عندما قام الفيلسوف اليوناني الأشهر والأعظم أرسطو بوضع علم المنطق ، حدد القوانين التي يقوم عليها في ثلاثة قوانين ، وقد رأي أرسطو أنها بديهية أي واضحة بذاتها وليست بحاجة إلي برهان وان صدقها ، وأن صدقها ضروري في كل زمان ومكان ومن ثم لا تخضع للتغيير أو التبديل أو التنقيح مهما تغيرت المعرفة الإنسانية ، لأنها تتفق مع بداهة العقل السليم ، وتتلخص هذه القوانين في الآتي : ـ
أولا قانون الهوية ( أو الذاتية ): ـ
ينص هذا القانون علي أن "الشئ هو نفسه" وهو يعبر عن أبسط الأحكام لأن أبسط الأحكام هو الحكم بأن الشئ هو نفسه مثل أن نقول " الإنسان هو الإنسان" ، ورمز هذا القانون "أ هو أ" ، ويري أرسطو أن هذا القانون هو أساس التفكير المنطقي لأنه يشير إلي ضرورة التقيد بذاتية مدلول اللفظ الذي نستخدمه فلا نخلط بين الشئ وما عداه ، ولا نضيف للشئ ما ليس فيه ، ومخالفة هذا القانون يدفعنا إلي التناقض ، فلكي نفهم بعضنا البعض يجب أن نتحدث بلغة واحدة لا يحتمل أي لفظ من ألفاظها أكثر من معني واحد.
ثانيا قانون عدم التناقض : ـ
"نقيض الشئ هو نفيه" فنقيض الحكم بأن هذا الشئ "قلم" هو الشئ نفسه "ليس قلما" ، والكلام المتناقض هو الذي ينفي بعضه بعضا ، وفي ذلك مخالفة لقانون الهوية لأن إذا كان الشئ هو نفسه بمقتضي قانون الهوية ، فلا يجوز ـ حينئذ ـ أن نصف الشئ نفسه بصفة وبنقيض هذه الصفة في آن واحد وإلا نكون قد وقعنا في تناقض واضح ، ورمز هذا القانون هو "الشئ لا يمكن أن يكون "أ" و "لا أ" في آن واحد .
ثالثا قانون الوسط المرفوع أو الثالث الممتنع: ـ
إذا كان "الشئ هو نفسه" طبقا لقانون الهوية . وإذا كان لا يجوز منطقيا وطبقا لقانون عدم التناقض أن نصف شيئا واحدا بأنه هو نفسه وليس نفسه لاستحالة ذلك منطقيا حيث لا وسط بين النقيضين ويترتب علي ذلك هذا القانون الثالث ، ورمز هذا القانون هو "إما أن يكون الشئ أ أو لا أ" .
هذه هي القواعد الأساسية التي يقوم عليها المنطق لدي أرسطو ، وبالرغم من أنها بديهية وأن صدقها يكون ضروري في كل زمان ومكان ولا يخضع للتغيير أو التبديل أو التنقيح مهما تغيرت المعرفة الإنسانية لأنها تتفق بداهة مع العقل السليم ، كما قال بهذا أرسطو، ولكن فيما يبدو أن لجماعة الأخوان المسلمين منطقا ـ إذا جاز لنا أن نسميه منطقا ـ لا يحتوي علي تلك المسلمات بل بالأحرى هو يخالفها علي طول الخط ، فمنذ أن بشر الأخوان بأنهم في الطريق لتأسيس حزب سياسي ، وكثرت أحاديثهم حول الدولة المدنية الحديثة القائمة علي مبدأ المواطنة واستمرت تلك الأحاديث قائمة في وسائل الأعلام المختلفة إلي أن ظهر برنامج الحزب مؤخرا وتم توزيعه علي مجموعة منتقاة من النخبة السياسية وعرضته وسائل الإعلام المختلفة ، وعندها فغرت الأفواه واتسعت الأحداق دهشة ، فالدولة المدنية في برنامجهم تتصدرها هيئة من "كبار علماء الدين" تمثل جهة رقابية سابقة للمؤسسة التشريعية ، والمواطنة في برنامجهم هذا لا تتعارض مع حرمان غالبية الشعب المصري ـ حوالي 60% يمثلون النساء والأقباط ـ من الترشح لمنصب رئيس الجمهورية هذا فضلا عن حرمان الأقباط من تولي منصب رئيس الوزراء أيضا ، ورغم أن التناقض واضح وسافر ولا يحتاج إلي أي إضافة بالشرح والتوضيح ،وهو ما يخالف البديهيات المنطقية والتي اشرنا إليها مسبقا في حديثنا عن الأسس التي وضعها أرسطو لعلم المنطق ، بيد أن هذا ليس كل شئ فلتلك الأطروحات دلالات هامة لابد من أن نذكرها أثناء تناولنا لبرنامجهم بالتحليل ، أول هذه الدلالات ما يكشفه البرنامج من جمود وعقم فكري تعاني منه الجماعة جعلها تتبني أراء فقهية تنتمي إلي عصور سابقة تفصلنا عنها قرون طويلة ولا تتناسب وظروف ومقتضيات العصر ، ثانيا انغلاق الجماعة علي نفسها وعدم استفادتها من أراء وأفكار العديد من المفكرين الإسلاميين المعاصرين ذوي الثقل أمثال الدكتور العلامة يوسف القرضاوي، والدكتور محمد سليم العوا ، والمستشار طارق البشري والخاصة بالنظام السياسي في الدولة الإسلامية ، فما قدمه هؤلاء الأعلام في هذا الشأن يرتقي ويتجاوز بمراحل عديدة ما طرح في برنامج الإخوان من أفكار، ثالثا ما أشار إليه عدد من المراقبين في تعليقاتهم علي البرنامج من أن لغته مطبوعة بطابع دعوي واضح ، وتكمن خطورة تلك النقطة ليس فقط في أن سيطرة غير السياسيين علي العمل السياسي يكون له آثار جسيمة تعلمها الكافة بل يتمثل الجزء الأكبر من تلك خطورة في اعتقاد هؤلاء أن ما يقولون به هو دين و بأن هذه الاجتهادات الفقهية البالية هي نصوص مقدسة لا سبيل لدحضها أو للتغيير فيها ، وهو ما عكسته تصريحات المرشد مهدي عاكف بأن "البرنامج تم وضعه وفق رؤية واختيار عقائدي ، لا يمكن المساس بخطوطه العريضة والتي استند فيها علي العقيدة والشريعة واجتهادات الفقهاء الكبار وإجماع الأمة" . وإذا ما قمنا بإلقاء مزيد من الضوء علي أهم مآخذنا علي البرنامج نفسه مستخدمين في ذلك صياغات علي غرار الصياغات الأرسطية السابق ذكرها ، فنقول بأن "المواطنة هي المواطنة" ،ولا اختلاف علي تعريفها فهي تعني تمتع كافة المواطنين بحقوق وواجبات متساوية وفق مبدأي المساواة وتكافل الفرص وعدم التمييز بينهم بسبب الدين أو اللون أو الجنس ، وهو يخالف ما قدمه الإخوان في برنامجهم في حصر حق الترشح لمنصب رئيس الجمهورية في المسلمين الذكور دون النساء والأقباط ، وحصر منصب رئيس الوزراء في المسلمين دون الأقباط ،"كما أنه لا يمكن أن تكون الدولة مدنية ولا مدنية في آن واحد" فلا يجوز الحديث عن الدولة المدنية الحديثة ثم يلحق ذلك حديث عن مجلس أعلي للفقهاء يقفز فوق السلطة التشريعية و" تسري قراراته علي رئيس الجمهورية عند إصداره لقرارات بقوة القانون في غيبة السلطة التشريعية ورأي هذه الهيئة يمثل الرأي الراجح المتفق مع المصلحة العامة في الظروف المحيطة بالموضوع" كما هو مذكور في برنامج الإخوان ، ويترتب علي ذلك انه "إما أن تكون الدولة مدنية أو دينية " ، وهي في حقيقة الأمر ـ أي الدولة ـ في برنامج الإخوان دولة دينية تحاول أن تخفي معالمها صياغات ملتبسة غير أنها لم تنجح في ذلك نجاحا يذكر، بيد أننا في النهاية لا يسعنا إلا أن نكون ممتنين للجماعة فهم أخيرا أزاحوا النقاب قليلا عن شئ من أفكارهم ورؤاهم بدلا من سياسة تصدير الشعارات الفضفاضة التي انتهجوها طويلا .
ساحة النقاش