لا تُحدثوه عن أمهاتكم، فمازال يحتالُ على أنينِ وجعه كي يستفيقَ من غيبوبةِ ألمه، لا تختبروا صبرَ طاقة احتياله، فقد تصخرتْ روحه، وشابت خطاه منذ أن رحلت عنه، لا وطن يأوي جبين أرقه، ولا دعوة ترافق كفاح دربه، ولا قِبلة تُرشدُ أوبة تشتته، ولا عزم يكفُ يد الدهر عنه،
أضحى جرحه العاتي لا يتوقف، ولا يهدأ، يتحين الألم كي يفجر مخزون شجنه بضغطة حرف، ليدوي جمرات وجعه بلا رحمة، لا شيء يستفز فرحته، ولا قلب يحفز مواساة احتماله، ولا صدق يبارك شغفه، تساوت عنده كل الوجوه والقلوب، لا شيء يمنحه اليقين، فهو يتصنع الكلمات ويفتعل البسمات ليواري سوءة أوجاعه خلف أنين عجرفة ضعفه.لطالما تشبثَ بثوبِ قربها كان بخيرٍ، فمن أين له بتلك الطمأنينة التي رحلت في ركاب سفرك؟
فما عادت السماء تغيثه حبًا، ولا أضحت الأرض تزهر شوقا، وكفت مشاعر إرهاقه عن الدوران حول وسامة نصحهم، فقد رحلت من كانت للقلب شريانه، وللسعادة مفتاحها، وللخوف مأمنه، وللحياة روحها، غادرت بلا وداع، رحلت فنقشت بالقلب غصات، وبالعيون حيرة وتشتت، ونثرت أوجاع الفقد في كل سكنات النفس.كانت تكسوه ثوب دعائها، وتضمد حيرة جرحه بنبض طيبتها، وتميز نبرة حزنه بحنين حبها، وتعبر به من وجع اليأس إلى سعادة قربها، رحلت فتساوت بعدها الأفراح والأتراح، فبعد رحيل أمه لم يجد قبلة يولِي روحه إليها، تتقاذفه الوجوه والقلوب، يحبونه تبعًا لأهوائهم ولمزاج يومهم، ويتقلبون بغضًا وودًا، فلا يجد من يتكئ على ثبات صدقه، فكلهم يترنحون قربًا وبُعدًا تبعا لعطاء تفانيه، فإن امتنع توقفوا، وأعلنوا وابل غضبهم، وقتها يعود أدراج انعزاله باحثًا عن قلب كان يقسم عليك ألا يرهق نفسه بأنملة عطاء.لقد وصل لمرحلة اكتفاء من كل شيء: من الحديث، من الطموح، من السعادة، من الألم، من الحياة، إلا الوحدة التي أحكمتْ سيطرتها على مداخل نفسه، برغم أن الوجوه حوله كثيرة، يأبى أن يحادثهم، ويلتقيهم بالرغم عنه، وحدها كانت تتوق نفسه لمحاورة دعائها، رحلت ورحل معها كل شيء، فثمة فراق لا يشبه أي رحيل، وثمة وجع تتساوى بعده كل الأوجاع، فيا من تملكُ قلبًا برائحة الجنة، تمسك به جيدًا، فكل خسارة تٌعد مكسبًا إذا كنت بقربها، وكل راحل له أوبة مهما طال غيابه، إلا من أخذه الموت، فلو قصرت في حقها لن تجني سوى الندم، ولن تلقاها إلا بأحلام أوجاعك. رحم الله من كانت للجسد روحه، وللعقل فكره، وللقلب نبضه، وللفزع طمأنينته، وللقلق سكينته، وللعيون ضياؤها، سلامًا على من كانت للنفس حياة.