التفكير الرياضي
مقدمة: لقد جعل أرسطو aristote من المنطق مقدمة لكل العلوم، غير أن الطابع التحليلي في لمنطق جعل الكثير يصفه بالعقيم لأن النتيجة متضمنة في إحدى المقدمتين وفي المقدمة لكبرى على وجه الخصوص، مما أدى إلى البحث عن منطق جديد للعلم هو المنطق المادي والبحث عن مدخل لمختلف العلوم فرض الرياضيات التي أصبحت لغة للعلم بدلا عن لغة المنطق.
وأصبحت الأنظار مشدودة إليها تؤكد قيمتها وأهميتها، وفي هذا الإطار تطرح أسئلة كثيرة، ماذا يراد بالرياضيات؛ ما هو موضوعها؟ ما هي المبادئ التي تقوم عليها؟ كيف يحقق الرياضي قضاياه؟ ثم ما هو موقعها في الفكر الإنساني عموما وما أثارها في العلم على وجه الدقة؟
مفهوم الرياضيات:
الرياضيات علم يختص بدراسة الكم أو المقدار القابل للقياس، سواء كان هذا الكم متصلا [هندسة] أو كان كما منفصلا [حساب].
1. الكم المتصل: يسمى هذا الكم متصلا تعبيرا عن موضوعات الهندسة [أطوالا، مساحات، أشكالا،...الخ] إذ يلاحظ عدم وجود فجوات بين وحداته فالمستقيم هو عدد لا نهائي من النقاط المتصلة على استقامة واحدة، يتميز الكم المتصل أو الهندسي بأنه كم عقلي مشخص يفترض مكانا.
2. الكم المنفصل: وهو موضوع للحساب يتميز موضوعه بأنه مجرد وسمي منفصلا لانفصال وحداته ووجود ثغرات أو فجوات بينها فمثلا العد 1-2-3....الخ فبين هذه القيم عدد لا نهائي من لقيم. تطور هذا الفرع فظهر الجبر مع الخوارزمي ثم التحليل مع ديكارت.
نتيجة: الرياضيات علم يختص بدراسة المفاهيم الكمية المجردة.
مبادئ الرياضيات:
طالما أن موضوع الرياضيات نظري فالأكيد أن الرياضي سينطلق من مبادئ ضرورية لهذا النمط من التفكير وقد حدد أقليدس 03 أنواع من هذه المبادئ، ظل ينظر إليها على أنها ضرورية لكل رياضي وهي:
1. البديهيات axiomes - évidence
يقصد بالبديهية كل قضية واضحة بذاتها لا تحاج إلى برهان أو كما يقال هي حكم تحليلي محموله متضمن في موضوعه فمبادئ العقل مثلا بديهيات.
وفي الرياضيات حدد إقليدس 05 بديهيات هي:
الكميات المتساوية فيما بينها تظل كميات متساوية
إذا أضيفت كميات متساوية إلى أخرى متساوية أعطية كميات متساوية.
إذا طرحت كميات متساوية من كميات متساوية أعطيت كميات متساوية.
الكميات المتطابقة متساوية.
الكل أكبر من الجزء
مميزات البديهية:
واضحة بذاتها لا تحتاج إلى برهان
تتميز البديهية بأنها عامة تلزم جميع العقول كما تلزم في جميع المعارف
تتميز البديهية بأنها ثابتة
سابقة عن التجربة تدرك بالبداهة بشكل حدسي
من نسيج العقل.
المسلمة: postulats وهي قضية بسيطة يضعها العالم ويطالبنا بالتسليم بها على أساس أنه سيبني عليها نسقا رياضيا متماسكا. وأشهرها في الرياضيات تلك التي حددها إقليدس.
من الممكن الوصل بين أية نقطتي بخط مستقيم
يمكن مد القطعة المستقيمة من جهة إلى ما لا نهاية.
يمكن رسم الدائرة إذا علم مركزها ونصف قطرها.
الزوايا القائمة متساوية.
من نقطة خارج مستقيم لا يمكن أن يمر إلا مواز واحد لذلك المستقيم
خصائص ومميزات المسلمة:
قضية بسيطة ولكنها أقل وضوحا من البديهية
المسلمة خاصة في مقابل البديهية التي توصف بأنها عامة أي خاصة بالعالم لذي يضعها كما تختص بالمجال المعرفي.
المسلمة متغيرة.
بعدية.
التعريفات: يراد بالتعريف تحديد مفهوم أي حد أو لفظ بذكر خصائصه الجوهرية قدر الإمكان، وإذا استثنينا البديهيات والمسلمات فما تبقى في الرياضيات عبارة عن كائنات أو مفاهيم، أي أنها مصدر ثراء الرياضيات ، ويميز الرياضيون بين تعريفات تحليلية وأخرى تركيبية.
البرهان الرياضي:
طالما أن الرياضي يتناول موضوعا نظريا مجردا وينطلق من مبادئ عقلية فالأكيد أن المنهج الذي يتبعه الرياضي هو منهج عقلي أي أن طريقة البرهنة في الرياضيات استنتاجية ينتقل فيها الرياضي من مقدمات وصولا إلى نتيجة لازمة بصورة ضرورية، على أن طابع الحركة في البرهنة الرياضية وفي الاستنتاج الرياضي ثنائية يمكن أن تكون تحليلية أو تركيبية.
أ. البرهان التحليلي: وهو الذي ينطلق فيه الرياضي من قضايا معقدة أو عامة إلى قضايا بسيطة أو خاصة قد تكون مبدءا من المبادئ لسابقة.
مثلا: البرهنة على أن مجموع ضلعي أي مثلث أكبر دائما من الضلع الثالث.
ترد هذه القضية إلى المسلمة القائلة: المستقيم أقصر بين نقطتين.
ب. البرهان الرياضي التركيبي: وهو الذي ينطلق فيه الرياضي من قضايا بسيطة أو خاصة في حركة إنشائية تركيبية ليصل إلى نتيجة معقدة أو عامة.
مثلا" ضرب معادلتين من الدرجة I يؤدي وينتج معادلة من الدرجة II
مشكلة أساس الرياضيات:
إن ما وضحناه سابقا من مبادئ وطريقة للبرهنة فهو في الحقيقة متعلق بما يعرف بالرياضيات التي وضعها وأسس لها إقليدس وظلت تلك المبادئ كذلك إلى غاية القرن 19 حينما حاول لوبا تشوفسكي (1793-1856) أن يبرهن المسلمة 05 لإقليدس فوجد نفسه أمام نسق جديد، إذا افترض أن من نقطة خارج مستقيم يمكن أن نمرر عددا لا متناهيا من الموازيات ثم محاولة ريمان (1826-1866) الذي افترض أنه من نقطة خارج مستقيم لا يمكن أن نمرر أي مواز على الإطلاق ليجد هو الآخر نفسه أمام نسقا ثالثا متميزا.
مثلا:
نسق ريمان نسق لوبا تشكوفسكي نسق إقليدس
- السطح كروي محدود > 0- من نقطة خارج مستقيم لا يمكن أن نمرر أي مواز على الإطلاق.- مجموع زوايا المثلث أكبر من 180 - السطح مقعر يمتد إلى ما لانهاية انحناؤه أقل من الصفر- من نقطة خارج مستقيم يمكن تمرير عدد لا نهائي من المتوازيات- مجموع زوايا المثلث< 180 السطح مستو يمتد إلى ما لانهاية إنحناؤه = 0- من نقطة خرج مستقيم لا يمكن أن نمرر إلا مواز واحد فقط - مجموع زوايا المثلث= 180
هذه الملاحظات طرحت السؤال التالي: هل المبادئ التي وضعها إقليدس ضرورية في الرياضيات أم أن هذه المبادئ لا تلزم إلا الرياضيات الإقليدية التقليدية؟ هل يعني ذلك أننا لا يمكن الحديث عن بديهية في الرياضيات؟ وإذا كان هذا الفرض ممكنا كيف سننظر إلى اليقين الرياضي هل مطلق أم نسبي؟
الموقف I أنصار الرياضيات التقليدية: المبادئ في الرياضيات بديهيات ثابتة ومن ثمة فالمبادئ لازمة لكل رياضي حفاظا على اليقين الرياضي، لقد ظل ديكارت معجبا بفكرة البداهة وجعلها من الأفكار الفطرية الخالدة، وسعى جاهد لتصور منهج في الفلسفة، قائما على البداهة "لا أقبل شيئا على أنه صحيح إلا إذا كان بديهيا" وعليه فمهمة الرياضي هي الإضافة وليست إعادة النظر.
إن الغاية من الالتزام بمبادئ الرياضيات كما وضعها إقليدس هي ضمان اليقين للرياضيات.
النقد: يبدو هذا الموقف متماسكا من الناحية النظرية، ولكن تاريخ الرياضيات وتطورها أثبتا العكس، إذ أمكن مراجعة المسلمة الخامسة لإقليدس.
الموقفII: أنصار الرياضيات الأكسيومية: إذا عدنا إلى الأنساق لسابقة تبين لنا أن الرياضيين المحدثين لا يرون حرجا في إعادة النظر في المبادئ. ليس هنا بديهيات ثابتة، بل الموجود أوليات Axoimes وهي قضايا بسيطة لا نحكم عليها لا بالصدق ولا بالكذب، بل مجرد منطلقات يحق للرياضي أن يضع منها ما يشاء وفعلا لقد استطاع ريمان أن يفترض أنه من نقطة خارج مستقيم لا يمكن أن نمرر أي مواز على الإطلاق وافتراض لوباتشوسكي أنه من نقطة خارج مستقيم يمكن أن نمرر عددا لا نهائيا من المتوازيات.
النقد: رفض البديهيات ترتبت عليه أزمة حادة في الرياضيات عرفت بأزمة اليقين الرياضي
نتيجة: في ظل الجدل السابق انتهت الرياضيات إلى أن تعدد الأنساق أصبحت حقيقة قائمة وليس من حق أيا كان أن يقيس نتائج نسق بنسق آخر بل كل نسق يتوفر على اليقين طالما هنالك تماسكا منطقيا بين النتائج والمقدمات ليصبح وضع الأوليات شرطا في الرياضيات الحديثة.
مشكلة الرياضيات والمنطق:
أ. ضبط المشكلة: تنتمي الرياضيات إلى العلوم الصورية فموضوعاتها نظرية مجردة ومنهجها استنتاجي تلزم فيه النتائج عن المقدمات وهو أمر مر بنا في المنطق الصوري، إذ يتميز الاستدلال فيه بكونه استنتاجيا، ثم أن تطور الرياضيات انتهى إلى ما يسمى بالمنطق الرياضي فهل يعني أن الرياضيات ترتد إلى أصول منطقية أم أن الرياضيات رياضيات والمنطق منطق؟
ب. التحليل:
1. الموقف الرياضي: ينظر الرياضيون باستعلاء إلى المنطق، ورفضوا أن ترد الرياضيات إلى المنطق لأنها ببساطة علم مستقل بكل المعاني.
إن عناصر الاختلاف والتباين بين الرياضيات والمنطق أقوى من عناصر التشابه، فمن ناحية النشأة تعود الرياضيات إلى واضع مبادئها إقليدس ويعود المنطق إلى الفيلسوف أرسطو، الرياضيات علم مستقل والمنطق مدخل للفلسفة كما يختلفان في الموضوع والمنهج والنتائج، فالموضوع الرياضي، كمي، رمزي بينما الموضوع المنطقي، لغوي، كيفي أم المنهج فهو في الرياضيات تحليلي وتركيبي لا يكتفي بالبرهنة بل يؤدي إلى الإبداع بينما الاستدلال المنطقي تحليلي فقط يصلح للبرهنة والإقناع، لينعكس كل ذلك على النتائج فهي كمية إبداعية في الرياضيات، تحصيل حاصل في المنطق، هذا الموازنة تفيد أن الرياضيات علم مستقل لا يرتد إلى الرياضيات ومن دعاة هذا الطرح، هنري بوانكاري وقوبلو...الخ.
النقد: يصح هذا الموقف لو كان القصد بالرياضيات تلك التي وضع أقليدس أسسها وبالمنطق، المنطق الأرسطي ولكن الرياضيات لم تبق كما وضع إقليدس مبادئها ولم يبق المنطق كما أراده أرسطو، فظهور المنطق الرمزي يدفع إلى إعادة النظر.
2. الموقف المنطقي: دافع برتراند راسل بقوة على الموقف القائل أن الرياضيات في تطورها انتهت إلى المنطق وهو يقصد المنطق الرياضي الذي يعد أعلى شكل بلغته الرياضيات في هذا التطور يتحدى راسل الرياضيين والمناطقة على حد سواء أن يضعوا خطا فاصلا بين الرياضيات والمنطق، ... فالمنطق يمثل طور الرجولة والنضج والبلوغ للرياضيات والدليل منجزات المنطق الرياضي.
النقد: يبدو أن راسل يعني في نظريته المنطق الرياضي وهو من هذا الزاوية صحيح ولكن الرياضيات ليست هي المنطق الرياضي.
نتيجة: لا ترتد الرياضيات إلى المنطق إلا جزئيا.
مشكلة أثر الرياضيات في العلوم [الرياضيات ومعرفة الواقع]: كيف تكون معرفة الواقع، معرفة رياضية؟
أ. ضبط المشكلة: كتب أرسطو قائلا: "إن نبل الرياضيات يرجع إلى أنها لا تحقق أية منفعة" بمعنى أن قيمة الرياضيات تكمن في كونها نظرية مجردة منزهة عن كل ما هو مادي، وسميت الرياضيات كذلك لأنها رياضة عقلية، لكن ظهور العلوم المختلفة واستعارتها لغة الدقة من الرياضيات، غير النظرة إلى الرياضيات وأصبح يعول عليها كثيرا في فهمنا للواقع فكيف ذلك؟ أين يتجلى أثر الرياضيات وما قيمة هذا التأثير.
ب. التحليل:
أ. تتميز الرياضيات بخاصيتين أساسيتين: أولا كونها كمية دقيقة تعبر عن قضاياها في صورة رموز تعوض التعبير اللغوي المتداول وما فيه من مخاطر الذاتية وتجنب الفكر الوصف الكيفي الساذج.
ثانيا كونها عقلانية صورية تجد انسجامها في منطقها وكأن الرياضيات جمعت بين خاصيتين جوهريتين الدقة من جهة واليقين من جهة ثانية، هذا ما جعل الرياضيات مطمح العلوم، بل أصبحت علمية العلم موقوفة على مدى لتشبيه بالرياضيات إذ عدها أو جست كونت "آلة ضرورية لجميع العلوم" ووصفت بأنها "العلم السيد"...
ب. نقرأ هذا التأثير في العلوم التجريبية المختلفة، فإذا أخذنا على سبيل المثال الفيزياء لتبين لنا أن النقلة النوعية في هذا العلم كانت مع غاليلي الذي كان يقول: "إن الطبيعة كتاب مفتوح نقرأ فيه بلغة رياضية" بل يردف قائلا: "إن الفيزياء الحقة هي تلك التي تمارس ممارسة قبلية" أي تتصور في الذهن قبل أن تمارس في الواقع العملي وكأن الفيزياء ما أصبحت علما إلا حينما استعارت الخاصيتين التكميم والعقلنة، إن تأثر الفيزياء بالرياضيات لم يبق في حدود اللغة والرمز بل أصبحت دقة القانون مرهونة بصياغتها رياضية...
يمكن أن نواصل كشف تأثير الرياضيات في كل العلوم [الفلك، البيولوجيا، العلوم الإنسانية...الخ].
ج. نكتشف من المثال السابق أن الرياضيات وغن كانت في طبيعتها نظرية ومنزهة عن الواقع، إذ يتعامل الرياضي مع كائنات مجردة فإن أثرها كان عظيما في فهم الواقع ويمكننا أن نعمم لنقول أن أثرها شمل حتى الفلسفة فالعقلانية الحديثة جرحت من عقلانية تقول أن لعقل وعاء به مبادئ كما كان يتصور ديكارت إلى عقلانية تنظر إلى العقل كطاقة للمعرفة تضع ما تشاء من المبادئ يذكرنا هذا بقول فيثاغورس قديما الكون أعداد. .
ساحة النقاش