مدرسة تطاولت قامات رموزها فبلغت مسارح النجوم، زرعوا بأفكارهم ورؤاهم كل نبت قد ينبت أسمى ما تصبو إليه مجتمعاتنا، لكن الاستبداد بأنظمته ـ عبر العصور ـ أبى إلا أن يئد تلك الأفكار والرؤى، فلا يُسمع لها غير صوت هامس، لا ينفذ إلا لأشد الأسماع انتباها. وفي المقابل أتاحت تلك الأنظمة للإسلامية التقليدية أن ترعد أفكارها في سماء بلادنا، حتى كادت تصم آذان الناس، فلا يسمعوا صوتا لغيرها، وما استتبع إرعادها ذاك شئ من خير ـ كثير أم قليل ـ يهبط إلى مجتمعاتنا فتغنى به عما سواه.

 

نعم هذه مدرسة رغم سموق قامات روادها، ورغم تفردهم بين نظرائهم، كلٌ في العصر الذي كانت به حياته، غير أن آرائهم قبرت ـ على الدوام ـ فلم يتردد صداها في حياة الناس، باستثناء الفترات التي قدر لأحدهم أن يحوز سلطان تنفذ به آرائه إلى أرض الواقع، ونادرا ما كان يثقل القدر كاهل أحدهم بشئ من سلطان، إلا على أتباعهم ومريديهم الذين آمنوا بما بعثوا به وصدقوه، ثم لم يألوا جهدا في نشره بين الناس.

 

ومن بين هذه الندرة التي ملكت السلطة فأنفذت رؤاها إلى مجتمعها سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه وأرضاه). هذا المتفرد العظيم، الذي تتعدد جوانب تفرده وتميزه فلا نكاد نحصيها، ويعنينا في هذا الموضع أن نسلط شعاعا من ضوء على جانب من جوانب هذا التفرد، وهو إقراره للمنطلق الأول من منطلقات تيارنا، "الثورية أو الجذرية كمنهج تغيير"، إذ عددت لنا سيرته مواقف تؤكد على هذا المنطلق، لعل أشهرها تلك الرواية التي سأل الناس فيها أن يقوموه إن رأوا فيه اعوجاجا، فقال له أحدهم:"والله لو علمنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا"، فحمد الله أن جعل في المسلمين من إذا جار عمر قومه بسيفه.

حاكم يقر الخروج ـ بالقوة ـ على نظامه إن شابه ظلم أو طغيان!!.

إن هذا النموذج الفريد ربما لا يكون له نظيرا، ليس فقط في تاريخنا بل في تاريخ الإنسانية جمعاء. ويتصدر تيارنا الإسلامي التقدمي ذاك المتفرد، كيف لا؟ّ!، وهو أول من رسخ لتلك الفكرة في المجتمع الإسلامي الأول، فكرة التقدمية.

 

هو المجتهد الثاني ـ كما وصفه الأستاذ العقاد ـ بعد رسولنا الأكرم صلوات الله عليه وسلم)، فالصحابي الجليل هضم الماضي (التجربة النبوية)، ثم انطلق في آفاق الحاضر يجتهد رأيه، لا تابعا لرأي غيره حتى لو كان رأي المعصوم (صلى الله عليه وسلم) ـ وذلك في أمور كثيرة ـ مدركا ضرورة التغيير لمواكبة تغيرات الواقع، متطلعا إلى المستقبل، فقد كان حاضرا لديه ( من ذلك اجتهاده في مسألة تقسيم أرض السواد، إذ رفض عمر "رضي الله عنه وأرضاه" أن يقسم الأرض كما سبق وفعل رسولنا الكريم بأرض خيبر، مبررا رأيه ذاك بحفظ حق الأجيال القادمة، إضافة إلى خوفه من مفاسد قد تنشئ عن توزيع الأرض).

 

وإذا كنا نجد المنطلق الأول من منطلقات "الإسلامية التقدمية" حاضرا في التجربة العمرية، فكذلك حال المنطلقات الثلاث الأخرى ( العدالة الاجتماعية كنظام اجتماعي، الديمقراطية كنظام سياسي وـ بالقطع ـ الإسلامية كمرجعية نهائية)، كما شكلت هذه المنطلقات ـ التي عددناها ـ القضايا التي تمحورت حولها سير رواد تيارنا الأوائل جميعهم، أما المنطلق الرابع "القومية العربية كتطلع وحدوي" فقد ادخره التاريخ ليبسطه في العصر الحديث، فيندفع مفكرو عصرنا ذاك ليدلي كل منهم بدلوه ـ في تلك المسألة ـ بما يتفق وتوجهه الفكري.

فمنهم من شيد بناء القومية العربية على أساس من الجنس أو العنصر، ومنهم من نبذ هذه الفكرة ـ جملة وتفصيلا ـ على أي أساس من الأسس، وعدها دعوى جاهلية، ليتطرف هؤلاء على الجانب المقابل، وهو الموقف الذي تمترست وراءه "الإسلامية التقليدية"، بينما نحى أعلام تيارنا (السيدان جمال الدين والكواكبي) منحى مغاير لهذين المنحيين المتطرفين، فكان مذهبهما في القومية قائما على رؤية مفادها أن العربية هي لسان وآداب وثقافة، وطريقة للعيش في شتى نواحيه، و"أن كل أمة ينبغي أن تتمسك بجامعتها القومية، وأن ذلك لا ينافي الإسلام في شئ" (كما قال مولانا جمال الدين)، وأن للوحدة دعائم عدة لابد أن تتوافر حتى يرتفع بناءها راسخا شامخا.

 

"الإسلامية" و "التقدمية" ـ ماذا نقصد بهذين المصطلحين؟

الإسلامية لدينا هي “الأصول العامة المطلقة، والتي تحتوي علي مضامين أخلاقية، وفلسفية، وتشريعية، مصدرها الدين الإسلامي ( وتشاركه في كثير منها الأديان السماوية الأخرى)، وهذه الأصول العامة المطلقة تحكم بصورة مباشرة وغير مباشرة (عبر تجنب ما قد يتعارض تعارضا قطعيا مع ما تدعو إليه) كل فعل يقوم به معتنقيها، وتُعني تلك المرجعية بالدرجة الأولى بتحقيق مصالح الناس”.

 

والإسلامية تبعا لهذا التعريف تأبى أن تكون قاصرة على جماعة دون أخرى، أو تيار دون آخر، إذ تفتح ذراعيها لجميع التيارات ليدخلوا تحت عباءتها، شريطة أن يبتغوا المصلحة العامة (فحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله كما قال الإمام ابن القيم)، وألا تتعارض الأفكار التي يروجوا لها تعارضا قطعيا مع مطلقات المرجعية الإسلامية، ومن ثم فهذه المرجعية لا تقف حائلا بين أي تيار أو جماعة وبين أن تبدع أو تتبنى ما عنى لها من فكر، أو فلسفة، أو تشريع تتحقق به مصالح الناس، بما لا يتعارض مع المطلق...." *.

 وهنا نستطيع القول بأن دعاة المرجعية الإسلامية الذين يقدمونها بحسبانها أيدلوجية في مقابل ـ على سبيل المثال ـ الاشتراكية أو القومية...، هم جاهلون تماما بماهية المرجعية الإسلامية، بل ومتاجرون بها (وأغلبهم كذلك)، فهي مظلة تتسع لمختلف التيارات الفكرية، ومن ثم التعامل معها باعتبارها أيدلوجية ضيقة ذات  توجه محدد، وإيهام الجماهير بذلك، هو نوع من الدجل والشعوذة الذي تمارسه القوى الإسلامية.

 

وإذا انتقلنا لتوضيح ماذا نعني ب"التقدمية" في تيارنا؟ سنجدها تقوم على دعائم ثلاث:

أولا: استيعاب الماضي، بمعنى الاطلاع على التراث وهضمه بشكل كامل، ثانيا: مواكبة تغيرات الواقع والتعاطي معها بما يتفق والشخصية الثقافية التي تشكلت على أساس الدعامة أو القاعدة الأولى، أما الدعامة الثالثة فتتمثل في التطلع دوما إلى المستقبل، والاهتمام بالمصير.

 

أهمية وجود هذا التيار: (السمات المميزة)

هذا التيار ـ الذي ندعو لإنشائه ـ هو تيار قائم على أسس مدرسة فكرية أصيلة تمتد جذورها في عمق تاريخنا العربي الإسلامي، يحمل فكرة واضحة محددة المعالم والمنطلقات، وهو أمر ـ بكل تأكيد تفتقده الأحزاب والجماعات التي تنتمي لذات الدائرة؛ الدائرة الإسلامية، إلى جانب ذلك فالمنطلقات التي نتحدث عنها هي بمثابة دعائم لمشروع النهضة المأمول، بل لا يستطيع أي مشروع نهضوي متكامل أن يتجاهل أيا من العناصر التي عددناها كمنطلقات لتيارنا (وهي الثورية أو الجذرية كمنهج تغيير، العدالة الاجتماعية كنظام اجتماعي، الديمقراطية كنظام سياسي، القومية العربية كتطلع وحدوي، والإسلامية كمرجعية نهائية).

 

إضافة إلى ذلك هناك أهمية عملية لوجود هذا المشروع ـ في المرحلة الراهنة ـ على الساحة السياسية، فمن الواضح أن جزءا كبيرا من مجتمعنا يتجه بقوة نحو الإسلامية السياسية، وذلك رغم عدم الوضوح الذي تتسم به أطروحات القوى المتبنية تلك المرجعية، واتخاذهم مسارا سياسيا مخالفا ـ ولن نقول معاديا ـ للمسار الثوري، فهذه القوى جميعها هي ربيبة "الإسلامية التقليدية"، والتي لطالما كانت معادية للنهج الثوري، (وهذا التوجه نحو تلك القوى راجع ـ في جزء كبير منه ـ إلى أنها هي المتواجدة بحق على أرض الواقع، والمتواصلة بقوة مع الجماهير عبر العمل الدعوي والدور الاجتماعي والخدمي البارز الذي تقوم به، في المقابل نبصر التيارات المنافسة خلو من مثل هذا التواجد أو ذاك التواصل!)، ومن ثم نحن نزعم أن هذا التيار (وهو ينتمي لذات الدائرة) إضافة إلى كونه ـ في أفكاره ـ الأكثر ملامسة لتطلعات الجماهير سيكون بمثابة المنقذ لهم من الصراع الناشئ داخل ذواتهم الناجم عن توجههم نحو قوى لا تعبر بشكل كامل عما يصبون إليه.

 

وإلى جانب كل ما ذكرنا نعتقد أن تيارنا ذاك قد يمثل النافذة التي يطل منها ـ من جديد ـ تيار أصيل، اختفى من حياتنا السياسية، أو أصبح وجوده ـ رغم أصالته تلك ـ وجودا هامشيا بها، وهو التيار القومي.

وفي الختام نشير إلى أن كون هذه المدرسة تمثل الإسلامية الحقة، هي حقيقة توشك أن تكون واضحة بذاتها، إذ ليست بحاجة إلى برهان يقوم على صوابها؛ لأن كل إنسان مؤمن ـ صاحب عقل ـ يدرك أن الأديان ـ بصفة عامة ـ لم تبعث بها السماء لتقر ظلما واقعا على العباد؛ ليس فقط ذاك الظلم الذي يجنيه الإنسان على نفسه بعبادته غير مولاه الذي خلقه، بل الظلم بشتى أنواعه، (فحاشا لله أن تقر الإسلامية الحقة إطاعة حاكم مستبد فاسد فاسق .....!!، وحاشا لله أن تكبل ـ تلك الإسلامية ـ يد الدولة في مواجهة ثروات تتضخم ـ ما دام أصحابها قد أدوا زكاتها ـ وهناك بالمجتمع من لا يجد قوت يومه!!، وصدق القائل "إذا جاع مسلم فلا مال لأحد"*، وحاشا لله أن تتناول هذه الإسلامية واقعنا بآراء قد أصابها البلى من جراء تداولها عبر القرون، وهذا رأي صواب لا يحتمل الخطأ.

* عمر بن الخطاب (رضي الله عنه وأرضاه)

 

الكاتب / محمد السيد الطناوى

[email protected]

المصدر: http://on.fb.me/xpZE1U
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 366 مشاهدة

ساحة النقاش

tulipe

tulipe
IDB »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

291,846