إلنيني
طلب مني بعض الأصدقاء أن أنشر توضيحا للقراء أقول لهم من خلاله إنني لست هاربا ولم أتعرض لإطلاق نار في المياه الدولية بين المغرب وإسبانيا، وأن «إلنيني» بارون المخدرات الذي تتحدث عنه الصحافة ليس هو «نيني» الصحافي.
والناس معذورون في ذلك، فقد اختلط عليهم الأمر بسبب العناوين الكبيرة الصادرة في الصحافة الورقية والتي نشرت طوال الأيام الأخيرة مانشيطات ضخمة حول فرضية «مقتل النيني»، وحول «والدة النيني التي تطالب بفتح تحقيق حول اختفاء ابنها»، وما إلى ذلك من العناوين. حتى إن جريدة زادت في العلم وعوض أن تنشر اسم البارون بالألف واللام في عناوينها نشرته مجردا منها فأصبح عنوانها الرئيسي هو «التفاصيل الكاملة لمقتل نيني».
والمصيبة أنهم يكتبون اسم البارون في العنوان مجردا من أداة التعريف بينما داخل المقالات يكتبونه معرفا بالألف واللام. مما يدل على أن وراء العملية رغبة في استغلال اسمي لرفع المبيعات. وهي عملية تعودت عليها منذ سنوات، فكل من أراد أن يشهر موقعه أو جريدته يكتب مقالا سخيفا ويضع اسمي في عنوانه، لمعرفتهم المسبقة أن مقالاتهم لن يكلف أحد نفسه الضغط عليها لقراءتها لو لم يكن اسمي في عنوانها.
وكم موقع اشتهر واحتل الريادة بفضل أكله لحمي نيئا طوال سنوات من نشر الأكاذيب والبهتان حولي وحول أسرتي، حتى أن سيدة محترمة مؤخرا سألتني ما إذا كنت فعلا أتوفر على يخت ومطعم في ماربيا كما قرأت في مكان ما، فقلت لها إنني كنت سأكون سعيدا بامتلاك هذه الأشياء مثل كل الصحافيين الكبار في العالم، لكنني لا أتوفر على أي شيء في إسبانيا ولا في أي مكان آخر من العالم. كل ما أتوفر عليه لائحة طويلة من الأحكام القضائية والغرامات وحسابات بنكية محجوزة إلى اليوم.
وكم من قرصان جمع المال على حساب اسم «رشيد نيني» الذي اكتشفت أن البعض جعل منه application يعرضها للبيع على الهواتف الذكية. ولو أردت أن أحكي لكم كم قضية وشكاية قدمنا من أجل أن نسحب هذه البرامج والصفحات التي تستغل اسمي للربح المادي لاحتجت إلى أعداد كثيرة من هذه الجريدة.
لذلك كان جوابي الوحيد على كل طلبات الأصدقاء بأن أنشر توضيحا حول قضية «النيني» هو ابتسامة ساخرة، فالناس يعرفون كيف يميزون بين «البزناس» والصحافي، ولو أنه في المغرب أصبح مؤخرا من الصعب التمييز بين الوظيفتين، خصوصا مع وجود صحافيين «يبزنسون» في كل شيء. بعضهم لم يعد قادرا على التمييز بين دفتر ملاحظاته ودفتر شيكاته وأصبح المسكين غارقا وسط رؤوس الأموال عوض رؤوس الأقلام.
لكن عندما قرأت أن قصة حياة بارون المخدرات «إلنيني»، وتعني بالإسبانية الطفل الصغير، ستعرض على شاشة السينما بعدما تم تحويلها إلى فيلم، أصبت حقيقة بنوع من الصدمة.
وقلت في نفسي إن جيراننا لا يحبون قصص النجاح عندما يكون أبطالها مغاربة يمارسون مهنا شريفة، ويبحثون فقط عن قصص نجاح المغاربة الذين يعيشون على عائدات الإجرام.
وتساءلت مع نفسي لماذا يتحاشون قصة «نيني» المهاجر السري الذي عاش على أرضهم ثلاث سنوات بدون أوراق إقامة واشتغل في كل المهن والحرف التي يمكن أن تخطر على بال، وعايش مآسي المهاجرين وكتب حول تجربته كتابا ترجم إلى لغات عدة، وفي المقابل يتحمسون لقصة «إلنيني» بارون المخدرات الذي اشتغل طوال حياته الماضية في نقل السموم بين الضفتين؟
الجواب واضح، إنهم لا يريدون عكس صورة مشرفة عن المهاجر المغربي الذي يعود إلى بلاده ويفرض ذاته ويجد له مكانا تحت الشمس وسط أقرانه معتمدا على الله وعلى نفسه، وبالمقابل يريدون ترسيخ صورة المغربي تاجر المخدرات في مخيلات المواطنين الإسبان، وهم يعرفون أنه ليس هناك أفضل من السينما للقيام بهذه المهمة.
إذا كان بارون المخدرات «إلنيني» قد عاش فقيرا ومهمشا في إسبانيا وحصل على جنسيتها واستطاع أن يتحول إلى ثري بفضل تجارة المخدرات والتهريب، فإن «نيني» عاش هو أيضا في إسبانيا فقيرا ومهمشا، غير أنه اشتغل بعرق جبينه ولم يتاجر في المخدرات كما كان أقرانه يفعلون لكي يغتنوا بسرعة ويعودوا في الصيف على متن سيارة فارهة محملين بهدايا لم يسأل أحد من أقاربهم كيف استطاع ابنهم توفير المال لشرائها.
إذا كان «إلنيني» نجح في التحول إلى نجم وجلب إليه أضواء الشهرة، فإن «نيني» نجح أيضا في حفر اسمه بأظافره في المشهد الإعلامي المغربي والدولي واستطاع أن يؤسس الجرائد والمجلات الأكثر إثارة للجدل والأكثر مقروئية في تاريخ المغرب.
إذا كان «إلنيني» اعتقل بسبب تجارة المخدرات وفر من السجن الذي كان يعيش داخله حياة الملوك، فإن «نيني» اعتقل هو أيضا بسبب كتاباته وعاش معزولا في زنزانة انفرادية بحراسة خاصة طيلة سنة، أراد البعض أن يقنع الناس بأنها كانت نزهة سياحية.
إذا كان «إلنيني» قد استطاع بعد السجن أن يعيد بناء «أسطورته» بعدما غادر المغرب باتجاه إسبانيا التي استرجع فيها جنسيته وثروته فإن «نيني» أصر بعد السجن على البقاء في المغرب لأنه لا يحمل جواز سفر آخر غير جوازه المغربي، وأعاد بناء شظايا ذاته واسمه بصبر وأناة.
فلماذا إذن تستهويهم قصة «إلنيني» تاجر المخدرات ولا تستهويهم قصة «نيني» الصحافي؟
ببساطة لأن قصص الفشل تبيع أكثر من قصص النجاح. وقصة البارون«إلنيني»هي قصة فشل اجتماعي وتربوي بامتياز لمجتمع لم يستطع أن يربي أحد أبنائه فتحول إلى خصم شديد الخطورة على مستقبله ومستقبل شبابه.
في المحافظة الإسبانية التي كنت أعيش فيها متخفيا نهاية التسعينات، كان الكثير من سكان المدينة الذين يفتخرون بدمائهم العربية القديمة التي تركها أجدادهم الذين استوطنوا الأندلس، يتسابقون لكي يلعبوا دور العربي في حفل «موروس وكريستيانوس» السنوي. وأذكر أن عمدة مدينة «خابيا»، إحدى المحافظات بمنطقة أليكانتي، كان يتفاخر بلعب دور الملك المسلم ويصرف على الاحتفال الذي يقام في مدينته مبالغ طائلة حتى تكون الألبسة العربية والزرابي المبثوثة في الطرقات أحسن من تلك التي سيعرضها الملك المسيحي.
وقد كانت احتفالات «موروس وكريستيانوس» إحدى أجمل الاحتفالات التي تابعتها طيلة ثلاث سنوات خلال وجودي بإسبانيا. ولكم أن تتخيلوا منظر مهاجر سري بلا أية وثيقة تسمح له بالتواجد فوق أرض أجنبية، يتابع احتفالا يروي جزءا من تاريخ أجداده الذين حكموا لثمانية قرون الأرض نفسها التي جئت لأعمل عند أصحابها.
كنت أرى نظرات الإعجاب على وجوه السياح الإنجليز والألمان وهم يفتحون أفواههم مندهشين من جمال أزياء الجنود المسلمين وهم يمرون راكبين خيولهم رافعين رايات مكتوبا عليها «لا غالب إلا الله». وكم مرة وددت لو أشرح لهم أنني أنحدر من سلالة هؤلاء الجنود، وأن أجدادي كانوا يحكمون هذه الأراضي قبل قرون خلت. لكنني كنت أعود وأقول بأنهم سيشكون في أمري وسيعتقدون أنني واحد من أولئك المغاربة المحتالين الذين يحترفون جذب السياح إلى الحديث لكي يسرقوهم في ما بعد.
وكم مرة تابعت الاحتفال وأنا أوزع بصري بين أزياء فيالق الجنود المسلمين والمسيحيين الذين يسيرون بالتناوب في الشوارع، وبين جموع المتفرجين بحثا عن أزياء رجال الشرطة المكلفة بالمهاجرين لكي أتبخر في الوقت المناسب.
وقد كانت غربتي في تلك اللحظات غربة مضاعفة، غربتي في أرض ليست أرضي، وغربتي أمام سرد لتاريخ أجدادي القادم من الماضي أتابع مجرياته وكلي خوف من أن تلقي علي شرطة الأجانب القبض بتهمة العيش في حاضر بدون تصريح يسمح لي بذلك.
أليست هذه اللقطة وحدها لقطة مؤثرة ودالة في فيلم سينمائي ناجح، عوض لقطات القوارب السريعة التي تنقل المخدرات بين الضفتين والتي يحبل بها فيلم «إلنينيو» الذي يحكي حياة «إلنيني» سينمائيا؟
ساحة النقاش