الانفلات الأمنى تم بـ«مخطط جهنمى» والطغاة أرادوا مقايضة الأمن بالحرية
بعد إلقاء «مبارك» لخطابه الأول فى الساعة الأولى من يوم ٢٩ يناير ٢٠١١ صارت الجموع فى غاية الحماس، وفى غاية الغضب، لقد كان خطاب مبارك يمثل قمة الصلف والغرور، ما جعل كل مواطن مصرى يشعر بإهانة موجهة له شخصياً.
الأيام التالية كانت تجمع بين الفرحة بالتجمع الضخم، والحيرة فى الخطوة التالية.
سئلت مئات المرات من أشخاص لا أعرفهم عما ينبغى أن نفعله، وكنت أجيب بأمرين، الأول أننا باعتصامنا فى الميدان نشكل قوة ضغط كبيرة جدا لا يمكن تجاهلها.
والثانى أن الناس هى التى صنعت الثورة، وسوف يحافظون عليها، أى أن القرار فى النهاية سيكون لهذه الجموع.
كنت قلقاً، ولكننى كنت متفائلاً جداً، كنت أرى ما بشّرْتُ به طوال شهور وشهور يتحقق، يتحقق بشكل أعظم وأجمل مما تخيلته! لقد كانت آرائى المبشرة بهذه الثورة مثار سخرية حتى بين النخبة!
أذكر أننى كتبت مقالة بعد انتخابات ٢٠١٠، وكان عنوانها: (بل قد تضاعف تفاؤلى)، وكتبت فيها- استكمالا لمقالات أخرى كانت تبشر بقرب النهاية- وأذكر أن صديقا عزيزا قد سخر منى علنا (من خلال الفيس بوك)، ما اضطرنى لحذف تعليقه على المقالة، وقد سخر بشكل سخيف مع أنه أستاذ جامعى .
أنا لا أذكر هذا الكلام الآن لكى أضيف سبقا لشخصى الضعيف، بقدر ما أذكره لكى يتعلم الناس أنه لابد من قليل من التفاؤل، ولابد أن نتعلم أن ننظر إلى بعض الآراء (غير الواقعية) بشىء من الرحمة، لكى لا يهدر المجتمع طاقته الفكرية، وقدرته على التجدد، وذلك يكون بوأد الخلاف فى الرأى، فيصبح الناس مجتمعين على رأى واحد حتى لو كان خطأ. استمر الاعتصام، وطائرات الهيلكوبتر تحلق فوقنا صباح مساء، تصور وترصد وترسل التقارير.
وفى يوم الأحد ٣٠ يناير، حلق فوق الميدان تشكيل (إف ١٦) مكون من طائرتين، وكان تحليقا منخفضا، وقد تسبب ذلك فى حالة من القلق بين المتظاهرين من شدة المفاجأة، فبدأ المتظاهرون بالهتاف فى شكل تلقائى: (حسنى اتجنن!).
كانت الأخبار السيئة المتعلقة بالانفلات الأمنى تقلق المتظاهرين بشكل جنونى، وقد كان المخطط جهنميا، فقد أراد الطغاة مقايضة الأمن بالحرية، وكذلك أن يشغلوا هؤلاء المتظاهرين بالدفاع عن منازلهم.
لكن الذى لم يكن فى حسبانهم أن هذا الشباب المصرى العظيم سيرتب نفسه بحيث يحرس البيوت فى الليل، ويرابط فى الميدان صباحا، وكذلك أن يتم ترتيب الأمور (بارتجال رائع) بحيث يظل الميدان ممتلئا دائما، فكأن الشعب المصرى قد قام بعمل ورديّات تضمن حراسة المنازل والممتلكات، وتضمن كذلك استمرار الاعتصام.
من أهم ما حدث هذا اليوم (الأحد ٣٠ يناير) أن الصحف المستقلة بدأت برفع سقفها، وبدت العناوين الرئيسية أكثر تحررا مما عهدت من قبل، «المصرى اليوم» صدرت صفحتها الأولى بصورة ضخمة لأحد ضباط الجيش الذين انضموا للثورة وهو محمول على أعناق الثوار، وفوق ذلك عنوان: (مؤامرة من «الأمن» لدعم سيناريو الفوضى).! وجاءت صحيفة الشروق بعنوان: (الشعب يتقدم ومبارك يبدأ التراجع)!
كانت العناوين زاعقة، وكان من الواضح أن الصحف المصرية اتعظت بما حدث فى تونس، فبعض الصحف هناك صدرت تمجد فى زين العابدين حتى آخر لحظة، ثم فجأة أصبحت العناوين: (إرادة الشعب تنتصر) ...!
أما صحافة مماليك الدولة، فكانت عناوينها تبعث على الضحك أو الغثيان، ويكفى أن نعرف أن «الأهرام» صدرت فى هذا اليوم تتحدث فى صفحتها الأولى عن مظاهرات مكونة من عدة مئات يقودها مصطفى بكرى، ومحمد عبدالقدوس ...!
كما لم يخل الخبر من تلميحات بالتدخل الخارجى، والاتهام بأعمال السلب والنهب، من خلال ذكر ما حصل فى (أركاديا مول)، وغير ذلك من طرق العرض الرخيصة التى تؤلب الرأى العام ضد الثورة.
فى هذه الأيام، أعنى الأيام الأولى من الأسبوع الأول من الاعتصام، بدأت تظهر (أخلاق الثورة)، أو (أخلاق الميدان) ...! وفى هذا الموضوع من الممكن أن نكتب مئات المواقف، ومئات النوادر، وأن نذكر آلاف الشرفاء.
لقد أصبح الجميع يشعر بانتماء لهذا المكان!
وهو انتماء من نوع خاص، أنا لم أعرف مثل هذا الانتماء من قبل.
إنه أشبه ما يكون بانتماء الأطفال لحضاناتهم ...!
انتماء بدائى غيور، وبرغم ذلك حدثت خلال فترة الاعتصام فتن بين المعتصمين لا يمكن تخيلها ...! كنا طوال اليوم نرى شبابا وشابات يوزعون ما تيسر من الطعام، وآخرين يجمعون القمامة.
لا يمكن أن تجلس ربع ساعة فى أى مكان فى الميدان تقريبا بدون أن يمر عليك شخص يسألك عن أى قمامة تريد التخلص منها، أو دون أن يدعوك أحد لقطعة (سميط)، أو بضع تمرات.
جلسنا فى الميدان حوالى أسبوعين متصلين دون شكوى تحرش واحدة، لم نسمع شخصاً واحدا يستغيث بسبب سرقة هاتف محمول أو أى غرض كان.. كان الناس يتعاملون مع بعضهم البعض بكرم ونبل جديدين على الشعب المصرى، أو على الأقل جديدين على هذا الجيل.
أحد أصدقائى (من غير المقيمين فى الميدان) كان يمشى معى فى الميدان، وعطش، فأراد شراء زجاجة مياه معدنية من بائع يقف فى الطريق، فأخذ الزجاجة، ثم سأل البائع: بكم؟
فأجابه البائع: لو معاك يبقى ٢ جنيه، لو ما معاكش خدها وامشى!
أحد الأصدقاء كان يمشى فى الميدان ويحاول أن يجد من يبيع شيئاً يؤكل، وكلما سأل عن أى مكان يبيع طعاما وجد الناس يصرون على دعوته على ما عندهم من طعام! ولم تحدث أى مشاجرة تذكر بين الناس، رغم الزحام، ورغم الضغوط التى يتعرض لها المعتصمون.
لم تحدث أى مشاجرات إلا بعد أن نجح الأمن فى زرع الفتنة بين المعتصمين، فى مرحلة من مراحل الاعتصام، حين نجح فى إدخال بعض أنصار الحزب الوطنى لمحاولة تثبيط العزائم، وسأذكر هذا لاحقا.. المكان الوحيد الذى كان يخضع لأخلاق ما قبل الثورة، هو المنصات الإعلامية الموجودة فى الميدان!
كانت شهوة الظهور فى هذه الأماكن تضخ طاقة سلبية فى المكان، حتى إننى زهدت فى كثير من الفعاليات التى دعيت إليها، واعتذرت عن عدم المشاركة فى كثير من الندوات، وحين حاول بعض الشباب أن يدفعوا بى لكى أكون مسؤولا عن إحدى هذه الإذاعات تهربت منهم.
وأذكر أننى بعد إلحاح وضغط استجبت لإحدى الإذاعات فى الميدان، وذهبت فى الموعد المحدد، فوجدت فوضى عارمة، ووجدت عشرات المتسلقين الذين يرغبون فى الكلام، ووجدت شهوة حب الظهور تكاد تطفئا ما أشعر به من مشاعر (المدينة الفاضلة)، ما دفعنى لافتعال معركة لكى أهرب من هذا الجو!
وبالفعل، أصررت على النزول من على المنصة، والانصراف، والسبب أن مزاجى قد تعكر برؤية هذا التكالب على الميكروفون، فأصبحت غير مهيأ نفسياً لإنشاد الشعر.. كان الشخص الذى يدعونى إلى المنصة رجلاً محترما اسمه الأستاذ حسين الزعوينى، وكنت أخجل منه (هو ورفاقه) من شدة أدبه، لكن الاستفزاز الذى كان موجودا عند المنصة فاق قدرتى على الصبر.
بسبب هذا الخلق السيئ، الذى كان عند المنصات لم ألق شعراً فى الميدان إلا قليلاً جداً، برغم دفع من حولى لى لكى ألقى، فكانت قصائدى تلقى مسجلة فى الميدان، برغم وجودى بشحمى ولحمى، واعتذرت عن أغلب الدعوات، وحين قبلت كنت دائما أختصر، فألقى لعدة دقائق ثم أنصرف!
وهنا لابد من شهادة حق، وهى أن الإذاعة الرئيسية كانت تحت إدارة الإخوان المسلمين، وبرغم أنهم لم يتمكنوا من تنظيم هذه الإذاعة كما ينبغى إلا أننى أشهد بأنهم لم يحتكروا الحديث لأنفسهم، أو حتى للتيار الإسلامى وحده، بل كانت الإذاعة ممثلة لكل القوى التى فى الميدان، بل لكل من يملك صفاقة كافية للإصرار على الحديث.
وقد كان أداء الإخوان طوال فترة الاعتصام ممتازا، فقد أدوا واجبا عظيما فى (لجنة النظام)، دون أن يرفعوا شعاراتهم، ودون أن يحتكروا العمل فى هذه اللجنة، فكانت لجنة النظام مفتوحة لكل المتطوعين.
فى نفس هذه الفترة بدأت بعض الضغوط على المعتصمين، وتمثلت فى منع دخول الماء والغذاء والدواء إلى الميدان. وبدأت عشرات القصص تتوالى عن أناس حاولوا إدخال المؤن إلى الميدان فتمت مصادرتها من الجيش وإلقاؤها فى النيل.
كان من الواضح أن لـ«أمن» الدولة دخلاً فى هذا الأمر، فحسب روايات الشهود كانت القوات التى توقف الناشطين قوات غير نظامية مجهولة الهوية، وهناك بعض الشهادات التى تؤكد أن الشرطة العسكرية صادرت بعض المؤن، لكن يبدو أن ذلك قد تم بتوجيهات من أمن الدولة أيضا.
فى هذه اللحظة بدأت أشعر بشعور نبتة الصَّبَّار الواقفة فى حر الصحراء، تلك النبتة الرائعة الجميلة التى تقف فى الحر لسنوات وسنوات، صامدة حتى لو انعدم الماء...!
إذن ... نحن الصَّبَّار، وسنصمد هنا برغم كل المنع والقمع...!
كنت شديد التشاؤم حيال هذا الأمر، وكنت أخشى أن يقوموا بتجويعنا فى الميدان بهذا الشكل، وبدأ الحديث عن (شِعْبِ أبى طالب) يتكرر، لكن الظن خاب بفضل الله أولا، وبفضل تحايل الشباب على كل ما قام به من يحاصرنا ثانيا، فقد تفنن الشباب فى طرق إدخال المؤن إلى الميدان.
فى هذا اليوم هاتفنى زوج أختى الدكتور هشام المرسى، وهو طبيب مقيم فى قطر، وأخبرنى أنه هنا ليشارك فى مليونية يوم الثلاثاء، وقد جاء خصوصا ليشارك فى الثورة، وأخبرنى أنه فى الميدان، قلت له نلتقى غدا بإذن الله، ولكن لم يحدث، لأسباب سأسردها فى الحلقة المقبلة.
ساحة النقاش