إن عقد التسعينيات يشهد في مصر ـ وفي أغلب أقطار العالم العربي ـ اهتماما غير مسبوق ببناء القدرات، إلا أن هذا الاهتمام، مع توافر كل التقدير له، يستلزم وقفة نقدية موضوعية لتقييم المردود من ناحية وتطوير الاستراتيجية المتبعة من ناحية أخرى، لكي تتفق مع متغيرات عديدة تشهدها الساحة .

ويمكن إبداء الملاحظات التالية حول سمات عملية بناء القدرات : 1. ضعف / عدم وضوح رؤية استراتيجية لبناء القدرات، سواء من حيث طبيعة وأولويات المنظمات المستهدفة أو المجتمعات المحلية التي توجد بها، فهناك توجهات غير منظمة تسود الساحة ـ في هذه المرحلة الانتقالية ـ فإما أن تسود الانتقائية لتلك المنظمات التي تحصل على تمويل ( خارجي ) لمشروعاتها، ويتم إقصاء منظمات أخرى مهمة يمكن أن يكون لها دور فعال ( وتختلف بالفعل إمكانات ذلك )، أو يسود التشتت والتوزع والتوجه نحو بناء قدرات أية منظمات بغض النظر عن إمكاناتها التي يمكن تطويرها . كذلك وفي هذا السياق لم تتطور رؤية واضحة لمنظمات التنمية، هل هي تلك التي تتبنى اقترابا تنمويا شاملا ؟، أم تلك التي تقوم بتقديم خدمات Service delivery ؟ أو الاثنين معا ؟ وهل مجرد تبني مشروع توليد دخل ( تدريب فتيات مثلا على صناعة السجاد )، يجعل من المنظمة التي تقوم به منظمة تنموية ) ؟، إن المعايير غير واضحة تماما فيما تعلق بمنظمات التنمية وهو الأمر الذي انعكس بالفعل على قصور استراتيجية بناء القدرات، وعلى غياب رؤية بعيدة المدى للدور الذي نتصوره لمنظمات التنمية .

2. لقد اتجهت عملية بناء القدرات نحو التركيز على أداة أو آلية واحدة، مع تهميش باقي الأدوات، وفي إطار لا يحقق التفاعل أو التكامل . بمعنى أن التركيز قد اتجه نحو تدريب العاملين والمتطوعين ( ومن خلال حزمة تدريبية واحدة )، وذلك في عدة مجالات كان من أهمها التحديث الإداري والمؤسسي، وتدبير التمويل Fund Raising، والتنمية . وفي الوقت نفسه فإنه هناك مجالات تدريب أخرى على درجة عالية من الأهمية، لم تأخذ مكانها على جدول التدريب من ذلك الإدارة المالية، وبناء الفريق، وتعبئة مشاركة المجتمع المحلي، وغير ذلك بما يتطلب إجراء دراسة لتحديد أولويات التدريب وفقا للاحتياجات . هذا وقد أوضحت دراسة ميدانية حديثة قام بها الكاتب ، أن أولويات التدريب ـ وفقا لرأي المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال التنمية ـ قد تمثلت في : الإدارة المالية، التطوير المؤسسي، تعبئة المتطوعين والمشاركين، الاتصال والإعلام، الممارسة الديمقراطية، بناء الفريق وغير ذلك . إن محتوى الملاحظة السابقة، يشير إلى تركيز بناء القدرات على التدريب، وفي مجالات ليست بالضرورة هي احتياجات المنظمات غير الحكومية .

3. اتسمت عملية بناء القدرات، كما تمت في الواقع بدور محدود يلعبه البحث العلمي والنشر والتوثيق ( خاصة للخبرات الرائدة ) وكذلك محدودية دور قاعدة البيانات . ومن ثم فإن الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسات الأكاديمية ومراكز ومنظمات المساندة، كان مهمشا إلى درجة كبيرة فيما تعلق بقدرته على تطوير واقع المنظمات التنموية .

4. اتسمت تدخلات برامج بناء قدرات المنظمات غير الحكومية بالتشتت وعدم التراكم، سواء على المستوى الجغرافي، أو على المستوى النوعي أو يصعب تبين فئات محددة مستهدفة يتم التركيز عليها، وهو الأمر الذي يرتبط أساسا بالرؤية والاستراتيجية . ضعف تركيز برامج بناء القدرات على تفعيل المشاركة بين البيئة المحلية والمنظمات غير الحكومية، بما يتطلبه ذلك من تفهم السياق الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وتحديد أولويات قضايا البيئة المحلية .

5. محدودية التنسيق والتشبيك بين المؤسسات والمنظمات التي تنشط في عملية بناء القدرات، وهذا العامل على درجة عالية من الأهمية، وينبغي أن يأخذ أولوية في المرحلة القادمة . ففي إطار أنشطة وبرامج بناء القدرات، من المهم تبادل الخبرة والمعلومات بين المراكز والمؤسسات المعنية، سواء كانت أجنبية أم قومية . ومن شأن ذلك ترشيد الموارد المالية والإنسانية، وتحقيق التكامل بين مختلف الجهود، وفي إطار استراتيجية تحرك أكثر فعالية .

6. إن إدراك قيمة برامج بناء القدرات لدى المنظمات غير الحكومية يشوبه القصور، ومن ثم فهذه البرامج لا تؤخذ بالجدية الكافية، كما أنها ليس لها مكان على جدول أعمال غالبية هذه المنظمات، ومن ثم تختفي المخصصات المالية لهذه البرامج، ويعتمد الأمر في النهاية على التمويل الخارجي، وهو ما يهدد الاستمرارية .

إن المحصلة النهائية لما سبق هو أننا في حاجة إلى عملية تقييم شاملة للجهود التي تبذل في مجال بناء قدرات المنظمات غير الحكومية، وعملية التقييم هذه ينبغي أن تقود إلى رؤية أكثر وضوحا واستراتيجية متكاملة، على مدى زمني محدد .