نزهة في شوارع العقل
م/ وائل عادل هلا تعرفت على سكان عقلك؟!
لم يكن لدي خارطة توضح الشوارع التي يجب أن أسلكها.. عليّ الاعتماد على نفسي إذن، وأن أخوض الرحلة متحملاً النتائج... كانت تقودني روح المغامرة والفضول... فبدأت بهمة عالية. فوجئت بكم هائل من الحراس على البوابة.. سألتهم: لِم أنتم هنا؟ هل هذا عقل محتل؟ قالوا: نحن حُماته.. نحميه من تسلل الأفكار التي تؤذيه.. تركتهم وقد أغشاني الذهول.. فعدد الحراس يفوق بمراحل عدد الأفكار التي تسكن العقل. وربما يفسر ذلك سبب الظلمة والإهمال في طرقاته. لم يسمح الحراس لي بالدخول.. انتظرت قليلاً ثم تسللت على حين غفلة منهم عبر ثغرة حدودية.. وما أكثر الثغرات.
مررت بمنطقة منكوبة دُمرت شبكة اتصالاتها ومواصلاتها، علمت بعد ذلك من إحدى الأفكار الهامسات أن الحراس هم الذين قصفوها بدعوى محاربة دخلاء متسللين، لقد دمروا مسارات التفكير خشية أن تمر من خلالها أفكار غير مرغوبة، وها أنذا أشم رائحة بقايا دخان تنبعث من المكان. لكن يبدو أن الحراس ليسوا السبب الوحيد في هذا الدمار، فقد كادت قدمي تصطدم بقنبلة موقوتة يسترسل عدادها في العد التنازلي، فبعض الأفكار تفخخ العقل لتنتقم من مخالفيها، فتخلق حالة من الهلع وعدم الثقة بين الأفكار. ولذلك ربما تطوعت بعض الأفكار لتمارس الحراسة، فهي تريد أن تتأكد أن مخالفاً لها لن يطأ مدينة العقل. أدركت لماذا يقطب كل عدو للحياة جبينه أنَّى رأيته، فقد دُمِّر الجسر الواصل بين حاجبيه!! ازداد اندهاشي عندما رأيت تفاوتاً طبقياً كبيراً، فهناك أفكار تسكن العشوائيات لا تجد ماء أو هواء كافياً لتغذيتها، رغم أنها أفكار حري بها أن تُرعى لتحيا وتسود، فجل حديثها عن التغيير وبناء عالم أفكار جديد، يعمه العدل والحرية ونمط التفكير المتطور. ولكم أشارت بحنق إلى ذلك القصر الشامخ هناك. فعلى الناحية الأخرى يوجد قصر تسكنه قلة من الأفكار المترفة الغبية التي لا تعبأ بمصير الآخرين، وربما لا تريد لمجتمع الأفكار أن يتطور. والعجيب أنها صانعة القرار في العقل، وهي تحتمي بأولئك الحراس. كما اكتشفت أن السجادة الحمراء التي تخرج من هذا القصر تتصل مباشرة باللسان.
فيبدو أن هذه الأفكار هي المسموح لها وحدها بالظهور والإطلال بصخب على العالم الخارجي. رأيت دكاناً صغيراً يبيع الصحف المحلية التي تُمول من قبل القصر، كانت توزع على كل فرد في مجتمع الأفكار مجاناً، وتحمل أسماء من قبيل "اكتئاب"، "تشاؤم"، "مستحيل"، "هزيمة"، "تخلف". تصفحت إحدى الصحف فراعني خبر استشهاد فكرة، يا للإجرام!! لم أكن أتصور وجود سجن تُعذب فيه الأفكار المتمردة، التي تأبى تجرع الغذاء الفاسد من تلك الصحف، وتدعو إلى إصلاح مسارت التفكير المحطمة، وتغيير آلية اتخاذ القرار فضلاً عن تغيير الأفكار القاطنة في قصر الرئاسة، كما تدعو إلى فتح الأبواب لكل زائر، فإصلاح مسارات التفكير كفيل بتأمين الحياة بدلاً من الحراس، والمناظرات والحوارات وملاحم النقد المستمرة في مجتمع الأفكار جديرة بترسيخ أفضل الأفكار وأنفعها، وهي تدعو كذلك إلى تغيير قانون المصاهرة، فأي قانون هذا الذي يسمح لنوع واحد من الأفكار بالتكاثر؟!
يجب أن يعاد النظر في الأمر، وتمكين بعض الأفكار المتنوعة من التزاوج لإنجاب سلالة أفكار أرقى. سمعت أصوات فئوس تعمل بجد...نظرت إلى جهة الصوت فإذا بمجموعة تحطم تمثالاً بحماس بالغ... أخذت أقترب شيئاً فشيئاً... بدأت أتعرف بدقة على التمثال.. إنه تمثال "الأوسكار"، لم تعد مدينة العقل تمنح الأفكار المتميزة جائزة "أوسكار الأفكار"، ربما خشية أن يُعبد هذا الصنم فيما بعد!!
آلمني تدهور مدينة العقل وهيمنة العنصرية عليها، لم يكن الطابع الأمني الحذر هو المسيطر على المدينة، بل على العكس، كانت مدينة ترحاب تبصر في مدخلها شعاراً يخاطب كل فكرة زائرة.. "نتمنى لكِ حظاً موفقاً"، فقديماً كانت كل الأفكار مصرحاً لها بالدخول، وكان دور المدينة هو تسهيل سبل المرور لكل الأفكار، ثم تعريضها لاختبارات قاسية، لتنجو الأفكار الأصلح، ثم تتقلد منصب الرئاسة واتخاذ القرار. وهو منصب قد لا يدوم كثيراً، فهناك كشف طبي دوري لجميع طاقم رئاسة العقل، ليقرر مدى فاعليته وجدارته بالقيادة، خاصة مع وجود أفكار أخرى أكثر حيوية تنافس على الرئاسة. لقد صُمم العقل كمختبر للأفكار لا قاتل لها على الهوية. فلا يعنيه كثيراً أي الأفكار سيمسك بزمامه بقدر ما يعنيه ألا تعطب أجهزة اختبار الأفكار فيه، فهي ضمان التداول السلمي للسلطة فيه. كانت الأفكار تاريخياً هي التي تهاب دخول العقل خشية الرسوب، ولم يرتعد العقل فرقاً أمام الأفكار إلا في عصور التدهور. سمعت صافرة إنذار..
يبدو أن الحراس اكتشفوا وجودي.. أخذت أبحث بجنون عن أقرب منفذ يمكنني من الخروج.. تخبطت يمنة ويسرة، لم أجد إلا فتحة هناك.. عدوت مسرعاً.. حُشرت في الممر وأنا أصارع من أجل البقاء.. تمكنت من النجاة أخيراً متدحرجاً من فتحة الأذن لأستقر على كتفه. ما هذه الأنوار؟؟ وما هذه الكاميرات التي تصور؟؟ هل كان الإعلام يعلم برحلتي وموعد عودتي؟؟ لا أظن.. ها قد بدأت الأمور تتضح.. فمن أعتلي كتفه رمز مشهور. وها هو يلقي بياناً صحفياً مصيرياً الآن. نظرت إلى الوجوه المتناثرة من حولي... ثم نظرت إلى أذنه الضخمة وقد وقف على حافتها الحراس الذين طاردوني يكيلون لي أقذع السباب..
لم يمنعهم عني سوى أصبعه عندما أدخله في أذنه كي يهرش.. لكن سرعان ما وجدت الحراس يركضون ويتطايرون من أنفه وفمه، لم يكونوا يطاردونني إذن، ولم تكن صافرة الإنذار تتوعدني، لقد كانت صافرة إعلان ميلاد الثورة.. إعلان الانتصار للأفكار الصالحة داخلنا والتصويت لها.. إعلان تحرر عقولنا ممن يعربد فيها..
ساحة النقاش