ذر «الرميد» في العيون
وزير العدل مصطفى الرميد من الذين يختارون بعناية أوقات خروجهم الإعلامي، وأيضا من الوزراء القلائل الذين يزنون كلماتهم بميزان الذهب.
ولذلك فساعات قبل أن يتخذ وزير العدل قرار إعفاء مدير مديرية التجهيز والممتلكات من مهامه، ذهب إلى برنامج تسعون دقيقة للإقناع من أجل هدف واحد هو إقناع الرأي العام بأنه لن يضيع وقته في مطاردة ملفات الفساد التي ورثها عن وزراء العدل الذين سبقوه، وأنه سيكتفي بالبحث عن الفساد الذي ظهر في عهده ومحاربته.
قبل أيام قال وزير العدل إنه بمجرد تسلمه لحقيبة العدل قام بإجراء افتحاص للوزارة، وتبعا لذلك فقد اكتشف عدة نقط سوداء. وهذا طبيعي، فماذا كان ينتظر أن يجد معالي الوزير، نقطا بيضاء؟
وطبعا فالمغاربة لا ينتظرون من وزير العدل أن يحيطهم علما بخبر عثوره على نقط سوداء،مع أن الأصح أن يقول ثقوبا سوداء، ولكنهم ينتظرون منه أن يخبرهم ما الذي فعله لكي يقتلع هذه النقط السوداء، وأن يقول لهم من هم هؤلاء المسؤولون الذين تسببوا في هذه النقط السوداء، ولماذا لا يقدم ملفات خروقاتهم أمام القضاء لكي يقول كلمته في حقهم.
وزير العدل يقول إن الوزارة شيبت له شعر رأسه، وأنه يربح من المنصب أقل مما كان يربحه في مـكـتـب مـحـامـاتـه، الذي حول بالمناسبة ملفاته إلى مكتب أخته المحامية والبرلمانية، وهذا طبيعي فالعمل الوزاري متعب وغير مربح، ولذلك يحاول وزير العدل الترفيه عن نفسه بممارسة السباحة في مسبح نادي العدل الذي رفع من أسعار الانخراط للعموم حتى يبقى حكرا علــى كبار القضاة ومسؤولي الوزارة وعائلاتهم.
وعندما غادر وزير العدل بلاطو برنامج «تسعين دقيقة للإقناع» كان بلاغ الوزارة حول إعفاء مدير مديرية التجهيزات والممتلكات، إحدى أكثر المديريات في المغرب إشرافا على مشاريع البناء والتجهيز الخاصة بالمحاكم وكل ما يتعلق بمؤسسة العدل، يأخذ طريقه نحو فاكسات قاعات التحرير.
وحتى لا يختلط الأمر على الصحافـيـيـن ويـعـتـقـدوا أن الـتـسـجـيـلات التي نشرنا على صفحات الأخبار محتوياتها، والتي يفضح فيها مهندس بالوزارة تجاوزات خطيرة حدثت بهذه المديرية، كانت السبب المباشر في اتخاذ معالي الوزير قرار العزل،فإن البلاغ أشار إلى أن الظروف الصحية للمدير، والتي لا تسمح له بمواكبة مسيرة الإصلاح، هي سبب إعـفـائـه. كما لو أن الإصلاح أصبح ماراطونا يجب على كل من ينخرط فيه أن يكون «مسوفلي»، وربما لذلك يحرص وزير العدل على السباحة ليلا بنادي العـدل حتى يكون المسبح له بمفرده يربي فيه «السوفل» كما يريد.
والحقيقة أن الرميد يريد من خلال هذا البلاغ أن يبيض وجه الفساد بدعاوى المرض وغيره من التبريرات. ولو كان الرميد محقا في ما قال لكان أعفى قبله مدير الشؤون المدنية الذي ذهب إلى التقاعد، وهــو الذي كان يتم نقله في كل مرة إلى المستشفى وهو في اجتماعات الوزارة المختلفة.
ولو كان داعي المرض هو سبب إعفاء مدير التجهيزات والممتلكات لكان أعفى قبله أيضا المفتش العام، الذي لمرات كثيرة تعرض لنوبات وأزمات صحية طارئة كان ينقل هو الآخر على إثرها إلى المصحات الخاصة.
نعرف أن مصطفى الرميد لا قبل له بمواجهة الحرس القديم الذي لا يزال يجثم على وزارة العدل والذي وجد هذا الأخير نفسه محاطا به ووجب عليه، حرصا على أعصابه وسلامته، أن لا يقلق راحته، فاستسلم للأمر الواقع.
وإذا كان هناك من ينتظر رؤية أطر بوزارة العدل يساقون أمام القضاء، مثلما فعل وزير العدل مع أطر وزارات ومؤسسات آخرين أحال ملفاتهم على الفرقة الوطنية،فإنه سينتظر طويلا،فوزير العدل لا رغبة لديه في مطاردة الساحرات داخل دهاليز وزارته، ولو أنه يحب مطاردة الساحرات داخل دهاليز الوزارات الأخرى.
وإذا كان بلاغ وزارة العدل قد أفصح عن سبب إعفاء مدير التجهيز والممتلكات، إلا إنه سكــــت عن أشياء كثيرة، منها ما اكتشفه الرميد عندما قام بزيارة لوجدة قبل أسبوع تقريبا. وإذا صدقنا ما جاء في البلاغ وابتلعنا حكاية إعفاء المدير لوضعه الصحي فلماذا اتخذ الوزير قرار إعفاء المدير الفرعي الاقليمي لدى محكمة وجدة؟ هل أعفاه معالي وزير العدل لوضعه الصحي هو كذلك؟
الجميع يعرف أن المدير الفرعي بوجدة ليس سوى موظف يشتغل تحت إمرة مدير مديرية التجهيز والممتلكات. ولأنه مدير فرعي فإن إعفاءه لم يتطلب بلاغا يحدد أسباب الاستغناء عنه، بل تم إعفاؤه «حسي مسي».
ومن يدري،فالمدير الفرعي بالقنيطرة قد يحدث معه الشيء ذاته، خصوصا أنه غاب عن الأنظار هذه الأيام وأصبح مؤهلا للمرور في برنامج مختفون.
واضح أن وزير العدل لا يريد أن يسمي الأشياء بأسمائها وأن يقول الحقيقة،التي ليست شيئا آخر غير أن الفساد الجديد هو نفسه الفساد القديم الذي يستمر في عهده.
ويبدو أن الذين ظلوا يقبلون بنهم على ولائم مدير التجهيز الذي أصبح مضربا للأمثلة في الكرم الحاتمي، سيشعرون باليتم هذه الأيام.
فقد سن مدير التجهيز سنة غريبة داخل الوزارة بين المسؤولين الكبار، وتقتضي هذه العادة بالتزرد في كل مرة لدى مسؤول من مسؤولي الوزارة، وعندما وصلت «نوبة» مول التجهيز والممتلكات أكرمهم بعشاء ربما لم ير الوزير نفسه مثله من قبل، ولذلك دائما يذكر هؤلاء المسؤولين بهذا العشاء الفخم في فيلا المدير الذي لم يتقلد هذه المسؤولية إلا قبل ثلاث سنوات كانت كافية لأن يغتني، هو الذي بدأ حياته بالتنقل على الدراجة النارية للوزارة تارة وفي حافلة النقل الوظيفي تارة أخرى، وأقصى ما يـمـكــن أن يمتلكه بعد هذه المدة هو أن يقتني شقة من فئة 80 متر بالقرض وسيارة جديدة بالقرض أيضا، لكن الـمـسـؤولـيــة التــي تحملها حرق بها كل المراحل وانتقل مباشرة إلى الفيلا وما خفي كان أعظم.
ساحة النقاش