الثابت والمتغير
من يسمع السيد عبد الإله بنكيران يخاطب مؤتمري حزب الحركة الشعبية قائلا لهم ألا يقبلوا أن يتدخل أحد في قراراتهـــــــم وأن يحافظوا على وحدتهم، يعتقد أن هذا الخطاب صادر من زعيم حركي غيور على استقلالية حزب السنبلة، أو أنه خطاب موجه من زعيم سياسي إلى مناضلي حزبه في نشاط داخلي مغلق، لا من ضيف من ضيوف المؤتمر.
فالسيد بنكيران الذي تجرع مرارة فوز شباط ولشكر خلال مؤتمري حزبيهما سنة 2012، يعرف جيدا أن رصيده من التحـــــالفات على وشك النفاد، وأن علاقته مع الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال والتقدم والاشتراكية والحركة الشعبية أصبحــت رهينة بنوعية وطبيعة علاقته الشخصية مع أشخاص بعينهم داخل تلك الأحزاب، وليست علاقة بين مؤسسات حزبية.
ويبدو أن تخوفات السيد بنكيران لها ما يبررها على أكثر من صعيد، فالرجل أكثر الناس إحساسا بتلك الرمال المتحركــة تحت رجليه التي توشك أن تبتلعه وأن تبتلع معه تجربته الحكومية الفتية، التي ومنذ ولادتها لم تبرح مكانها، فهو يعرف جيدا بحكم موقعه حجم المتغيرات الوطنية والدولية التي بدأت رياحها تهب بما لا تشتهي سفنه الشراعية، ويشعر بتحركات العفاريت من حوله التي تريد أن تمسخ تحالفه الحكومي وتزيده هشاشة، خاصة أن قيادات وازنة داخل عدة أحزاب سياسية أثـــارت علنا خلال مؤتمراتها الأخيرة أو مباشرة عقب انتهائها، مسألة التدخل في الشأن الحزبي من طرف جهات خارجية، وحذرت من محــــاولة فرض أمناء عامين بواسطة إملاءات من خارج الحقل الحزبي.
وكلنا نتذكر في هذا الصدد كيف خرج عبد الواحد الفاسي بعد هزيمة تيار «بني عبس» ضد تيار عنترة بن شداد «الشبــاطي» في المؤتمر 16، مرددا بأن أيادي خارجية تدخلت في انتخابات الأمين العام مساء 23 شتنبر 2012 وبأنه تمت ممارسة الضغط على أربعة شخصيات داخل الحزب لحملها على تغيير موقفها والتصويت لفائدة خصمه شباط الذي كان قد جعل من بين أولوياتــــه بعد الفوز الخروج من حكومة بنكيران، في أفق إعادة توزيع الغنيمة.
أما أحمد الزايدي، فقد صرح في لقاء صحفي مسؤول «أن جهات خارجية تدخلت بقوة، خاصة في الدور الثاني لتوجيه بعض المؤتمرين من بعض الجهات وحثهم على التصويت لفائدة منافسيه، وهو ما دفعه إلى إبلاغ رئاسة المؤتمر بذلك وفي حينه». قائلا في نفس الوقت، بأن الجهات الخارجية، التي أصر على عدم كشفها، مارست ضغوطات كبيرة لترجيح كفة لشكر، وهو ما اعتبره الزايدي سلوكا غير مقبول، ومسيئا للديمقراطية الداخلية، وضربا صريحا لاستقلالية وسيادة القرار الحزبي.
ورغم نفي إدريس لشكر، الذي تخصص هذه الأيام في إحصاء أخطاء المجلس الدستوري، وجود تدخل أجنبي لفائدته شخصيا، فإنه لم يخرج عن إطار التشكيك في استقلالية القرار الحزبي، حين اتهم بدوره جهات خارجية بالوقوف إلى جانب الزايدي، متهما في مناسبة أخرى المستشار الملكي الطيب الفاسي الفهري بمحاولة فرض أحمد رضا الشامي على رأس الحزب.
وإذا كان الشامي قد فشل في الفوز برئاسة الحزب فإنه استطاع أن يضع أحد مقربيه داخل شركة عقارية كبيرة براتب يصل إلى خمسة عشر مليونا في الشهر، قبل أن يقرر هذا المقرب وضع استقالته والمطالبة براتب سنة كما حدد في عقد العمل الذي وقعه، وهكذا غادر المقرب الشركة العقارية بمئات الملايين رغم أنه لم يشتغل سوى بضعة أشهر.
وقد شاهدنا في ما بعد أنه ما إن فاز إدريس لشكر بمنصب الكاتب الأول لحزب القوات الشعبية خلال المؤتمر التاسع حتى تقاطرت عليه برقيات التهنئة من أقطاب وزارة الداخلية من عمال وولاة، الذين هبوا هبة رجل واحد للإشادة بالرجل وبخصاله، ليضفـوا بهذا العمل غير المسبوق، طابعا من الشك والضبابية على المشهد الحزبي ومدى استقلاليته الفعلية.
وربما لهذا السبب نفسه، كان رفاق الحاج نبيل بنعبد الله كلما وقع لهم عسر في الهضم أثناء سـيـر الـمـؤتـمـر بـسـبب «الاكتظاظ السياسي» في بوزنيقة، تحسسوا رؤوسهم، وذهبوا يـبـحثون عن بصمات العفاريت في ما يقع لهم، بحيث كان همهم الوحيد كما كان هم بنكيران معهم والذي تابع المؤتمر بفارغ الصبر، هو إعادة نبيل بنعبد الله سالما إلى قيادة الحزب، وعـــدم المغامرة بقيادة جديدة من شأنها أن تقلب الطاولة على الجميع، وأن تخرج أدبيات الحزب الشيوعي الـقـديـمـة مـن رفـوفـهـا، وتنفض عنها غبار السنون، لكي ترتد بواسطتها على التحالف الهش بين الإخوان والرفاق.
لذلك فحين قرر نبيل بنعبد الله أن يترشح وحيدا لخلافة نفسه بواسطة الاقتراع الســـري، « مرشح بوحدو وخايف لا يسقط »، والتغاضي عن إغراق اللجنة المركزية بالأعضاء، فقد كان ذلك تفاديا للمفاجآت، غير أنه بمجرد ما عقد الحزب أول دورة للجنته المركزية «الألفية» من أجل انتخاب أعضاء المكتب السياسي 35، وبعد أن قرر إبعاد « المتهمين » بمنافسة الزعيم من أمثال نزهة الصقلي ومحمد كرين من عضوية المكتب، حتى اقترح نبيل بنعبد الله عقد مؤتمر استثنائي للحزب في القريب العاجل للتخلص من«الوزن الزائد»الذي تعاني منه لجنته المركزية التي استنفدت مهمتها،وتخفيضه من 1020 إلى 400، وهو الاقتراح الذي يعني عمليا الإقرار بفشل المؤتمر.
وهكذا فبعدما ضمن عبد الإله بنكيران عودة حليفه على رأس مؤتمر التقدم والاشتراكية، يمم وجهه صوب حزب الحركة الشعبية ليطمئن على حليفه محند العنصر،وبعدما ضمن الانسحاب المبكر لكل منافسيه من حلبة الصراع على رئاسة الحزب، وصف حزب السنبلة بالحزب الغريب،الذي تكمن ديمقراطيته في أحادية مرشحه،فإما أن رئيس الحكومة يمتدح الحزب الذي يحسم خلافاته في الكواليس، وليس عبر صناديق الاقتراع، وإما أنه يمارس «الطـنـز» على حليفه السياسي ويتهمه بعدم الديمقراطية بشكل مبطن، أو على حد قول الشاعر:
خاط لي عمرو قباء ليت عينيه سواء
فسل الناس جميعا أمديح أم هجـــــاء
ويمضي رئيس الحكومة في استعمال ما يسميه ابن سلام الجمحي في « طبقات فحول الشعراء » بتقنية « المدح بما يشبه الذم»، في حق حزب السنبلة ووزرائه بوصفهم بالتعامل بمرونة والصبر، فهل يقصد سيادته تلك المرونة التي تعامل بها الوزير الكروج مع فاتورة الشكلاط وصبره على كل ما كتب حولها، أم مرونة وصبر الوزير أوزين مع شهادة «الميني ماستر»، أم مرونة مبديع مع أسرار قضية روبي وبرليسكوني، وعدم صبره على قطف ثمار الزيارة الملكية للفقيه بنصالح أمام أعين الكاميرا، «بغينا غير نعرفو» أين تكمن مرونة وصبر وزراء الحركة الشعبية التي يشهد لهم بها رئيس الحكومة.
وإذا كان من حسنة يمكن احتسابها في سجل مؤتمر الحركة الشعبية فهي اختيارها لشعار معبر بعنوان«ثوابت لا تتغير في مغرب يتطور»، لأن هناك بالفعل بعض الثوابت مثل أحجار المحافظة التي تأبى أن تتغير وتقف في وجه كل تطور للمغرب، لأنــــها تعتقد أنه بدونها لا مستقبل للمشهد السياسي المغربي، وأن كل محاولة لاقتلاع « مسامير الميدة » تلك لن تكون إلا عبر مؤامرة من تدبير أياد خارجية طبعا.
ساحة النقاش