الدولة، وإن كان الاعتقاد السائد أن دولة العقيد الراحل لم تكن تنطبق عليها مواصفات الدولة.
بيد أن المخاوف الناشئة حيال اختفاء طائرات ليبية، في ظل تبني الكثير من الأطراف للضربات الجوية التي ركزت على بعض معاقل «الثوار» تفيد بأنها على قدر كبير من الجدية. فما من دولة قابلة لأن تصنف في هذه الخانة، يمكن لطائراتها أن تختفي بهذه الطريقة. وربما كان لغز الطائرات الوحيد هو ما حدث في العراق إبان حرب الخليج الثانية، حين كان ربابنة الطائرات العراقية يحلقون في سماء بغداد ثم ينعطفون للهبوط والرسو في مطارات إيران، البلد الذي حارب العراق سنوات. وحين توقفت تلك الحرب ورغب العراق في استعادة طائراته المهربة قيل له أنها أصبحت أشبه بفدية لأداء ثمن التورط في الحرب على إيران. ولم تعد الطائرات العراقية أبدا، حتى عندما أصبحت إيران المهيمن رقم واحد على أوضاع العراق بعد سقوط نظام صدام حسين.
لا فرق في العمق بين حالتي العراق وليبيا. فقد وقف العالم يتفرج على اكتساح الدولة الإسلامية المتطرفة، وهي تزحف في اتجاه بغداد، على رغم رسوخ الاعتقاد بأنها حركة إرهابية تفرض طقوسها المناخية لقيم التعايش والسلم والإخاء. وحين لامست الخط الأحمر في سعيها للاقتراب إلى كردستان العراق حدث رد الفعل الذي لا يقاس بمستوى المخاطر. كذلك انسحب الموقف على ليبيا، بعد سيطرة الميليشيات على منابع النفط والمطارات والموانئ، ولولا أن السفير الأمريكي قتل في بنغازي لاستمرت اللامبالاة بالمأساة الليبية، طالما أن ضحاياه ليبيون يقتتلون فيما بينهم.
هل هي الفوضى الخلاقة وصلت إلى الحد الذي لا يمكن بعده توقع المزيد، أم أن عمليات التخريب ستتلاحق فصولها لتشمل مناطق أخرى. فالذين رسموا الحدود بين الدول في غرف مغلقة، وهم يحتسون القهوة السوداء، لم يكن يعنيهم أن يستحيل السواد إلى دماء حمراء ومبان مهدمة وإعمار تلهث الشركات المختصة وراء الإمساك بصفقاته خلال فترة ما بعد الحرب.
إنه المصطلح الغريب الذي ساد مفعوله. إذ يجري التبشير دائما بالإعمار القادم على خلفية الدمار، وما حدث إلى اليوم أن أي خطة إعمار من أفغانستان إلى العراق وصولا إلى غزة استطاعت الوقوف بأرجلها على الأرض. بينما المتقاتلون من شتى القبائل السياسية والطائفية لا يفعلون أكثر من إغراق بلدانهم في جحيم لا يطاق، محوره تدمير الأرض والإنسان.
لتكن البداية من تأمين الحدود، فهي أقل الأضرار الممكنة، لولا أن الحدود بين كثير من البلدان العربية لا تنتظر سوى النبش في ذاكرة خلافات عميقة. وما على دول الجوار الليبي سوى أن تكون مستعدة لتقبل نتائج الجوار، فقد جاءت ثورات ما يعرف بالربيع العربي لتغير التاريخ، وإذا بها تسقط في تغيير الجغرافيا.

 

المصدر: فلاش بريس = محمد الأشهب
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 17 مشاهدة
نشرت فى 21 أغسطس 2014 بواسطة AAC-ES-SMARA

ساحة النقاش

الفرع المحلي للجمعية الوطنية لقدماء المحاربين بالسمارة

AAC-ES-SMARA
»

أقسام الموقع

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

281,504