أرمد البصيرة ذاك الذي يظن أن مياه نهرنا تجددت، نهر النظام أعني، بل هي راكدة على حالها، كل ما هنالك، ان حركتنا تسارعت فيه فتوهم البعض تيارا جديدا قد غمره، ومع هذا لا فضاء لغارب سوى القبر، ليقاوم بعنف ضرورة انقراضه، وفي تلك النقطة، كأن الزمن قد توقف بنا، فلا الماضي يمضي، ولا الآتي يأتي، ليتلون الأفق بلون غامض، وتسود الفوضى، فوضى التكوين.

 جماعة حاكمة أفكار أبنائها وأقوالهم نبتت من أرض قطبية وغدا تسير عليها أفعالهم، أفرادها يؤمنون بالجماعة لا الوطن، فلا وجود لهذا المفهوم في أدبياتها، إنما هي الأمة، وما دامت الأخيرة غير متعينة على أرض الواقع، فلتكن الجماعة الوطن والأمة معا، وخطورة هذه الرؤية تكمن لحظات انتصاب مصلحة الجماعة في مواجهة المصلحة الوطنية، حينها تُداس الأخيرة، وكأن شيئا لم يكن.

 هذه ليست نبوءة بل تسجيل لما حدث ويحدث ليستمر في الحدوث، وأخطر تلك اللحظات يوم يختار أفراد الجماعة بين مصلحتها وخراب الوطن، فتكون هي خيارهم ليتعثر الوطن بها، فيدكها دكا وينهض، لكن الثمن سيكون فادحا.

 وإذا شئت فلتعرض تصريحات قيادات الجماعة على القطبية كنموذج تفسيري حتى لا تخلط يوما بين السببية والصدفة، لتتذكر معي "طظ في مصر"، وعن عبد المنعم أبو الفتوح لدى فصله من الجماعة أنه "نقض عهده مع الله"، وأن هزيمة مصر في حربي 56 و67 وسقوط نظام مبارك انتقام إلهي بعد اعتقالات الإخوان، و تعبيرات كـ "الجماعة الربانية"، و"الفلوطة" (الذي يتزوج من غير الإخوانية وإن كانت سلفية)، وغير ذلك كثير، هي انعكاسات لروح تكفيرية، وافرغ كل ما في ذاكرتك من آراء ومواقف لهؤلاء بدت لك غرائبية، لتنتظم داخل هذا النموذج التفسيري؛ الفكر القطبي، الذي البس الجماعة روح القدس، فالمفارق لها مهرطق محروم، والآخر لديها يؤقت وجوده بتمكينها، لكن علينا أن نستدرك فنشير إلى أن هذا النموذج هو من النوع "الاجتهادي"(1)، معني هذا أن نموذجنا لا يدعي ولا ينبغي له أن يدعي قدرة تفسيرية كلية (كالنموذج الموضوعي) أي أنه يفسر إلى حد ما، وهذا الحد يقف عند ممارسات بلغت من الانحطاط الخلقي ما لا يستطيع حتى التقسيم القطبي للمجتمع (جماعة مسلمة ومجتمع جاهلي) أن يستسيغه أو يشرعنه.

 نعم سلطانهم نكسة للثورة كتلك التي حطت على ثورات كثيرة عبر التاريخ، لنذكر منها الثورة الفرنسية، شبه كبير بين ثورتنا (التي لم تكتمل) وتلك الثورة الأوروبية، وهم "يعاقبة" ثورتنا، وإن بركان أحقادهم الحي  لمرشح للفوران لتندفع من فوهته حمم الدماء أكثر فأكثر!.

نتيجة أخرى تطل برأسها من نموذجنا التفسيري أن الجماعة لن تقف عند أخونة الدولة، بل أخونة المجتمع جميعا هو مبتغاهم، وبعبارة قطب "إلغاء وجود قائم بالفعل لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته"!. وما السيطرة على مؤسسات الدولة سوى هدف مرحلي لا غاية نهائية، لتكون تلك المؤسسات أداة أسلمة "المجتمع الجاهلي" نهاية.

 والمخيف أن المشروع الإخواني للسيطرة يسير بخطى ثابتة وإن انعكست في صفحة عقول النخبة (الليبرالية واليسارية) كخطوات مضطربة، كذا فإن تنظيمات هذه النخبة التي أنشئت على عجل لا تنبأ بقدرة على المنافسة قريبة، فعوضا عن كونها اصطنعت لخدمة طموح أشخاص بعينهم، تشي بذلك أفكار مهوشة وأيديولوجيات هشة، فإن أبنيتها يزيدها تصدعا (وبخاصة تلك التي يعتلي قيادتها نجوم لامعة) جماعات الانتهازيين والوصوليين التي تراكمت طبقاتها، فأطبقت على أنفاس الشباب، ليلهثوا وهم في أماكنهم بلا حراك(2)، لتلوح نذر انهيارات بها في الأفق، والانتخابات التشريعية مفتتح البداية، بل إن الجبهة التي تمترسوا داخل أسوارها سرعان ما سينسل منها الحزب تلو الآخر، وفي المقدمة الأحزاب الليبرالية حليف الإخوان بالمرحلة المقبلة إن سارت الأمور في مسارها الرتيب بلا مفاجآت.

 إذن نحن أمام جماعة فكرها فاسد وعزمها صلب لا يلين، لا تسمح بوجود الآخر (الجاهلي)، فوجوده مؤقت بتغلب "الجماعة المسلمة"، وقياداتها لم تعرف التبطل (كالنخبة) يوما بل قضوا أعمارهم في عمل تنظيمي مضن كان نتاجه ما نرى، ونخبة انتهب الإعلام جهدها، وتتوقى العمل الجاد كما يتوقى الحر مدارج الهوان، وشباب غاضب يتخبط بين جنبات رد الفعل، وعلينا أن ندير الكلام بيننا بعد ذلك عن هذا المشهد كما لو كان خصبا أو قابلة للإخصاب!.

  لا بديل في هذه المرحلة عن وجود حكومة تكنوقراط تقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، لتقيم دولة مؤسسات حقيقية، أما الحديث عن حكومة وحدة وطنية فهو حديث فارغ، لأن تلك النخبة ـ الأرض التي مات في تربتها الجدباء كل أمل بذرناه ـ ستقسمها إلى مناطق نفوذ.

 بالطبع هذه الرؤية لا أمل لإنفاذها إلى أرض الواقع حاليا، لأن من في السلطة الآن لا يسعون إلى إقامة دولة ديمقراطية حديثة، بل جل طموحهم أن يؤسسوا لدولتهم، والوقت خادم أمين لهم ما دامت السلطة بأيديهم، إذن هي موجة ثانية للثورة أعظم ارتفاعا من الأولى تكسح تسلطهم، وشروطها حاضرة على أرض الواقع كما حددها لينين عندما تحدث عن "الوضع الثوري"، فقد اشترط للثورة نشوب أزمة في القمة؛ أي لدى الطبقة السائدة، فلا يكفي عادة أن "لا تريد القمة بعد الآن" بل أن "لا تستطيع القمة ذلك"، وهو وضع قائم بالفعل؛ إذ أن مؤسسة الجيش لن تكون قادرة على الاحتفاظ بكينونتها كمؤسسة وطنية إذا تطاول حكم الإخوان، والمعادلة هنا صفرية، "إما..أو"(2)، والشرط الثاني الذي أبرزه لينين هو تعاظم بؤس الطبقات الدنيا، وهو ماثل أمامنا في ظل أزمة اقتصادية خلقها سوء الإدارة، من ثم تكون الجماهير مدعوة بفعل الأزمة أو بدافع من "القمة" (أو الإثنين معا) إلى الثورة.

 يبقى عامل أخير لم  يورده لينين في أسباب الثورة (وما كان له أن يذكره بحكم الأيديولوجية الماركسية)، وإن كان فاعلا رئيسيا حتى في ثورته، أنه "المعنى الذي يسكن جوف كل فعل .. فيبلغ به أقصى مدىً له"(4)، وهو في حاجة لأن يسكبه أصحاب القدرة في نفوس الناس لتتكون الإرادة التي "هي حلقة الوصل، بين العالم الخارجي متمثلاً في هذه العناصر (المعطيات التي ذكرناها)، وبين الفكرة أو المعنى، لينتج عن هذا الائتلاف الفعل"(5)، ولا أقصد بالمعنى هنا فكرة مبتسرة كتلك التي تسلطت على فعلنا، فكانت الموجة الأولى للثورة، بل فكرة مكتملة، انعكاسها على أرض الواقع لا يقف عند حد الهدم، بل يقيم بناءا عظيما يقينا قيظ التبعية، وتنتصب قامتنا عند منتهاه لتتلقى وحي القدر، قدرنا الذي جحدناه طويلا، وتلهينا عنه بصغائرنا، لينصرف عنا وينتظر مترقبا.

 معضلتنا هي الزمن، فأذرع الإخطبوط الإخواني تمتد إلى مؤسسات الدولة، وقد بدأت عملية إحلال وإبدال، لتسير وتيرتها بانتظام، لا يبالي بصيحات معترض أو لعنات لاعن، وكلما تقادم الزمن كلما كانت خسائر التغيير أكثر كلفة، ولو قدر للجماعة أن تعشش داخل أجهزة القمع بالدولة (الشرطة والجيش)، فالموجة الثانية للثورة مرشحة لأن تتمثل النموذج الليبي أو السوري.

 الخلاصة، أن أطروحة الاستبداد ببلادنا قد جاوزت المدى، وآن آوان طباقها(6)، لكن التاريخ عودنا أن لا يكون على عجلة من أمره، يسير الهوينى في برود، غير عابئ بآمال وطموحات بل وبأجيال تتهشم تحت قدميه الهمجية، من ثم لا مانع أن تُدفع كرة التغيير من "القمة". وهي دعوة للقمة أن تُقدم، وللثورة أن تتعقلن بالواقع، حتى لا نقدم له ذريعة بقاء وحجة تأبد، وإن كان نسبيا.

 (1) المصطلح للدكتور عبد الوهاب المسيري، ويأتي في مقابل النموذج الموضوعي المادي الذي يتجاهل تركيبية الإنسان، ويتعامل معه ككائن مادي يتحرك في بيئة مادية ويرصد بشكل آلي.

(2) يؤيد زعمنا تلك الكلمة التي ألقاها الدكتور حسام عيسى مسؤول الهيكلة بحزب الدستور في استقالته،  والأمر الذي لم يتوقف عنده أحد أن المسؤول التنظيمي الأول في الحزب الكبير لم يكن يملك خبرة تنظيمة تقدر بيوم واحد قبل توليه تلك المسؤولية!، وليس حال الأحزاب الأخرى بأحسن منه.

(3) إن القلق من تدخل الجيش يجب أن يكون في أدنى درجاته، لأن تجربة الحكم التي خبرها بعد سقوط مبارك قد كسرت حدة شهوة السلطة لديه، وتعقلنت قياداته بالواقع الذي جهر في وجوههم بحقيقة أن عهد الحكم العسكري قد مضى بغير رجعة، وان تحدي تلك الحقيقة التاريخية سيكون مكلفا لدرجة صفرية.

(4) (محمد السيد الطناوي، الإنسان الأعلى، "الإنسان الأعلى والحرية"، ص88، زهراء الشرق)

(5) السابق، ص71

(6)  طبقا للديالكتيك الهيجلي (الأطروحة ـ الطباق ـ  التركيب)

الكاتب/ محمد السيد الطناوى

[email protected]

  • Currently 1/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 315 مشاهدة

ساحة النقاش

tulipe

tulipe
IDB »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

291,387