عبد الباري عطوان
من اكبر النكسات التي لحقت بالشعب الفلسطيني منذ بدء العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة، أن يتحول الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى واحد من الوسطاء الذين يسعون إلى وقف هذا العدوان جنبا إلى جنب مع بان كي مون أمين عام الأمم المتحدة، وجون كيري وزير الخارجية الأمريكي وآخرين.
استمعت اليوم إلى تصريحات أدلى بها السيد عزام الأحمد عضو اللجنة المركزية لحركة “فتح” والذراع الأيمن للرئيس عباس التي قال فيها “إن القيادة الفلسطينية قدمت اقتراحا في إطار المبادرة المصرية للتهدئة في غزة، يتضمن وقف إطلاق النار يعقبه مفاوضات تستمر خمسة أيام”، وأضاف “أن مصر لم تمانع بالنسبة لهذا الاقتراح”.
السيد الأحمد ينطبق عليه المثل الذي يقول “وأخيرا فسر الماء بالماء”، فالمقترحات التي يتحدث عنها لا تتضمن أي جديد وتأتي تكرارا لجوهر المبادرة المصرية، باستثناء وضع سقف زمني للمفاوضات بين وفد المقاومة المفاوض من جهة، والوفد الإسرائيلي من جهة أخرى عمره خمسة أيام فقط.
المسؤولون في السلطة الفلسطينية “مهووسون” لشيء اسمه المفاوضات وآلياتها وأسقفها الزمنية، وكأن خبرتهم “الطويلة جدا” في هذا الميدان “وردية” و”مثمرة” يجب اقتداء الآخرين بها، وفصائل المقاومة على وجه الخصوص.
السيد الأحمد ورئيسه وزملاؤه في السلطة يفاوضون إسرائيل منذ اثنين وعشرين عاما، أي منذ بدء مفاوضات أوسلو ومع ذلك لم يحققوا أي تقدم بل ما حدث هو العكس تماما، فقد انكمشت مساحة الأرض التي كانوا يفاوضون من اجل استرجاعها بمقدار الثلث، وارتفع عدد المستوطنين إلى 700 ألف مستوطن وأصبحوا دولة مستقلة بذاتها، وأرقامهم ورقعتهم الاستيطانية في تزايد وتحظى بحماية السلطة وقوات أمنها.
فصائل المقاومة الفلسطينية التي تتصدى برجولة مشرفة للعدوان الإسرائيلي تعرف هذه الحقائق، وتستوعب دروس فشل السلطة بشكل معمق ولا تريد الوقوع في مصيدتها، ولهذا ترفض رفضا قاطعا أي مفاوضات بعد وقف إطلاق النار وتريد اتفاقا متكاملا واضح المعالم يلبي مطالبها وهي محقه تماما في هذا الموقف، وتجد تأييدا مفتوحا من الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني (باستثناء السلطة) بما في ذلك اسر الشهداء والجرحى الذين لا يريدون أن تذهب دماء أبنائهم سدى.
***
ندرك جيدا، قبل أن يسارع البعض بالقول بأن كل يوم يمر دون وقف الحرب يعني المزيد من الشهداء والجرحى، إن وضع أهلنا في قطاع غزة صعب جدا في مواجهة عدو يتعمد قتل الأطفال وتدمير البيوت، أو ما تبقى منها، فوق رؤوس أصحابها، ولكننا ندرك في الوقت نفسه أن القيادة الإسرائيلية المهزومة والمرتبكة، تريد استخدام مجازرها كورقة ضغط على فصائل المقاومة لإجبارها على رفع الرايات البيضاء والتنازل كليا عن مطالبها العادلة في رفع الحصار.
القبول بوقف إطلاق النار ثم الذهاب إلى مصيدة المفاوضات التي جرى نصبها بإحكام، يعني الدخول في متاهة لا مخرج منها، والقول بان هذه المفاوضات ستنتهي في خمسة أيام حول قضايا سياسية وفنية معقدة مثل فخ المعابر والمطار والميناء وإعادة الإعمار، وإنهاء المنطقة العازلة الحدودية البرية وفتح البحر أمام حرية الصيد، هو ضحك على الذقون واستخفاف بالعقول، لان بحث هذه القضايا، منفردة أو مجتمعة، والاتفاق عليها، مع عدو مراوغ مبتز يحتاج إلى خمسة قرون وليس خمسة أيام، وكبير مفاوضي السلطة الدكتور صائب عريقات ورئيسه أول من يعرف هذه الحقيقة.
ثم بعد ذلك نأتي إلى مسألة في غاية الخطورة والأهمية معا، وهي مسالة الضمانات بشأن التزام الطرف الإسرائيلي بالاتفاقات التي يمكن أن تتبلور من خلال هذه المفاوضات، وآليات تنفيذها على الأرض، فالرئيس عباس ومعاونوه اعتمدوا على الضمانات الأمريكية في وقف الاستيطان، والإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، وإنهاء مفاوضات الوضع النهائي في غضون تسعة أشهر، فأين هذه الضمانات الأمريكية، وهل التزمت بها أمريكا الدولة الأعظم وأجبرت حليفها الإسرائيلي على تنفيذ ما تعهد به؟ ألم يغسل جون كيري الذي يتواجد حاليا في القاهرة يديه من هذه الضمانات دون أن يوجه كلمة نقد واحدة للإسرائيليين؟
فصائل المقاومة لم تخض هذه الحرب، ويقدم أهلنا في قطاع غزة حوالي ستمائة شهيد حتى الآن وأربعة آلاف جريح ومئات الآلاف من المشردين من اجل الوقوع في مصيدة ثانية من المفاوضات العبثية يشارك في نصبها من لدغ من هذا الجحر أكثر من مرة للأسف.
أرقام الشهداء الفلسطينيين في ارتفاع.. نعم.. ولكن أرقام القتلى الإسرائيليين في ارتفاع أيضا، ومعها الخسائر الأمنية والاقتصادية والمعنوية الإسرائيلية، فعندما تقرر معظم شركات الطيران الغربية وقف رحلاتها إلى مطار تل أبيب، فهذا يعني الكثير لمن يفهم في الاقتصاد والسياحة وعلم النفس العسكري، ولم يأت هذا الانجاز بالصدفة، وإنما بناء على حسابات دقيقة رسمتها صواريخ المقاومة التي يسخر منها ومفعولها بعض “العقلاء” العرب.
الرئيس عباس لا يريد المقاومة، ولا يريد انتفاضة، ولا يريد وقف التنسيق الأمني أو حل السلطة، لا يرد أن يفعل شيئا على الإطلاق وهذا ليس من حقه، ويجب أن يكون هناك من يردعه من حركة “فتح”، وهذا للأسف غائب كليا، ولكن يجب منعه، طالما أن هذه خياراته، أن لا يفرضها على المقاومين، ويتدخل في شأنهم، ويفرض نفسه عليهم.
***
المقاومة لا تبالغ ولا تكذب لأنها مقاومة مؤمنة، فعندما أعلنت عن اسر جندي إسرائيلي، ونشرت صورته واسمه ورقمه العسكري، وانطلقت حملات التشكيك تماما مثلما انطلقت مثيلاتها حول وقوع قتلى بالعشرات في صفوف الجيش الإسرائيلي، وها هي حكومة نتنياهو تضطر لبلع كبريائها وغرورها الكاذبين وتعترف مكرهة بالخطف وأرقام الجنود القتلى.
نتمنى على القيادة الميدانيين لحركات المقاومة و”حماس″ بالذات، زعيمتها، الذين يقودون هذه المعركة المشرفة أن لا يستمعوا إلى السلطة ومبادراتها وكل الوسطاء الآخرين الذين يدعون الحكمة والعقلانية ويلقون المحاضرات في “المرونة” و”الواقعية” وهم الذين يكرهون المقاومة أكثر ألف مرة من كراهيتهم لنتنياهو، ولو خيروا بين الاثنين لاختاروا نتنياهو، وان يتمسكوا بمطالبهم، فصمودهم البطولي بدأ يعطي ثماره وبشكل متسارع.
غزة يجب أن تنتصر في معركة الكرامة هذه، لأنها تستحق الانتصار لما قدمته من شهداء وتضحيات، وأول من قدموا هذه التضحيات قياداتها الصامدة التي تقود من تحت الأرض على رأسهم إسماعيل هنية ومحمود الزهار وخليل الحية والقائمة تطول.
إنهم القلة المؤمنة التي ستهزم الأكثرية الباغية بإذن الله، طالما استمروا في الاعتماد على ربهم وأنفسهم، وهم كذلك، وللمرة الثاني نقول أن النصر صبر ساعة، فصبرا آل ياسر.
ساحة النقاش