تامر الرشيدى

المحامى بالاستئناف العالى ومجلس الدوله

الشروع في الجريمة 
مقدمة:        يتخذ الركن المادي للجريمة صورة عادية إذا توافرت له جميع عناصره، إذ تعد الجريمة تامة وتوقع على الجاني العقوبة التي يقررها القانون لها. ولكن الركن المادي ق يتخذ صوراً غير عادية تنشأ فيها من المشاكل القانونية ما يقتضي تدخل الشارع لتنظيمها: فقد تتحقق بعض عناصر هذا الركن (المادي) دون البعض، فيثور التساؤل عما إذا كان العقاب واجباً في هذه الحالة وعن شروطه ومقداره، ويطلق على هذا الوضع تعبير "الشروع".
تعريف:وضع الشارع (المصري) تعريفاً للشروع في الجريمة ضمنه المادة 45 من قانون العقوبات التي تقرر أن: "الشروع هو البدء في تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية أو جنحة إذا أوقف أو خاب أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها".ويحدد هذا النص أركان الشروع فيجعلها:1-   البدء في تنفيذ فعل؛2-   وقصد ارتكاب جناية أو جنحة؛3-   وإيقاف أثر الفعل أو خيبته لأسباب غير راجعة إلى إرادة الجاني.
ويبرز هذا النص الفكرة الأساسية في الشروع، وهي: "عدم تمام الجريمة"، إذ أن التنفيذ لم يستمر حتى ختام الجريمة وإنما أوقف أو خاب؛ وبالإضافة إلى ذلك فالقصد الجنائي متجه إلى ارتكاب الجريمة التامة. وفي النهاية فقد حدد هذا النص نوعي الجرائم المتصور الشروع فيها، وهما "الجنايات و الجنح"، واستبعد بذلك "المُخالفات".
ماهية الشروع:        الشروع "جريمة ناقصة"، ويعني ذلك أنه قد تخلف بعض عناصرها، أما إذا توافرت هذه العناصر جميعاً فالجريمة تامة ولا محل للبحث في الشروع. وموضع النقص هو: "النتيجة الإجرامية"، فالجاني قد اقترف الفعل الذي أراد به تحقيق هذه النتيجة ولكن فعله لم يفض إلى ذلك.ولتخلف النتيجة صورتان:الأولى – تفترض أن النتيجة لم تتحقق على الإطلاق، مثال ذلك: أن يطلق شخص النار على عدوه بنية قتله فلا يصيبه.والثانية – تفترض أن النتيجة التي أرادها الجاني قد تحققت ولكن بناء على سبب آخر غير فعله، أي أن علاقة السببية قد انتفت بين الفعل والنتيجة، مثال ذلك: أن يطلق شخص بنية القتل الرصاص على عدوه الذي يوجد في سفينة على وشك الغرق ثم تحدث الوفاة كأثر للغرق لا للجروح اليسيرة التي أصابته.        ويقرر الشارع المساواة بين هاتين الصورتين، فالشروع تتوافر فيهما أركانه، إذ أن انتفاء علاقة السببية بين الفعل والنتيجة يعني أنه لا صلة بينهما وأن الفعل لم ينتج أثراً، فتعد النتيجة بالنسبة له كما لو كانت لم تتحقق على الإطلاق، ومن ثم تتماثل الصورتان في عدم تحقق النتيجة بناء على الفعل.        وإذا كان موضع النقص في الشروع هو: "النتيجة الإجرامية"، فمعنى ذلك ألا نقص بالنسبة لسائر عناصر الجريمة، أي أن الشروع يفترض توافر كل عناصر الجريمة التامة فيما عدا "النتيجة". ويهمنا أن نقرر أنه لا فرق بين الشروع والجريمة التامة من حيث الركن المعنوي، فالقصد الجنائي يتوافر في الشروع على نفس النحو الذي يتوافر به في الجريمة التامة ويقوم في الحالتين على ذات العناصر. وقد سلم الشارع بذلك فتطلب من بين أركان الشروع "قصد ارتكاب جناية أو جنحة".        ونحن بذلك نرفض الرأي القائل بقيام الشروع إذا انتفى عنصر أياً كان من العناصر القانونية للجريمة وكان الجاني جاهلاً بذلك، مثال ذلك: أن يستولي الجاني على ماله معتقداً أنه مال غيره، أو يثبت في محرر ما يطابق الحقيقة معتقداً أنه يقرر ما يخالفها؛ ويذهب هذا الرأي إلى اعتبار "الغلط" جوهر الشروع، إذ الفرض أن ما حققه الجاني قد خالف ظنه، وهذا الغلط في غير مصلحته، إذ يحاسب على مقتضى ظنه الذي ابتعد عن الحقيقة، لا على مقتضى ما صدر عنه فعلاً. والحجة في رفض هذا الرأي مستمدة من مبدأ "شرعية الجرائم والعقوبات"، إذ لا يجوز أن تقوم المسئولية الجنائية من أجل فعل لم يجرمه القانون وليس من شأنه تهديد حق أو مصلحة بالخطر، فغير متصور أن ينسب إلى الشارع أنه أراد تجريم استيلاء المالك على ماله أو تصرفه فيه أو أنه أراد تجريم فعل من يثبت في محرر ما يطابق الحقيقة تماماً؛ وخطأ هذا الرأي أنه يغفل الركن الشرعي من بين أركان الشروع، فإذا كان الشارع لم يصرح به في المادة 45 من قانون العقوبات (المصري)، فهو يفترضه لأنه لم يقصد بالعقاب على الشروع الخروج على مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، ويعني ذلك أن الشروع لا يقوم إلا بفعل غير مشروع، ولذلك لم يكن من السائغ القول بالمسئولية الجنائية إذا انتفى من الجريمة عنصر ضروري لإسباغ الصفة غير المشروعة على الفعل. ولا يجوز القول بأن النية الإجرامية كافية لكي تقوم بها المسئولية الجنائية، إذ لا يعرف القانون الحديث جرائم تقوم بالنية وحدها، وفي النهاية فإن هذا الرأي يبتعد عن دلالة تعبير "الشروع"، إذ تنصرف هذه الدلالة إلى محاولة إدراك غاية والعجز عن بلوغها، ولا يصدق ذلك على من حقق نتيجة ظنها غير مشروعة وهي في الحقيقة مشروعة.
الفرق بين "الشروع" و "الجريمة الظنية":        الجريمة الظنية أو الوهمية هي: "فعل لا يجرمه القانون ولكن اعتقد مرتكبه تجريم القانون له، وقد سبق أن أتينا بمثالين لها وميزنا بينهما وبين الشروع الذي يفترض فعلاً يجرمه القانون ولكن لم تتحقق نتيجته؛ ونضيف مثالين آخرين: شخص يقرض بفوائد يسمح بها القانون معتقداً أن الشارع يحظر كل فائدة، وشخص يعطي كمبيالة بغير مقابل وفاء معتقداً أن القانون يجرم ذلك. وحكم الجريمة الظنية ألا عقاب يوقع من أجلها، إذ لا عقاب من أجل فعل لم يجرمه القانون، والمرجع في التجريم والعقاب إلى نصوص القانون لا إلى اعتقاد من ارتكب الفعل، إلا لا يستطيع بظنه أن يغير حكم القانون في فعله وأن يحيله من فعل مشروع إلى فعل غير مشروع.
علة العقاب على الشروع:        يعاقب القانون على الجريمة التامة لأنها تقع عدواناً على مصلحة أو حق جدير بالحماية الجنائية، ولكن هذا الاعتداء لا يتحقق في الشروع، إذ الفرض فيه عدم تحقق النتيجة التي يتمثل فيها الاعتداء، ولو أن الشارع جعل التجريم رهناً بالاعتداء الفعلي على الحق لما جرم الشروع. ولذلك يقوم تجريم الشروع على علة أخرى، هي حماية الحق من الخطر الذي يهدده: فالأفعال التي يقوم بها الشروع من شأنها إحداث الاعتداء، ولدى مرتكبها نية إحداثه، ويعني ذلك أن ثمة خطراً على الحق، وإذا كان الخطر "اعتداء محتملاً"، وكانت الحماية الكاملة للحق مقتضية وقايته من كل صور الاعتداء، لم يكن بد من تجريم الشروع.        وللخطر مصدران: أفعال الجاني، ونيته الإجرامية؛ ومن المتعين اعتداد الشارع بهما معاً، ولكن التساؤل يثور حول تحديد أجدرهما بالترجيح، والإجابة على هذا التساؤل محل نزاع بين المذهبين "الموضوعي" و "الشخصي" اللذين يتنازعان أحكام الشروع. ولا مفر من القول بأن الشارع يعترف بأهمية واضحة للنية الإجرامية، ونستطيع القول بأنه يرجحها في حدود ماديات الجريمة، والدليل عل ذلك أنه يسأل الجاني من أجل ما أراد أن يفعل لا من أجل ما فعل.        وتجريم الشروع نوعاً من الخروج على القواعد العامة، ذلك أنه إذا تطلب القانون لقيام الجريمة توافر عناصر معينة، فمعنى ذلك أنه إذا انتفى أحدها لم يعد للعقاب محل، ولما كان الشروع يفترض تخلف النتيجة الإجرامية، وهي أحد عناصر الجريمة، فقد كان ذلك مقتضياً عدم توقيع العقاب من أجله، ولذلك يعد العقاب عليه نوعاً من التوسع في المسئولية الجنائية بتقريرها في حالة لا تتوافر كل شروطها.
أنواع الشروع:        الشروع نوعان:1-   شروع ناقص، ويطلق عليه كذلك تعبير "الجريمة الموقوفة"؛2-   والشروع التام، ويطلق عليه كذلك تعبير "الجريمة الخائبة".والفرق بينهما أن الشروع الناقص يفترض عدم إتيان الجاني كل الأفعال التنفيذية اللازمة للجريمة، مثال ذلك: أن يصوب سلاحه نحو المجني عليه ولكن يحول بينه وبين الضغط على الزناد شخص ثالث. أما الشروع التام فيفترض إتيان الجاني كل الأفعال اللازمة لتنفيذ الجريمة وعدم تحقق نتيجتها على الرغم من ذلك، كما لو أطلق الجاني الرصاص على المجني عليه ولكن لم يصبه. وفي تحديد معيار للتمييز بين النوعين يثور النزاع بين نظريتين: نظرية موضوعية ترى العبرة بما إذا كان الجاني قد أتى كل الأفعال اللازمة في الحقيقة لتنفيذ الجريمة أم اقتصر على بعضها. أما النظرية الشخصية فترى العبرة بما إذا كان الجاني قد أتى كل الأفعال اللازمة – في تقديره وطبقاً لخطته – لتنفيذ الجريمة أم اقتصر على بعض ذلك. والنظرية الموضوعية معيبة لأنه لو أتى الجاني كل الأفعال اللازمة في الحقيقة لتنفيذ الجريمة لغدت تامة وما كنا بصدد شروع، أما النظرية الشخصية فتتفق مع طبيعة الشروع باعتبارها الشروع التام مفترضاً أن الجاني قد أتى كل ما رآه لازماً لتنفيذ الجريمة في حين أن ما أتاه لم يكن كافياً لذلك. والأخذ بهذه النظرية يجعل تحديد نوع الشروع رهناً بخطة الجريمة، وقد تختلف من حالة لأخرى: فإذا صمم شخص على قتل آخر عن طريق عشر جرعات من مادة سامة قدر كفايتها لإحداث الوفاة، فأعطاها له ولكن لم تحدث الوفاة فالشروع تام؛ ولكن إذا قدر شخص آخر أن تسميم المجني عليه يقتضي خمس عشرة جرعة من نفس المادة السامة ثم لم يستطع إعطاءه غير عشر فقط فالشروع ناقص.وللشروع التام نفس عقاب الشروع الناقص، ولكن للتفرقة بينهما أهميتها بالنسبة للعدول الاختياري الذي يحول دون العقاب على النحو الذي سنفصله فيما بعد.
المذهب الموضوعي والمذهب الشخصي في الشروع:        تنازع هذان المذهبان الشروع، سواء من حيث تجريمه والعقاب عليه أو من حيث تفسير الأحكام المتعلقة به وتطبيقها. ويتفق هذان المذهبان في اعترافهما بأن الخطر الذي يهدد الحق أو المصلحة هو علة التجريم والعقاب، ويسلمان كذلك بأن الشروع لا يقوم بالنية الإجرامية وحدها. وإنما يتطلب التعبير عنها بأفعال مادية. ويختلف المذهبان في تحديد مصدر الخطر: فأنصار المذهب الموضوعي يرونه كامناً في أفعال الجاني، وأنصار المذهب الشخصي يرونه كامناً في نية الجاني وشخصيته. وتترتب على هذا الاختلاف نتائج هامة: فالشروع يتطلب طبقاً للمذهب الموضوعي أفعالاً خطرة في ذاتها، ولكنه يقوم عند أنصار المذهب الشخصي بكل فعل يكشف – على نحو قاطع – عن خطورة شخصية الجاني، ويعني ذلك أن للفعل في المذهب الأول قيمة ذاتية في حين لا تعدو قيمته في المذهب الثاني أنه قرينة على خطورة الشخصية الإجرامية. وبذلك يكون العقاب طبقاً للمذهب الشخصي أوسع نطاقاً منه في المذهب الموضوعي، وتفسير ذلك أن الكثير من الأفعال قد تكون غير خطرة في ذاتها فلا يعتد بها المذهب الموضوعي، ولكنها كافية للكشف عن خطورة الجاني فيعتد بها المذهب الشخصي. ويرى أنصار المذهب الموضوعي أن العقاب على الشروع ينبغي أن يكون أقل من العقاب على الجريمة التامة لأنه أقل منها إضراراً بالمجتمع، بل يرون تدرج العقاب على حالات الشروع بحيث تكون عقوبة الشروع التام أشد من عقوبة الشروع الناقص، فإذا كانت الجريمة مستحيلة فإن منطق هذا المذهب إلا يوقع عليها عقاب باعتبارها لا تنال المجتمع بضرر. أما أنصار المذهب الشخصي فيرون أن الشروع في كل صوره ينبغي أن يعاقب عليه بالعقوبة المقررة للجريمة التامة ويعتبرون الجريمة المستحيلة إحدى هذه الصور، وحجتهم في ذلك أن خطورة النية الإجرامية لا تختلف باختلاف ما إذا استطاع الجاني إتمام جريمته أم لم يستطع، ولا تختلف كذلك باختلاف ما إذا كان تنفيذها ممكناً في حقيقة الواقع أم مستحيلة، ومن ثم يتعين ألا تختلف العقوبة كذلك.
أركان الشروعتمهيد:        قدمنا أن القانون حصر أركان الشروع في ثلاثة: البدء في التنفيذ، والقصد الجنائي، وعدم إتمام الجريمة لأسباب لا ترجع إلى إرادة الجاني.        ويمثل البدء في التنفيذ الركن المادي للشروع، إذ تكمن فيه كل مادياته، ويعد القصد الجنائي ركنه المعنوي، أما الركن الثالث فهو المميز بين الشروع والجريمة التامة، وهو المميز كذلك بين الشروع وحالات البدء في التنفيذ الذي يعقبه عدول اختياري فلا يوقع فيها عقاب. وهذا التحديد لأركان الشروع محل للنظر: فالأجدر أن يعد الشروع قائماً على ركنيه المادي والمعنوي بالإضافة إلى ركنه الشرعي الذي يتعين التحقق منه ولا يثير توافره في أغلب الحالات شكاً؛ ويتعين بعد ذلك أن يعد العدول الاختياري مجرد مانع من العقاب على شروع توافرت جميع أركانه، ويستند هذا المانع إلى اعتبارات تتعلق بسياسة العقاب وترد إلى الحرص على تشجيع العدول عن إتمام الجرائم. والحجة فيما نقول به أن الشروع صورة من الجريمة، ولذلك يقوم على ذات أركانها، فإن توافرت وجب العقاب عليها، ولا محل لتطلب ركن إضافي؛ فإن قرر الشارع امتناع العقاب بناء على سبب معين، فالتكييف الصحيح له أنه مانع عقاب.
1- البدء في التنفيذمراحل الجريمة:        تحديد مدلول البدء في التنفيذ يقتضي استقراء المراحل التي تجتازها الجريمة، وتحديد المرحلة التي يتدخل فيها القانون بالعقاب وتمييزها عن المراحل السابقة عليها التي لا يقرر فيها عقاباً. ومراحل الجريمة هي: التفكير فيها والتصميم عليها ثم التحضير لها ثم البدء في تنفيذها، وقد يبلغ التنفيذ غايته فتتم الجريمة به، وقد يخيب أو يقف فتظل الجريمة عند مرحلة الشروع.        ونرى أن نبين مراحل الجريمة التي لا يعاقب القانون عليها ثم نعرض لمراحلها التي يقرر القانون العقاب عليها.
1 – مراحل الجريمة التي لا يعاقب القانون عليهاتمهيد:        لا يتدخل القانون بالعقاب على مرحلتين من مراحل الجريمة: الأولى، هي التفكير فيها والتصميم عليها، والثانية، هي الأعمال التحضيرية لها.
التفكير في الجريمة والتصميم عليها:        هذه هي المرحلة النفسية للجريمة، إذ الجريمة فيها محض فكرة أو مجرد إرادة. ولا عقاب على هذه المرحلة ولو ثبت التفكير أو التصميم على نحو لا شك فيه، كما لو اعترف به صاحبه أو أبلغ غيره عنه، وقد صرح الشارع بذلك فقضت الفقرة الثانية من المادة 45 من قانون العقوبات (المصري) أنه: "لا يعد شروعاً في الجناية أو الجنحة مجرد العزم على ارتكابها أو الأعمال التحضيرية لذلك". والعلة في عقد العقاب واضحة: فكل صور الجريمة – ولو كانت مجرد شروع – تتطلب ركناً مادياً، ويقتضي هذا الركن "فعلاً"، وللفعل كيان مادي يقوم على حركة عضوية، ولا وجود لذلك حينما تكون الجريمة محض فكرة أو مجرد إرادة، ومن ثم لا يكون للتجريم محل. وبالإضافة إلى ذلك فإن عدم العقاب على هذه المرحلة تشجيع على العدول عن تنفيذ الجريمة، وبذلك يكون لخطة الشارع سند قوي من سياسة العقاب.        وقد يرد إلى الذهن أن لهذه القاعدة استثناءها حيث يعاقب القانون على التحريض في ذاته (المواد 95 و 97 و 172 من قانون العقوبات المصري)، أو الاتفاق الجنائي (المادتان 48 و 96 من قانون العقوبات المصري)، أو التهديد (المادة 327 من قانون العقوبات المصري)، ولكن الحقيقة أن هذه الحالات ليست استثناء وارداً على القاعدة: إذ تفترض جميعاً تعبير الجاني عن تصميمه الإجرامي بقول أو إيماء أو كتابة، ويعني ذلك أن ثمة فعلاً يقوم به الركن المادي للجريمة، فالجاني لم يقف عن مرحلة التفكير أو التصميم، بل جاوزها إلى مرحلة التنفيذ الكامل لجريمة تقوم بفعل التحريض أو الاتفاق أو التهديد. وبالإضافة إلى ذلك فإن الشارع لا يعاقب على هذه الأفعال باعتبارها شروعاً في الجريمة محل التحريض أو الاتفاق أو التهديد، ولكن يعاقب عليها كجرائم متميزة مستقلة بذاتها.
الأعمال التحضيرية:        تتخذ الجريمة في هذا المرحلة كياناً مادياً، إذ يعبر الجاني عن تصميمه بأفعال ملموسة. ويراد بالأعمال التحضيرية كل فعل يحوز به الجاني وسيلة ارتكاب الجريمة كشراء السلاح أو تجهيز المادة السامة أو استعارة أداة فتح الخزانة، وتشمل الأعمال التحضيرية كذلك كل فعل يضع به الجاني نفسه في الموضع الذي يمكنه من الإقدام بعد ذلك على تنفيذ الجريمة كاتخاذه مكاناً في عربة النقل العام لسرقة بعض مستقليها أو سيره في الطريق الموصل إلى مسكن المجني عليه حيث يريد ارتكاب القتل أو السرقة أو الإتلاف، وفي تعبير أعم يراد بالأعمال التحضيرية كل فعل يهدف به الجاني إلى خلق الوسط الملائم لتنفيذ الجريمة. والقاعدة ألا عقاب على هذه الأفعال، أي أنها لا تعد شروعاً في الجرائم محل التحضير، وقد صرح الشارع بذلك في الفقرة الثانية من المادة 45 من قانون العقوبات (المصري). وعلة هذه القاعدة أن العمل التحضيري متجرد من الأهمية القانونية، إذ لا ينطوي على خطر يهدد حقاً أو مصلحة، وهو بعد ذلك غامض إذ لا يكشف في صورة أكيدة عن نية إجرامية، فشراء السلاح قد يدل على اتجاه إلى جريمة ولكنه قد يدل على اتجاه استعماله في الدفاع عن النفس، وتركيب المادة سامة قد يدل على اتجاه إلى جريمة ولكنه قد يدل على اتجاه إلى استعمالها في إبادة الحشرات، ويعني ذلك أن صعوبات إثبات النية الإجرامية تقف عقبة ضد الإجراءات الجنائية إذا ما اعتبر العمل التحضيري للجريمة صورة للشروع فيها. وبالإضافة إلى ذلك فإن لهذه القاعدة سندها من سياسة العقاب: ذلك أن عدم العقاب على العمل التحضيري هو تشجيع على العدول عن البدء في تنفيذ الجريمة، وهذه المصلحة تتفوق على كل مصلحة للمجتمع يهدف إلى تحقيقها عن طريق توقيع العقاب. ولكن تجرد الأعمال التحضيرية من الأهمية القانونية إنما هو بالنسبة إلى الجرائم محل التحضير، ويعني ذلك أن العمل التحضيري قد تكون له من جهة أخرى أهمية قانونية.
العمل التحضيري كجريمة قائمة بذاتها:        على الرغم من أن العمل التحضيري لا يعد شروعاً في الجريمة محل التحضير، فقد يعتبره القانون جريمة تامة متميزة عن الجريمة التي يستهدف التحضير لها. ويقرر الشارع ذلك حينما يقدر أن العمل التحضيري ينطوي على خطر أو يكشف على نحو واضح عن خطورة مرتكبه: مثال ذلك تجريم حيازة السلاح بدون ترخيص وتقليد المفاتيح أو التغيير فيها أو وصنع آله ما مع توقع استعمالها في ارتكاب جريمة.
العمل التحضيري كظرف مشدد:        إذا وقف الجاني عند العمل التحضيري فلا عقاب عليه، ولكن إذا جاوزه فبدأ في تنفيذ الجريمة أو أتمها، فقد يعد تحضيرها على نحو معين سبباً لتشديد عقابها، ويعني ذلك أنه إذا لم تكن للعمل التحضيري أهمية في ذاته، فقد تكون له أهمية في تحديد مقدار العقاب الذي يوقع من أجل الجريمة محل التحضير: فحيازة السلاح عمل تحضيري للسرقة ولا عقاب عليه بهذا الوصف، ولكن إذا نفذت الجريمة وكان الجاني حاملاً سلاحاً غلظ عقابها.
العمل التحضيري كوسيلة اشتراك:        إذا اقتصر نشاط الجاني على مجرد إتيان العمل التحضيري فلا عقاب عليهن ولكنه إذا ربط بينه وبين نشاط فاعل الجريمة بحيث كان وسيلة لتعضيده، فإن العمل التحضيري يعد بذلك وسيلة مساهمة في الجريمة ويكون أساساً لمسئولية مرتكبه عنها باعتباره شريكاً فيها بالمساعدة: فإذا حاز الجاني سلاحاً بنية استعماله في القتل ووقف نشاطه عند ذلك فلا عقاب عليه من أجل القتل، ولكن إذا سلم السلاح إلى شخص استعمله في القتل كان مسئولاً عن هذه الجريمة باعتباره شريكاً فيها.
2 – مراحل الجريمة التي يعاقب القانون عليهاتقسيم:        إذا جاوز الجاني مرحلة العمل التحضيري للجريمة، فبدأ في تنفيذها تدخل القانون بالعقاب؛ ومن باب أولى يعاقبه القانون إذا أتم تنفيذها؛ ومن ثم كان الانتقال من مرحلة التحضير إلى مرحلة البدء في التنفيذ هو انتقال من مجال الإباحة إلى مجال العقاب. وتحديد بداية المراحل التي يتدخل القانون فيها بالعقاب يقتضي تحديد معيار التفرقة بين العمل التحضيري والبدء في التنفيذ، فإذا خلصنا إلى معيار معين تعين بعد ذلك تطبيقه على الجريمة المستحيلة لبيان ما إذا كان من السائغ تكييف مادياتها بأنها بدء في التنفيذ.

( أ ) معيار البدء في التنفيذ

تمهيد:        تحديد معيار البدء في التنفيذ محل لاختلاف في الرأي، وقد جرى الفقه على تصنيف الآراء وردها إلى مذهبين: المذهب الموضوعي والمذهب الشخصي؛ ويتعين بعد دراسة كل من هذين المذهبين تحديد موقف القضاء منهما.
المذهب الموضوعي:        قدمنا أن أنصار هذا المذهب يتطلبون للبدء في تنفيذ الجريمة أفعالاً خطرة في ذاتها، ولكنهم لم يتفقوا على صياغة موحدة لمعيار يعبر عن وجهة نظرهم: فذهب رأي إلى أن البدء في التنفيذ هو البدء في ارتكاب الفعل الذي يقوم عليه الركن المادي للجريمة. وتطبيق هذا الرأي يقتضي تحديد الفعل الذي ينص عليه القانون في تعريفه جريمة معينة والتحقق من أن الجاني قد بدأ في ارتكاب هذا الفعل. ويأتي هذا الرأي بضابط سهل التطبيق، إذ لا يتطلب غير الرجوع إلى نص القانون وتعيين الفعل الذي يجرمه والتحقق من بدء الجاني فيه، فالشروع في القتل لا يقوم إلا إذا بدأ الجاني في فعل الاعتداء على الحياة، والشروع في السرقة لا محل له إلا إذا بدأ الجاني في إتيان فعل الاختلاس. ويعيب هذا الرأي إسرافه في التضييق من نطاق الشروع إلى الحد الذي يهدر مصلحة المجتمع، فالتسور أو الكسر من الخارج لا يقوم بهما البدء في تنفيذ السرقة على الرغم مما ينطويان عليه من خطر يهدد ملكية المجني عليه. وحاول رأي تجنب هذا النقد فقال أن البدء في التنفيذ يشمل – بالإضافة إلى البدء في الفعل الذي يقوم عليه الركن المادي للجريمة – كل فعل يعد ظرفاً مشدداً لها، وعلى هذا النحو يعد التسور أو الكسر من الخارج بدءاً في تنفيذ السرقة باعتبارهما ظرفين مشددين لها. ويعيب هذا الرأي أنه لم يصلح من عيوب الرأي الأول إلا على نحو جزئي: فبعض الجرائم ليست لها ظروف مشددة كالنصب، وبعض الظروف المشددة لا يتصور تطبيق هذا الرأي عليها كـ "الليل" أو "تعدد الجناة" بالنسبة للسرقة؛ وغني عن البيان أن المنطق القانوني لا يقبل القول – وفقاً لهذا الرأي – بأن الفعل الذي يعد عملاً تحضيرياً للسرقة إذا ارتكب نهاراً يصير بدءاً في تنفيذها إن ارتكب ليلاً. وذهب رأي إلى تعريف البدء في التنفيذ بأنه الفعل الواضح الدلالة على النية الإجرامية، فهو لا يحتمل غير دلالة واحدة، هي الدلالة على الاتجاه إلى جريمة معينة، وبذلك يختلف عن العمل التحضيري الذي يحتمل التأويل على وجوه مختلفة. ويعيب هذا الرأي ارتكانه على أساس غير سليم، إذ من النادر أن تكون للفعل دلالة واحدة، فتسور المسكن قد يدل على اتجاه إلى السرقة وقد يدل على اتجاه إلى الإتلاف، ووضع اليد في ملابس امرأة قد يدل على اتجاه إلى السرقة وقد يدل على اتجاه إلى المساس بعوارت جسمها، ويعني ذلك أنه من الصعب طبقاً لهذا الرأي اعتبار أي فعل بدءاً في تنفيذ جريمة معينة.
المذهب الشخصي:        قدمنا أن أنصار هذا المذهب يكتفون بأفعال غير خطرة في ذاتها طالما كانت معبرة على نحو واضح عن خطورة شخص الجاني ونيته؛ فقيمة الفعل عندهم أنه مجرد قرينة، وقد تعددت الصيغ التي حاولوا بها تحديد قيمته هذه، وليس بينها اختلاف جوهري باعتبارها تتفق في تحديد مصدر الخطر ووسيلة إثباته، وإنما تتفاضل فيما بينها من حيث مقدار وضوحها. فيذهب البعض إلى صياغة هذا المعيار بالقول أن البدء في التنفيذ هو "العمل الذي يدل على نية إجرامية نهائية" أو هو "العمل الذي يكون قريباً من الجريمة بحيث يمكن أن يقال أن الجاني قد أقفل باب الرجوع عنها واضطلع بمخاطرها" أو هو "الفعل الذي يدخل به الجاني في مرحلة العمل على تنفيذ الجريمة بحيث يمكن القول بأنه قد أحرق سفنه وخطا نحو الجريمة خطوته الحاسمة واخترق بذلك مجال حقوق غيره" أو هو "العمل الذي يعلن عن عزم إجرامي لا رجعة فيه، ويكون قريباً من الجريمة لا يفصله عنها إلا خطوة يسيرة لو ترك الجاني وشأنه لخطاها". ولكن أوضح الصيغ وأكثرها تأييداً في الفقه والقانون هي التي تعرف البدء في التنفيذ بأنه: "العمل الذي يؤدي حالاً ومباشرة إلى الجريمة".
مذهب القضاء المصري:        يأخذ القضاء المصري بالمذهب الشخصي فيقرر أنه: "لا يشترط لتحقيق الشروع أن يبدأ الفاعل بتنفيذ جزء من الأعمال المادية المكونة للركن المادي للجريمة، بل يكفي لاعتبار أنه شرع في ارتكاب الجريمة أن يبدأ بتنفيذ فعل ما سابق مباشرة على تنفيذ الركن المادي ومؤد إليه حتماً". وبعبارة أخرى: "يكفي أن يكون الفعل الذي باشره الجاني هو الخطوة الأولى في سبيل ارتكاب الجريمة وأن يكون بذاته مؤدياً حالاً وعن طريق مباشر إلى ارتكابها، ما دام قصد الجاني من مباشرة هذا الفعل معلوماً وثابتاً". وتتضمن هذه العبارة رفضاً صريحاً للمذهب الموضوعي وتأييداً للمذهب الشخصي وتسليماً بالضابط الذي يقول به بعض الفقهاء الذين يناصرون هذا المذهب. والغالب من تطبيقات القضاء لهذا المذهب متعلق بالشروع في السرقة، إذ اعتبرت الأفعال التالية من قبيل البدء في تنفيذه هذه الجريمة: الدخول في مكان السرقة، أو محاولة ذلك، وكسره من الخارج، وتسوره، أو تسور منزل ملاصق له، واستعمال مفاتيح مصطنعة للدخول فيه، وإتيان أفعال الإكراه بقصد السرقة، وإدخال المتهم يده في جيب المجني عليه، ومحاولة إفراغ البنزين الموجود في سيارة المجني عليه، وفك الصواميل المربوط بها الموتور لسرقته. وقد طبق القضاء هذا الضابط على الشروع في جرائم أخرى كالاستيلاء بغير حق على مال الدولة، وتزييف المسكوكات والقتل والوقاع وهتك العرض والحريق وابتزاز المال بالتهديد والنصب.
المقارنة بين المذهبين الموضوعي والشخصي:        للمذهب الموضوعي ميزة هامة، هي الوضوح وسهولة التطبيق، إذ يعتمد على ضوابط محددة لا تدع مجالاً كبيراً للسلطة التقديرية للقاضي. ولكن النقد الأساسي الذي وجه إليه أنه يضيق من دلالة البدء في التنفيذ ويخرج من نطاق العقاب أفعالاً تقتضي المصلحة العامة أن يوقع العقاب من أجلها. أما المذهب الشخصي فيتوسع في دلالة البدء في التنفيذ ويحمي بذلك مصلحة المجتمع، ولكنه معيب من حيث اعتماده على صيغ ينقصها التحديد، وتتطلب الركون إلى السلطة التقديرية للقاضي. وتفترض قدراً غير يسير من اختلاف الحلول.        هذا هو الرأي السائد في الحكم على المذهبين، ويميل الفقه في فرنسا ومصر إلى ترجيح المذهب الشخصي في حين يميل الفقه الألماني إلى ترجيح المذهب الموضوعي، أما القضاء في هذه البلاد جميعاً فيؤيد المذهب الشخصي. ولكن للمذهب الموضوعي ميزة قلما تذكر له، هي أنه أكثر اتساقاً مع المبادئ القانونية الأساسية، إذ أنه يتطلب في الفعل من الشروط ما تتحقق به صفته غير المشروعة ويقوم به الركن الشرعي للجريمة، وهو ركن لم يغفل الشارع عن تطلبه في حالات الشروع، إذ لا يتصور أن ينسب إلى الشارع اعترافه بالمسئولية الجنائية حيث لا يكون الفعل المرتكب غير مشروع. ومصدر الصفة غير المشروعة هي نصوص التجريم، ولذلك يتعين أن يكون الفعل المرتكب ذا صلة بأحد هذه النصوص حتى يسوغ القول بأنه استمد منها هذه الصفة، ويستتبع ذلك حتماً أن يشترط في الفعل من الشروط ما تقوم به هذه الصلة. وعلى هذا النحو، يبدو لنا أن المذهب الشخصي لا يستند إلى أساس صحيح من القانون، إذ يفترض أن القانون يجرم الإرادة في ذاتها ويعتبر قيمة الفعل مقتصرة على كونه دليلاً على وجود هذه الإرادة، وليس هذا صواباً، إذ القانون الحديث لا يجرم إرادة مجردة، والصفة غير المشروعة يسبغها أساساً على الفعل باعتباره مصدر ضرر أو خطر على المجتمع. ونعتقد بالإضافة إلى ذلك أن الضوابط التي يقول بها أغلب أنصار المذهب الشخصي ليست متفقة مع الفكرة الأساسية فيه، بل هي في حقيقتها أقرب إلى المذهب الموضوعي: وعلى سبيل المثال نشير إلى الضابط الذي يتجه إلى تأييده الفقه والقضاء ويحدد البدء في التنفيذ بأنه "الفعل الذي يؤدي حالاً ومباشرة إلى الجريمة"، إذ يتطلب هذا الضابط في الفعل شروطاً تكفل قربه من الركن المادي للجريمة واتصاله به في صورة مباشرة، ولكن منطق المذهب الشخصي يأبى أن تشترط في الفعل شروط ويرى الكفاية في دلالته على الإرادة الإجرامية، وهذه الدلالة يستحيل تحديدها على نحو مجرد، وصياغتها في ضابط يصلح للتطبيق على كل ما يعرض من حالات، بل من المتعين أن يترك تحديدها إلى قاضي الموضوع الذي يستطيع دراسة الظروف التي عاصرت ارتكاب الفعل والاستعانة بها على تحديد ماله من دلالة. وعلى هذا النحو نرى أن نسبة تأييد المذهب الشخصي إلى الفقه والقضاء هو قول تعوزه الدقة. ولتوضيح الفكرة الأساسية التي يقوم عليها المذهب الشخصي نقرر أن الضابط الذي يعبر عنها تعبيراً صحيحاً هو الضابط الذي قال به "سالي –" حينما عرف البدء في التنفيذ بأنه: "العمل الذي يدل علة نية إجرامية نهائية". وواضح أن هذا الضابط لا يتطلب في ذات الفعل شروطاً، وإنما يكتفي بدلالته على النية الإجرامية؛ وتأخذ المحكمة العليا الألمانية بضابط تعرف به البدء في التنفيذ بأنه: "الفعل الذي يرى الجاني طبقاً لخطته الإجرامية أنه تهديد مباشر للحق الذي يحميه القانون، ويرى تبعاً لذلك أنه بداية تسلسل سببي يقود إلى الاعتداء على هذا الحق". وواضح كذلك أن هذا الضابط لا يتطلب في الفعل شروطاً ذاتية، وإنما يجعل العبرة بخطة الجاني وتقديره، وقد يبعدان عن الحقيقة بعداً كبيراً، وفي رأينا أن هذين الضابطين يعبران عن الفكرة الأساسية التي يقوم عليها هذا المذهب. وإذا سلمنا بأن المذهب الشخصي لا يتطلب في الفعل الذي يعد "بدءاً في التنفيذ" شروطاً ذاتية فإن ذلك يكشف عن عيب أساسي فيه، ذلك انه لا يقيم التفرقة بين العمل التحضيري والبدء في التنفيذ على أسس مقبولة، إذ أن كل عمل تحضيري مهما بعد عن الجريمة يعد بدءاً في تنفيذها إذا كشف عن النية الإجرامية ولو كانت هذه الدلالة غير مستخلصة منه ذاته، وإنما استخلصت من الظروف التي اقترنت به، وفي ذلك اتساع في العقاب لا تبرره مصلحة المجتمع، لأنه تجريم لأفعال لا يصدر عنها تهديد للحق الذي يحميه القانون، ولا يمكن أن توصف بأنها غير مشروعة، وهو بالإضافة إلى ذلك تجريم لنية إجرامية مجردة استخلصت عن طريق مجموعة من القرائن كان الفعل إحداها. ونحن بعد ذلك نعتقد أن النقد الذي وجه إلى المذهب الموضوعي من أنه يهدر مصلحة المجتمع بتضييقه من نطاق العقاب هو نقد موجه إلى الضوابط التي قال بها بعض أنصاره، والدليل على ذلك أن فريقاً من أنصار هذا المذهب في الفقه الألماني يقولون بضوابط لا يصدق عليها هذا النقد. ونحن نرى أن البحث عن معيار "للبدء في التنفيذ" ينبغي أن يكون على أساس من علة العقاب على الشروع، هذه العلة كما قدمنا هي حماية الحق من الخطر الذي يهدده، ومن ثم كانت فكرة "الخطر" هي الوسيلة إلى تحديد الفعل الذي يجرمه القانون بالعقاب على الشروع. وليس من الصواب القول بأن "الخطر" يكمن في النية الإجرامية وحدها، إذ تعاصر هذه النية العمل التحضيري، بل قد توجد قبل ذلك، ولم يقل أحد بأن ثمة محلاً للتجريم والعقاب على الخطر الكامن فيها، وإنما ينبغي لقيام الشروع أن يكمن الخطر في الفعل كذلك، فيوجد ما يبرر إسباغ الصفة غير المشروعة عليه. وعلى هذا النحو نستطيع تعريف البدء في التنفيذ بأنه: "كل فعل يهدد بالخطر حقاًَ يحميه القانون بالعقاب"، أما العمل التحضيري فهو: "الفعل الذي لا يصدر عنه خطر يهدد الحق". ونرى أن معيار الخطر هو فكرة "الإمكانيات الموضوعية" التي تقوم عليها نظرية السببية الملائم: فإذا كان الفعل مقترناً بالعوامل العادية المألوفة التي عاصرت لحظة ارتكابه تكمن فيه هذه الإمكانيات، فكان من شأنه إحداث النتيجة الإجرامية فهو مصدر خطر على الحق، ومن ثم هو بدء في تنفيذ الجريمة. ولا يقتضي هذا الضابط أن يكون الفعل جزءاً من الركن المادي للجريمة أو ظرفاً مشدداً لها، فقد يكون خارجاً عن نطاقها، ومع ذلك فإن السير العادي لتطور آثاره أن تفضي إلى حدوث النتيجة الإجرامية.ولا مفر من الاعتراف للقاضي بسلطة تقديرية لتحديد الخطر الكامن في الفعل: فعليه أن يحدد الظروف التي أحاطت به، ويضيف إلى الفعل آثاره، ويتبين القوانين الطبيعية التي يحركها هذا المجموع، ويرى ما إذا كان السير العادي لآثارها أن تحدث النتيجة وللاستعانة بفكرة "الإمكانيات الموضوعية" لتحديد مدلول البدي في التنفيذ ما يبررها، فقد رأينا أن هذه الفكرة تحدد نصيب الفعل من الصفة غير المشروعة بالنسبة لجريمة معينة، ونحن حينما نحدد مدلول "البدء في التنفيذ" إنما نهدف إلى تحديد الفعل الذي يوصف بأنه غير مشروع بالنسبة إلى الشروع في جريمة معينة.
سلطة القضاء في التحقق من توافر هذا الركن:        تحديد ما صدر عن المتهم من أفعال وما عاصرها من ظروف يدخل في سلطة قاضي الموضوع ولا رقابة لمحكمة النقض عليه في ذلك، إذ أنه بحث في وقائع الدعوى، ولكن تكييف هذه الأفعال بأنها بدء في تنفيذ جريمة معينة أو مجرد عمل تحضيري لها هو فصل في مسألة قانونية يخضع قاضي الموضوع فيها لرقابة محكمة النقض: ذلك أن هذا التكييف هو تكييف قانوني؛ ثم هو تفسير لتعبير "البدء في التنفيذ" الذي ورد في نص القانون، وهو في النهاية فصل في توافر ركن يقوم عليه التجريم والعقاب. وهذه الرقابة تتيح لمحكمة النقض أن تلزم قاضي الموضوع بمعيار معين للبدء في التنفيذ، إذ أن رقابتها على التكييف الذي يقرره قاضي الموضوع إنما تكون بالرجوع إلى معيار معين تقدر وفقاً له ما إذا كان هذا التكييف صحيحاً أم غير صحيح.

( ب ) تطبيق معيار البدء في التنفيذ على الجريمة المستحيلة

تعريف الجريمة المستحيلة:        نعني بالجريمة المستحيلة حالة ما إذا لم يكن في وسع الجاني – في الظروف التي أتى فيها فعله – أو في وسع شخص آخر مكانه أن يحقق النتيجة الإجرامية. والجريمة المستحيلة أشبه بالجريمة الخائبة باعتبار أن الجاني قد أتى كل نشاطه، وعلى الرغم من ذلك لم تتحقق النتيجة؛ ولكن تتميز الجريمة المستحيلة بأن أسباب الخيبة فيها كانت قائمة وقت اقتراف الفعل، فهي ليست عارضة، وإنما هي مقدرة منذ لحظة بدء الجاني في مشروعه الإجرامي وكانت تواجه كل شخص سواه يأتي الفعل في نفس الظروف ولو حاز من المهارة ما لم يكن متوافراً لدى الجاني؛ وفي تعبير آخر الخيبة محتملة عند بدء الجاني في الجريمة الخائبة ولكنها محققة عند بدئه في الجريمة المستحيلة. وأهم أمثلة الجريمة المستحيلة أن يطلق شخص الرصاص على آخر بنية قتله فإذا به ميت من قبل، أو أن يحاول الاستيلاء على ما يعتقد أنه مملوك لغيره فإذا به مملوك له، أو أن يحاول شخص قتل آخر فيستعمل لذلك مادة غير سامة معتقداً أنها سامة، أو يستعمل مادة سامة ولكن بكمية قليلة لا تكفي لإحداث الوفاة.
تحديد موضوع البحث:        يدور الجدل في الفقه حول معرفة ما إذا كانت الجريمة المستحيلة تلحق بالجريمة الخائبة فيكون لها عقابها باعتبارها صورة للشروع أم أن الاستحالة تحول دون تدخل الشارع بالعقاب. لا شك في أن الشارع إذا عاقب على البدء في التنفيذ فهو يفترض التنفيذ ممكناً، ولكن موضع الجدل هو تحديد نوع الإمكان الذي يتطلبه القانون: هل يتطلب كون التنفيذ ممكناً في ذاته أم يكتفي بكونه كذلك في ذهن الجاني وتقديره؟ اختلف المذهبان الموضوعي والشخصي في الإجابة على هذا التساؤل. وعلى هذا النحو، فليس الاختلاف بين المذهبين في تطلب أحدهما كون التنفيذ ممكناً وإغفال الآخر ذلك، ولكن الاختلاف هو تحديد ما إذا كان الإمكان فكرة موضوعية أو هو عقيدة لدى الجاني وإن كانت بعيدة عن الحقيقة. ونعرض فيما يلي الآراء التي قيل بها لحسم هذه المشكلة.
لا عقاب على كل حالات الاستحالة:        ذهب إلى القول بذلك الأوائل من أنصار المذهب الموضوعي، ويعتمدون في ذلك على حجتين: الأولى- أن تنفيذ الجريمة تنفيذاً كاملاً يفترض أنه ممكن، فحيث توجد الاستحالة لا يتصور التنفيذ، وما يصدق على التنفيذ الكامل يصدق كذلك على التنفيذ الجزئي، أي البدء في التنفيذ، فحيث لا يتصور التنفيذ لا يتصور كذلك البدء فيه. أما الحجة الثانية، فمستمدة من المادة 301 من قانون العقوبات الفرنسي، وهي مماثلة للمادة 233 من قانون العقوبات المصري، ويعرف هذا النص مرتكب جريمة التسميم بأنه: "من قتل أحداً بجوهر يتسبب عنها الموت عاجلاً أو آجلاً"، ويعني ذلك أن الركن المادة لهذه الجريمة يتطلب استعمال مواد من شأنها إحداث الوفاة، أي يتطلب كون الوسيلة من شأنها إحداث النتيجة، وليست هذه القاعدة خاصة بالتسميم، وإنما هي قاعدة عامة تخضع لها الجرائم كافة، وما يصدق على الجريمة التامة يصدق على الشروع فيها كذلك.        وهذا الرأي يعيبه أنه يضيق على نحو مبالغ فيه من نطاق العقاب، فيهدر بذلك مصلحة المجتمع: فمن يضع يده بقصد السرقة في جيب خال من النقود، ومن يستعمل في قتل المجني عليه مادة سامة ولكن بكمية تقل قليلاً عما كان كافياً لإحداث الوفاة لا يوقع عليهما عقاب على الرغم من أن فعل كل منهما في حد ذاته خطير ومن أن المجني عليه كان مهدداً بخطر حقيقي لم تنقذه منه غير المصادفة البحتة. وبالإضافة إلى ذلك فليست الحجج التي يعتمد عليها هذا الرأي ذات أساس من القانون، فإذا افترض القانون أن يكون التنفيذ ممكناً فمحل ذلك أن ترتكب الجريمة كاملة، إذ يقتضي تمام الجريمة ذلك، أما إذا لم تتم فمن المتصور في المنطق أن يكون عدم تمامها راجعاً إلى أسباب جعلت التنفيذ في بعض مراحله غير ممكن. أما المادة 233 من قانون العقوبات (المصري) فتحدد أركان الجريمة التامة ولا شأن لها بالشروع فيها، ولذلك يكون استبعادها من نطاق البحث متعيناً.
التفرقة بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية:        الاستحالة المطلقة تحول دون العقاب ولكن الاستحالة النسبية لا تحول دونه. وضابط التفرقة بينهما أن الاستحالة المطلقة هي استحالة عامة مجردة تعرض في كل الحالات التي يحاول فيها شخص الاعتداء على موضوع الحق نفسه مستعملاً عين الوسيلة. أما الاستحالة النسبية فخاصة بالحالة التي حاول فيها الجاني ارتكاب جريمته، أي ترجع إلى الظروف الواقعية التي أحاطت بموضوع الحق أو وسيلة الاعتداء عليه، وهذه الاستحالة ما كانت تعرض لو ارتكبت الجريمة نفسها في ظروف أخرى مساساً بموضوع آخر للحق أو عن طريق وسيلة أخرى، ومن ثم يسوغ القول بأن الحق كان معرضاً لخطر فعلي لم تنقذه منه غير المصادفة البحتة. والاستحالة بنوعيها قد ترجع إلى موضوع الحق وقد ترجع إلى وسيلة الاعتداء عليه. فالاستحالة المطلقة الراجعة إلى الموضوع تفترض عدم وجوده أو فقده صفة لا غنى عنها لتصوره محلاً للحق المعتدى عليه، مثال ذلك إطلاق الرصاص بنية القتل على شخص مات من قبل، ومحاولة اختلاس مال مملوك للجاني نفسه، ومحاولة إجهاض امرأة غير حامل. أما الاستحالة المطلقة الراجعة إلى الوسيلة فتفترض استعمال الجاني وسيلة غير صالحة في أية حالة من الحالات لإحداث النتيجة الإجرامية، مثال ذلك أن يستعمل الجاني بنية القتل سلاحاً نارياً غير معبئ بالطلقات، أو أن يستعمل في التسميم مادة غير سامة على الإطلاق. وتفترض الاستحالة النسبية الراجعة إلى الموضوع وجوده أو استيفاءه كل شروطه ولكن في مكان غير ما اعتقد الجاني وجوده فيه، مثال ذلك إطلاق الجاني الرصاص على المكان الذي اعتاد المجني عليه الوجود فيه في وقت معين وتغيبه عنه مصادفة، ومحاولة السرقة من جيب خال من النقود. أما الاستحالة النسبية الراجعة إلى الوسيلة فتفترض صلاحيتها بصفة عامة لإحداث النتيجة وعدم جدواها لأن الجاني لم يحسن استعمالها، مثال ذلك إلقاء قنبلة على جمع من الناس دون إزالة صمامها، أو استعمال مادة سامة بكمية غير كافية لإحداث التسميم.        وهذا الرأي يعيبه أنه غير منطقي، إذ الاستحالة نوع واحد، فمن غير المقبول القول بأن لها درجات وأنواع، فالجريمة إما أن تكون ممكنة وإما أن تكون مستحيلة ولا وسط بين الأمرين، والدليل على ذلك أنه لو نظرنا إلى الحالات التي يقال أن الاستحالة فيها نسبية وافترضنا أن ظروف ارتكاب الفعل ظلت دون تغيير فأن تحقيق النتيجة يظل كذلك مستحيلاً. فالتفرقة بين نوعي الاستحالة أساسه افتراض تغير الظروف في حالة الاستحالة النسبية، وليس هذا الافتراض غير محض مجاز، أما إذا نظرنا إلى الفعل في نفس الظروف فالجريمة مستحيلة دائماً.
التفرقة بين الاستحالة القانونية والاستحالة المادية:        تعني الاستحالة القانونية انتفاء أحد عناصر الجريمة بحيث لا يمكن أن توصف النتيجة التي يسعى الجاني إلى تحقيقها بأنها نتيجة إجرامية، فهو يسعى إلى تحقيق وضع لا يجرمه القانون، ومن ثم فلا عقاب عليه. أما الاستحالة المادية فترجع إلى ظروف مادية جعلت الجاني لا يستطيع تحقيق النتيجة الإجرامية التي يهدف إليها، وبذلك توافرت بفعله عناصر الشروع المعاقب عليه، وأساس التفرقة بين نوعي الاستحالة أن القانون لا يتدخل بالعقاب إلا إذا توافرت جميع عناصر الجريمة، ولكنه يقرر استثناء وحيداً لذلك إذا تخلفت من عناصر الجريمة نتيجتها، إذ يعاقب على هذا الوضع باعتباره شروعاً، أما إذا ما انتفى عنصر سواها فلا محل للعقاب لانتفاء أحد شروطه، بالإضافة إلى أن هذا الوضع لا يعد شروعاً. فمن يطلق النار على شخص مات من قبل فلا عقاب عليه لأن من أركان جريمة القتل كون المجني عليه حياً وقت فعل الجاني، ومن يستولي على ماله معتقداً أنه مال مملوك لغيره لا عقاب عليه لأن من أركان السرقة كون محلها مالاً مملوكاً لغير الجاني. ويضيف هذا الرأي حجة ثانية: ذلك أنه إذا كان القانون يتطلب لقيام الجريمة توافر عناصر معينة، فهو يتطلبها سواء أكانت تامة أم وقفت عند حد الشروع، فمن غير المقبول أن نذكرها بين عناصر الجريمة، فإن أردنا العقاب على مجرد الشروع أغفلناها. وفي النهاية يفترض الشروع أن الجاني يتجه قصده إلى نتيجة غير مشروعة في ذاتها، فإن كان من شأن انتفاء بعض عناصر الجريمة أن تجردت النتيجة من هذه الصفة فلا يكون للشروع محل. ولا يعتد هذا الرأي باستحالة ترجع إلى الوسيلة، أي أن كل حالات الاستحالة الراجعة إلى الوسيلة هي صور للاستحالة المادية، وهي لذلك لا تحول دون العقاب. وتفسير ذلك أن القانون لا يعتد بوسيلة إحداث النتيجة، إذ كل الوسائل سواء طالما كان من شأنها الاعتداء على الحق، ولهذا الأصل استثناء حيث يعتد القانون بالوسيلة كالوضع في جريمة التسميم، إذ تعد محاولة قتل شخص عن طريق مادة غير سامة صورة للاستحالة القانونية.        والنقد الأساسي الذي وجه إلى هذا الرأي أنه لا يفترق في شيء عن الرأي القائل بالتفرقة بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية. ولكن هذا النقد غير صحيح، إذ يفترق الرأيان في أن أحدهما – دون الآخر – لا يعترف باستحالة ترجع إلى الوسيلة، وبالإضافة إلى ذلك فهما مختلفان من حيث الأساس القانوني.
العقاب في كل حالات الاستحالة:        يرفض أنصار المذهب الشخصي كل تفرقة بين حالات الاستحالة، ويرون العقاب عليها كافة. وسندهم في ذلك الحجج التالية: أن الإرادة الإجرامية هي التي يتجه القانون إليها بالعقاب في الشروع، وتفترض كل حالات الاستحالة وجود هذه الإرادة والتعبير عنها بنشاط يصلح في تقدير صاحبه لتحقيق النتيجة، فيكون كل ما يتطلبه القانون لتوقيع العقاب متوافراً. ويضيف أنصار هذا المذهب إلى ذلك القول بأن من

tamerelrashedy

تامر الرشيدى المحامى

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1522 مشاهدة
نشرت فى 19 ديسمبر 2013 بواسطة tamerelrashedy

ساحة النقاش

tamerelrashedy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

380,598