العزلة والإبداع الروحي والوجداني .....
.. ربما يعتقد الكثير من الناس أن الإبداع الروحي والوجداني ليست له كبير علاقة بالعزلة والانفراد بالنفس.
لكن الأمر بعكس ذلك فمن خلال استقرائي ( المتواضع) لسير نبغاء وعباقرة العالم وخصوصا في ميدان الوجدانيات، وما يتعلق بخلجات النفوس، وأعماق الروح البشرية، وكذلك بالنسبة للخيال الواسع والمعرفة بالطبيعة ببعدها الوجداني، أو ما يسمى (بالميتافيزيقيا)
فقد شكلت العزلة منذ فجر الحضارة الإنسانية مجالا خصبا ووسيلة ناجعة لتوسيع أفق الخيال والجمال وسبر أغوار الحقائق الكونية والوجدانية وانبثاق ومضات النور في سكون الطبيعة...
لهذا قل أن نجد نابغة وعبقريا في ميدان الوجدانيات حتى في بعدها العلمي الفيزيائي، إلاوكانت له عزلة يأوي إليها وينزوي بين أحضانها بعيدا عن صخب الحياة وضجيج المجتمعات،
و دونك أكبر فلاسفة العالم القديم والحديث وكذلك الأدباء الإنسانيون وعباقرة واضعي النظريات العلمية وأقطاب التصوف الفلسفي ...
كل هؤلاء كانو على سمت العزلة وإيثار الخلو بوجدانهم وأرواحهم وفكرهم لولوج حقول المعرفة الكبرى واستنباط حقائق بديعة في سائر أنواع المعرفة...
لهذا شكلت المدنية ببعدها الحضاري حاجزا وعقبة قل من يقتحمها بسبب غرقها في الجزئيات حتى يكاد من يعيش فيها ينسى ويطمس معالم شقه الوجداني والروحي،
فكما أن المدنية ببعدها المادي تعاني من تلوث الهواء وسقم المناخ، وتمنع من يعيش فيها من التمتع بصحة جسمانية كاملة، فكذلك تمنع الجانب الوجداني والروحي من الصفاء التام،
لهذا يصعب أن نجد من يعيش في ضجيج المدنية ويخالط الناس كل يوم ذا أفق خيالي ووجداني واسع...،
ومنذ القديم كانت النبوة ـ وهي التي تعتمد غالبا على إرهاصات ومعجزات خارج نطاق السنن الكونية ـ نموذجا للعزلة وثمرته الروحية
كنموذج : عزلة موسى عليه السلام في الميقات اربعين ليلة، وعزلة محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء لأيام عديدة قبل النبوة،
ولعل أكبر تحد يواجه حقل الإبداع اليوم هو عدم القدرة على العزلة والخروج من زحام المجتمع، بسبب وسائل التواصل المتاحة في البادية والحاضرة،
إلا من أخذ نفسه بذلك وانزوى في عزلة تامة،
ويمكن أن نضيف كذلك حب الشهرة والظهور إلى شُحِّ الإبداع، لما تعكره كثرة الندوات واللقاءات الروتينية على فكر وخيال المبدع،
ومن الطريف أني لما اطلعت على ترجمة دارون الفيته أكثر الناس بعدا عن الأضواء فقد عاش ثلثي حياته في منزله في الأرياف بعيدا عن العاصمة لندن، رغم إلحاح الكثيرين عليه بالعيش فيها، وهذا ما أدى إلى ظهور نظريته العجيبة التي لا تزال موضع أخذ ورد رغم تطاول الزمن، ولا يهمنا هل صحت أم لم تصح بقدر ما يهمنا ما ذكرناه عن العلاقة بين الإبداع والعزلة.
بـــــــــدر كـــــــامـــــــل