عبد العزيز الرماني
صحفــــــي
إني أصارحك..
الحمد لله أن في بلدي صحافة تنشر فضائح الناهبين والعابثين بأموال البلاد وبخيراتها، والحمد لله أن جرائدنا تصدر يوميا ولا تتوقف، بل إنها تملأ واجهات الأكشاك بتعددها وتنوعها. ولو كنا في بلد تضيي فيه الكلام والتعبير، لعدنا إلى أيام الكتابة بالإشارة والتلميح أو بلغة المزاح و«التقشاب»، وهي الأيام التي استطاعت فيها جريدة ساخرة مغربية مثل «أخبار السوق»، أن تحقق أرقاما قياسية في المبيعات لم تحققها جريدة قبلها.
وقف شاعر ساخر أمام الحاكم ليمدحه، فلم تطاوعه الكلمات لأنه يعلم أنه ظالم وخائن، وسفيه وجائر. ففطن إلى حيلة يلاعب بها الكلمات، ويقلب حروفها في قصيدة نسبت إلى أكثر من شاعر:
يا ذا الفضائل واللام فيك حاء و يا ذا المكارم والميم فيك هاء
ويا أنجب الناس والباء سين ويا ذا الصيانة والصاد خـــــاء
و يا أكتب الناس والتـــاء ذال و يا أعلم الناس والعين ظـــاء
تجود على الكل والــــدال راء فأنت السخي يتلوه فــــــــــــاء.
ويحكي الصحفي القدير مصطفى أمين في كتابه الجدير بالقراءة «صاحبة الجلالة في الزنزانة»، أنه أثناء الحكم العثماني تم تنصيب رقيب تركي اسمه «المكتوبجي»، ليقرأ الصحف اللبنانية والسورية، ويمنع ما لا يجب نشره وفق قواعد وإملاءات محددة مسبقا في دليل كان يحمله معه جيئة وذهابا.
وكان «المكتوبجي» قد وضع ذاك الدليل ليسهل عليه البحث عن الكلمات التي يجب حذفها، وجاء في الدليل أنه يمنع ذكر عدة كلمات ومنها (السلطان، الملك، الحرب، الثورة، الجمهورية..)، لأنها تحيل على معان ورموز قد يساء فهمها.
وحين أرادت إحدى صحف لبنان نشر وفاة تاجر معروف اسمه أحمد سلطاني بن محمود سلطاني، وعم إبراهيم سلطاني، أصر الرقيب على حذف لفظة سلطاني فنشر الخبر على هذا الشكل: «توفي يوم أمس الحاج أحمد نجل الشيخ محمود وعم إبراهيم، تغمده الله برحمته».
وحدث أن أراد أحد التجار نشر إعلان حول تغيير عنوان محل يملكه «نعلن للجمهور بأن المحل التجاري ملك الخواجا جان حرب انتقل من حارة أنور إلى حارة رشاد ببيروت».
وحين حذف الرقيب الكلمات الواردة في الإعلان المشار إليها في دليله، وهي كلمة «حرب»، وكلمة «أنور» لأنها تحيل على اسم أنور باشا الذي كان خصما للسلطان التركي، وكلمة «ملك» لأنها تذكر بالسلطان،و«حارة رشاد» لأنها تحيل على اسم الأمير رشاد، أصبح الإعلان على الشكل التالي بعد تعديله:
«نعلن للعموم، بأن المحل التجاري التابع للخواجا جان، انتقل من إحدى حواري بيروت، إلى إحدى حواري بيروت».
وعاشت صحافة الأمس في المغرب بدورها أياما عصيبة مع الرقيب ومقصه الشهير، كما رويت قصص كثيرة وحكايات طريفة حول الرقابة في المغرب، سنعود إليها مرة أخرى إن شاء الله.
أما صحافة اليوم فهي تنعم في ظل دستور جديد نص على مكتسبات وضمانات متعددة يجب تفعيلها، وتتعلق بحرية الرأي والتعبير، وحرية المبادرة والإبداع، وحرية الصحافة ومنع كل أشكال الرقابة القبلية.
وإذا كانت الصحافة المستقلة لم تترك مكانا متسعا لصحافة الأحزاب، التي يبدو أنها ضعفت وهزلت إلى حد أثارت فيه أرقام مبيعاتها الصادرة أخيرا سخرية المحللين والمتتبعين، فإن الحسرة تبلغ ذروتها حين يتعلق الأمر بجرائد الأحزاب التاريخية التي كنا نعتبرها مدارس علمتنا الكتابة والقراءة وأساليب نقل المعرفة.
كانت «التحرير» وكان «المحرر» وكانت «أنوال»، وكانت صحف أخرى عديدة، صمدت أغلبها في وجه مضايقات السلطة والرقابة، واستطاعت أن تفتح نوافذ الأمل يطل منها القلم على قارئه، ويوصل إليه أحلامه وتعابيره.
سألت زميلا لي، هو واحد من قيدومي الصحفيين في المغرب: «تخيل لو أن المعارضة انتصرت في السابق على الملك الراحل الحسن الثاني، حين كانت تواجهه بالدسائس والمكائد، وكان يواجهها بالتضييق والمحاكمات والزنازين، فهل كانت ستصالحه وتنصفه كما فعل معها من خلال هيأة الإنصاف والمصالحة؟».
لم يفكر كثيرا ليشهر في وجهي جوابا مبنيا على القسم بالله والنفي القاطع: «والله ثم والله، ما كانت لترحمه».
وقد ذكرتني صراحة زميلي بقصيدة الشاعر المصري الذي وقف أمام جمال عبد الناصر ينشده ويذكره:
إني أصارحك التعبير مجتــــرئاً وما الصريح بذي ذنب فيعتذر
تصور الأمر معكوساً وخذ مثلاً مما يجرونه لو أنهم نصـــروا
أكان للرفق ذكر في معاجمـــهم أما عن كريم وأصحابه خيـــر.
ساحة النقاش