صالح عوض: تاريخنا.. صلاح الدين وابن تاشفين.. هكذا يكون ردنا
<!--<!--
“رأي اليوم” صالح عوض
لم يكن التشابه فقط في اسميهما.. ففي المشرق والمغرب استجاب التاريخ لرجلين من طراز فريد تشابها في الرؤية والدور والمهمة والإستراتيجية فبوأهما ذروة المجد، أحدهما يوسف بن تاشفين بن إبراهيم الصنهاجي الذي واجه الصليبية في المغرب والأندلس، والآخر يوسف بن أيوب التكريتي الذي واجه الصليبية في المشرق وفلسطين..
قام الرجلان بضخ الدم الحر في الأمة وبعث روح الانتصار والإنعتاق من الهزيمة وأسبابها فأوقفا الإنهيار و دحرا الهزيمة وانبعثا إلى غاية الانتصارين الكبيرين أحدهما بتوحيد المغرب والأندلس وهزيمة الصليبيين واستئناف الدفق الحضاري، والثاني بتوحيد المشرق وبرفع الآذان في الأقصى بعد 80 سنة من احتلاله وبهزيمة الصليبيين.. أجل لقد كانا عملاقي المشرق والمغرب، وكانت “الزلاقة” و”حطين” عنوانين كبيرين لانتصار الأمة مشرقا ومغربا.
بانوراما المشهد:
نعرض لجزء من المشهد الأكثر إثارة في حياة القائدين حيث الانتصار الكبير في المعركة المحتدمة مع العدو الخارجي، وإن كنا نعتقد أنّ هناك ميادين للمعركة خاضها الرجلان كان الانتصار فيها مؤسسا لتحقيق فوزهما في جزء المواجهة العسكرية مع الصليبيين.. فلقد بدأ التفكير الجدي في الممالك الصليبية المجاورة للأندلس بضرورة القضاء على هذا النموذج المختلف وذلك بدفع من الأحقاد المتلبسة بالتعصب والجهل والخوف من نور الحضارة الإسلامية بفلسفتها وفنونها ومعارفها التي طالما دعت إلى تكسير أصنام الاستعباد المفروضة على الشعوب الأوربية من الكنيسة والإقطاع..
بدأ الهجوم الصليبي على بلاد المسلمين متخذا من الأندلس نقطة الانطلاق وتمكن من إحراز بعض الانتصارات في مرحلة توزعت الإمارات في الأندلس إلى 22 إمارة أو مملكة لكل منها ملك وقد أطلق على تلك المرحلة مرحلة ملوك الطوائف المتصارعة.. فكانت حالة التجزئة سبيل الصليبيين، الممهدة لإسقاط ممالك الأندلس واحدة بعد الأخرى ووجد الصليبيون أحيانا كثيرة مساعدة من بعض الملوك على بعضهم الآخر.. سقطت ممالك تحت هيمنة الصليبيين وفرضت عليها جزية ترفع إلى قائد الصليبيين الملك “ألفونسو السادس” ملك قشتالة وليون.. فاستنجد الأندلسيون بالمرابطين الذين لم يترددوا بعد أن وحّدوا بلاد المغرب ومكنوا لدولتهم فيها وكان عبورهم إلى الأندلس وخاضوا جولات لتوحيد ممالكها فقد أرسل عدد من ملوك الطوائف رسالةً لابن تاشفين يستدعونه فيها لقيادة الجهاد ضد ألفونسو السادس، واستجاب لهم وكان ابن 70 عاماً من عمره..
استمرّ حشد الجيوش من الجانبين، انضم بعض ملوك الطوائف لابن تاشفين، ومن ناحية أخرى أرسل ألفونسو يستدعي كامل جيوشه للتجهُّز للمعركة الفاصلة التي ستغيِّر تاريخ الأندلس، وألحق يوسف بن تاشفين الهزيمة بالصليبيين في أكتوبر من عام 1086 في موقعة الزلاقة الشهيرة وكانت السبيل إلى وحدة بلاد الأندلس وإنهاء مرحلة ملوك الطوائف وفرد سيطرته عليها وضمها للمغرب وغرب إفريقيا التي دالت للإسلام، ودحر الصليبيين وبذلك أخّر سقوط الأندلس أربعة قرون..
وبعد سنوات قليلة من فشل الصليبين في الأندلس توجهوا بمشاعرهم نفسها وبحقدهم التاريخي الى المشرق العربي مباشرة لينتزعوا بيت المقدس وبلاد الشام من الفاطميين في 1099 مستفيدين من نفس الشروط التي توفرت لهم في مرحلة هجومهم على الأندلس حيث التجزئة بين بلاد العرب والمسلمين تماما بما يشبه ملوك الطوائف.. تجشم صلاح الدين مهمة محاربة الصليبيين بعد وفاة “نور الدين زنكي”، وكان قد عينه نور الدين زنكي قائدا للجند لنجدة مصر حيث ضعف الدولة الفاطمية وإغراقها في الفساد وبعد ان تصدى للصليبيين في دمياط وحقق انتصارا جمع إليه قلوب المصريين انطلق إلى دمشق؛ لتوحيد الشام مع مصر وقد تمكّن من فرض نفوذه على حلب والموصل في عامي 1176 و1186 على التوالي. في الرابع من تموز عام 1187 استطاع صلاح الدين القضاء على الجيش الصليبيّ إلى حدٍ كبير في معركة حطبن حيث حاكم القدس الصليبي آنذاك، وريموند الثالث حاكم طرابلس، وكانت هذه المعركة نقطة تحوّل كبيرة في تاريخ الحروب الصليبيّة.
تمكّن صلاح الدين من توحيد العديد من الدول بما في ذلك مصر والشام والحجاز، واليمن، وأعالي العراق، وجزء من تركيا، وأجزاء من ليبيا، والنوبة.وحقّق العديد من الانتصارات الكبيرة، ويعود الفضل لصلاح الدين الأيوبي في تأسيس دولة قوية وعظيمة ومهّد الطريق لإعادة الناس إلى صفاء الإسلام والقضاء على خرافات الفاطميين، وأسس مدارس تهيئ العلماء والوعاظ وكان يقضي وقته في مناقشة العلماء في المسائل الدينية..
وكما حاز صلاح الدين على تأييد العلماء ودعمهم له فكذلك كان أمر يوسف بن تاشفين حيث يصفه ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ بأنه: “كان حليما كريما ديّنا خيّرا يحب أهل العلم والدين ويحكّمهم في بلاده، ويبالغ في إكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم”
لقد كان لموقف بن تاشفين الاثر البالغ في صد الصليبيين عن الأندلس أربعة قرون، وحمى المغرب وإفريقيا من الغزو الصليبي حتى استلم العثمانيون راية الدفاع عن معظم الشمال إفريقيا.. كما صد الأيوبيون الصليبيين قرونا عديدة عن بلاد الشام ومصر والعراق..
التحديات المتشابهة:
النشأة والتكوين: لقد تدرج كل من صلاح الدين الأيوبي الكردي ويوسف بن تاشفين الصنهاجي في الجهاد من خلال التربية الجهادية والإسلامية الصافية الجادة حتى تفرد كل منهما بالقيادة مكتملا بشروطها المناقبية والعملية فلقد تولّى الأول قيادته بعد نور الدين زنكي القائد الفذ الذي أوجد القاعدة الفكرية والعملية لانطلاق المشروع الأيوبي وتولى الثاني قيادته بعد أبي بكر بن عمر اللمتوني الصنهاجي القائد الكبير للمرابطين وتأسيسه دولة المرابطين في موريتانيا والسنغال وأجزاء من المغرب الأقصى والجزائر و بلدان إفريقية عديدة.. ولقد واجهت التحديات المتشابهة الرجلين وكان لهما نفس الطريقة في التعامل معها.. وهنا يذهب الحديث عن التحديات الذاتية على اعتبار أنها شروط الهزيمة والخسران، وهكذا يكون التصدي لها بمثابة توفير أهم شروط الانتصار.
التجزئة:
كان التحدي الأول تفرقة المسلمين وتشتت رأيهم وتمزق الأمة على طوائف وإمارات فكما كان الحال في المشرق مكونا من إمارات في بلاد الشام والعراق كان كذلك في الأندلس وبلاد المغرب وديار الإسلام في أفريقيا.
في مواجهة هذه المعضلة أدرك الرجلان أن الهزيمة وقعت بالمسلمين بسبب فرقتهم وأنّ الصليبيين لم يتجرؤوا على بلاد المسلمين إلّا عندما وجدوهم في حالة تمزق وتناحر.. وأدرك الرجلان أنّ التناحر والتجزئة لا تعني فقط أنّ كل ملك أو أمير ينأى بنفسه عن بقية الأمة إنما يسير إلى الانتصار بالعدو الصليبي والاستقواء بقوته ضد أخيه الملك الآخر.. فكان توحيد الجبهة شرطا أساسيا في عقيدتهما لإحداث بيئة الانتصار.
كانت أهداف معارك صلاح الدين الواضحة الحاسمة في بلاد الشام والعراق إنما هي لتوحيد الإمارات بالقوة بعد أن حقق انتصارات معتبرة على الصليبيين في مصر وأنتجت تلك الحروب على التجزئة وحدة بلاد الشام ومصر والعراق.. وبعد ذلك توجه ثانية إلى مصر بجيوش من كل أجزاء الأمة لمواجهة صليبيين جاءوا من كل أوربا..
الموقف نفسه سبق أن اتخذه بن تاشفين في توحيد بلاد المغرب والبلاد الإفريقية المجاورة وتكوين جيش مدرب ودولة منظمة وعندما توجه للأندلس أمر ممالكها بالالتحاق بالجبهة وحقق انتصارات على الصليبيين أهلته أن يفرض الوحدة على كل الممالك لينزع طبقة الملوك ويعين بدلا منهم ولاة ينهضون بالبلاد والعباد في صمود أمام العدوان الخارجي.
الانحرافات المذهبية:
هي طريقة معقدة لتفريق الأمة وبعثرة صفها لهذا كانت مواجهة الانحرافات وثقافة الطائفية والفرق تتم بقوة وبطريقة منهجية لدى كليهما، ففي الغرب اتجه بن تاشفين والمرابطون إلى إنهاء الفرق الضالة من رافضة مشعوذة ومحرفة ومن مبتدعة وإرجاعهم إلى جادة الصواب وقد انتشرت فيما قبل ذلك فرق تعرض أنماطا مشوهة من الدين على طريقة الزندقة تحرم حلالا وتحل حراما فاتجه ابن تاشفين إلى نشر العلوم الدينية وبناء المدارس وتوسيع تعلم العربية ونشر المذهب المالكي وعقيدة المسلمين الصافية من الخزعبلات.
الأمر نفسه خاض صلاح الدين غماره في مصر وبلاد الشام حيث رأى في الفرق والطوائف خذلانا كبيرا أو خيانة وموالاة للصليبيين في بعض المراحل ووجد في كثير منها ثقافة وانحرافا عن صحيح الإسلام لا سيما الفاطميين الذين حكموا مصر وأسسوا لمذهبهم مدارس وجامعة الأزهر.. فتصدى صلاح الدين لهذا الانحراف و قد بنى مدارس لتعليم الدين الصحيح وقرب إليه العلماء ونشر تعاليمه واللغة العربية حتى استطاع الأزهر أن يصبح معقلا لأهل السنة والجماعة وقد أنهى بشكل تام الفرق الطائفية بانحرافاتها وخزعبلاتها من مصر.
الوحدة السياسية:
الموقف من وحدة الأمة السياسية لنظام يجمع الأمة مشرقا ومغربا وهنا يتجلى الرجلان عن وعي يتجاوز الحسابات الصغيرة والتبريرات الواقعية الى ما هو أبعد رؤية وأعمق إدراكا وأشمل للمصلحة العامة رغم توفر إمكانات التفرد بالحكم بألقاب وأسماء.. رفض القائدان الكبيران إغراءات الأتباع بذلك وللحفاظ على رمزية الوحدة أرسل كل منهما إلى الخليفة العباسي المنهك العاجز في بغداد والمحاصر بالفاسدين والاختراقات المشينة بالتزامهما ببيعته خليفة للمسلمين جميعا بمن فيهم من هم تحت حكمهما..
قد كان انتصار الزلاقة دافعا للمرابطين إلى مطالبة زعيمهم ابن تاشفين تسمية نفسه أميرا للمؤمنين، لاسيما وقد وصلته رسائل من العلماء والوعاظ وأولي الحظوة من المجتمعات الإسلامية أن يقوم بنجدة الأندلس وحقق لهم ما يريدون لكن ابن تاشفين رفض ذلك رفضا قاطعا، وأعلن الخضوع والولاء للخليفة العباسي في بغداد، وقد لاقى هذا الموقف إكبار العلماء والسلطة العباسية على حد سواء فخلعوا عليه نياشين الإكبار وخلدوا ذكره في بطون الكتب ودواوين التاريخ.
الأمر نفسه يتجدد في موقف صلاح الدين الأيوبي الذي حقق انتصاراته الكبيرة على الصليبيين وأنهي حكم الفاطميين الذين تسببوا في سقوط القدس وبلاد الشام بيد الصليبيين، ودفنه مع دفن آخر حاكم فاطمي إلّا أنه رفض أن يسمي نفسه أميرا للمؤمنين أو خليفة للمسلمين وكانت كل منابر الدولة الأيوبية في مصر والشام والحجاز وتهامة واليمن لا تخطب إلّا باسم الخليفة وفي ظل الراية العباسية.
عالج صلاح الدين الأيوبي ويوسف بن تاشفين قضية الوحدة وقمع التفرقة الطائفية والسياسية، وقضية الجهاد ضد العدو وقضية المشروعية السياسية بحنكة ووعي وجدية وحققا انتصارات على كل الجبهات فأصبح الغرب الإسلامي والشرق الإسلامي كله يسير وفق الإسلام منزها من الانحراف والتشتت وقد تمكنا من دحر الصليبيين وتأخير سقوط الأمة قرونا..
خاض صلاح الدين الأيوبي ويوسف بن تاشفين معركة الأمة في الشرق والغرب لا راية لهما إلّا الإسلام ولا منهج إلّا وحدة الأمة ولا هدف إلّا الانتصار ودحر الغزاة فحقق الرجلان ما أرادا وسجلهما التاريخ في مكانة تليق بهما.
الدرس المفيد:
صحيح أن هناك تحديات تواجه الأمة اليوم لا تقتصر على تلك العناوين الأساسية التي واجهها الرجلان الكبيران.. فالآن نحن نواجه تفوق التكنولوجيا وتشتت وجدان النخب الثقافية والسياسية وغياب طبقة العلماء النجباء وسلطانهم ونواجه كذلك تحديا خطيرا يكمن في تفشي روح الانفصال وثقافته القطرية والعرقية الأمر الذي غاب عن الرجلين الكبيرين الكردي والصنهاجي.. ولكن الدرس له دلالاته الكبيرة ولعل الزلاقة وحطين ترتقيان إلى مستوى معاركنا الأولى في اليرموك والقادسية من حيث صفاء التوجه وعزيمة المؤمنين وسنن الانتصار البينة.. ولعل تدبر التجربتين الكبيرتين يكشف لنا الشروط الذاتية والموضوعية التي تتحرك فيها انتصاراتنا نحو الأمام وسنظل بدون ذلك نكرر مسلسل التجارب والأخطاء والله غالب على أمره.
ساحة النقاش