رحل بالأمس القريب الفنان التشكيلي عيسى بعجانو فعاد هيشون إلى خربة هيشون في حفة اللاذقية بعد أن عجن عمره البالغ 59 عاماً بلوحته التي اكتسبت حداثتها من استقلاليتها وتميُّزها عن غيرها.. ورسم خطوطه بحضارات سورية التي أغرقته وأغرقها حباً.. وتأملات لوحة مركبة مما هو تجريدي، سريالي، وواقعي في الآن ذاته.. عارك مرضاً عضالاً حاول بكامل قواه أن يتغلب عليه بمشروعه الفني الذي رغب أن يكون مولوداً مكتملاً قبل أن يخذله القدر..‏

ولأن الرحيل منعني من التحدث معه سعيت لأتحدث عنه مع بعض أصدقائه علنا نرمم القليل القليل من التقصير الإعلامي تجاه فنان تشكيلي، شاعر وقاص..‏

تجربة متشعبة‏

يقول صديق الطفولة الفنان عبد الله خدام: تجربة الفنان /هيشون/ تجربة غنية متشعبة لا يمكن حصرها بكلمات أو سطور.. فهذا الفنان الطفرة نشأ نشأة متمردةً حياتياً وفنياً منذ الطفولة واليفاع عندما كنا طلاباً في اللجنة الفنية المدرسية في إعداديات اللاذقية حيث أظهر تفرداً بنظرته التشكيلية.. فعينه عين ثاقبة تخترق الأشكال فترى المفردات والعناصر برؤية تعبيرية تنحو نحو التجريد والاختزال.. وفي مرحلة الشباب كان أحد أهم روّاد مركز الفنون التشكيلية باللاذقية ومن هنا تبرز الخصوصية والأسلوبيّة البصريّة لهذه الموهبة الخلاّقة التي لطالما وجدناها منتفضة على ذاتها علّها تجد مسرباً من مسارب الإبداع والتشكيل إذ كان طموحاً بلا حدود لتحقيق ما يحلم به على مساحاته البيضاء فتطورت أدواته وأساليبه وتعقدت علاقاته التكوينية فسار واثقاً في منهج تشكيلي يمزج بين الواقعية والتعبيرية والتعبيرية والأسطورية فكانت معارضه الثنائية مع الفنان /سموقان/. ثم راح يتوغل في دهاليز الإبداع بجدية تتضح فيها ملامح التجريد والاختزال مقتحماً عالم التشكيل السوري..‏

وأضاف خدام: وإن كنا ننسى فلن ننسى شغفه في الميثولوجيا والفن القديم فكانت بحوثه المتواصلة التي لا حدود لها ومحاضراته في التشكيل الفراتي القديم والأوغاريتي.. ومن أهم ما يميز تجربة هذا الفنان ولعه بتشكيل المجموعات الفنية فكان عضواً مؤسساً في مجموعة /الأبابيل/ ومجموعة /نينورتا/ الفنيتين.. وتتجلى مسيرة هيشون الفنية من خلال أعمال حُفِرتْ في ذاكرة المتلقي السوري ونقطة مضيئة في عالم التشكيل فمن منا لا يتذكر /تفاحة/ هيشون/ ومن منا ينسى /حيوانات هيشون/ وأشخاصه المتمردة التي تطال عوالم السماء برؤية شفافة تعبّر عن نفس هيشون الوادعة..‏

ولا يمكن لأي متابع للحركة الإبداعية أن يغفل تجربة الفنان الشعرية والقصصية فقد ترك للأجيال المبدعة تحفاً قصصية عبر مجموعتين أو أكثر /شلالو/ و/طائرة هيشون/‏

حقاً إنّ هذا الفنان المتجلي طفرةٌ إبداعية قادرة على التجديد في الظروف بل قادرة على إقناع المتلقي بليونة وسهولة وبأسلوبيته وعبقريته التي قلما يجود الزمان بها.. رحم الله هيشون فهو باقٍ في تلافيف ذاكرتنا..‏

من أسطورة هيشون‏

ويرى الفنان محمد أسعد /سموقان/ أن هيشون بنى لوحته من خلال دراسته المستفيضة للعنصر التاريخي – الذي له علاقة مباشرة بالفن السوري القديم بشكل عام- وفنون أوغاريت بشكل خاص، وتشعرك لوحاته أنها إحدى اللوحات المكتشفة الموجودة في الكهوف، وإذا كانت فنون أوغاريت تتصف بالبساطة والاختزال، والرموز لها دلالات تشكيلية ترتبط بشكل مباشر بالأسطورة، فلوحة هيشون هي كذلك الآن، حيث الثور الذي يرسمه له صدر قوي ضخم يشبه المثلث.. أما رأسه وقوائمه فهي مختصرة توحي لك أنها قادرة على الاندفاع والطيران والانطلاقة كسهم. الحيوان هو قوي مقاتل يختزن الجبروت والعظمة والعنفوان، وهو عاشق يغني لعنات الآلهة الودودة الوسيطة ولعشتار العاشقة حيناً إن كانت في السماء والمقاتلة أحياناً على الأرض، هيشون يستفيد من العنصر التشكيلي في الفن السوري بشكل عام ويستفيد من الأسطورة في تصعيد الحب للوحته، وبناء تكويناته وحبه للبشر- الأصدقاء الذين يعاشرهم- وهو يستفيد من التشكيل الهندسي، من المثلث والمربع والخطوط بأنواعها.. وكلها لديه تتوضع بشكل عفوي لكن ضمن السياق الأسطوري للفكر والروح..‏

وتابع سموقان: لقد أقمنا سويةً عدة مهرجانات لها علاقة كبيرة بالتاريخ والأسطورة ومنها: حضارة أوغاريت وملامحها الإلهية وحضارة بلاد الرافدين وأسطورة جلجامش، كما أسسنا عدة جماعات تشكيلية ومنها جماعة الأبابيل وأوغاريت، كما أقمنا أسبوع الوثائق التاريخية المصورة في جامعة تشرين بمشاركة الباحثين جبرائيل سعادة وراؤول فيتالي وبسام جاموس.. وجميع هذه النشاطات كانت دروباًًًًًًً طموحة.. نحو بناء اللوحة التشكيلية والتي لها خصوصية اللوحة السورية ولعل الحلم الذي أسسناه سوية وهو أيام الفن التشكيلي كان له الدور الكبير في ردم الهوة بين الفنان والمشاهد، لقد كنا وراء أغلب المعارض الجادة الجماعية في اللاذقية على الأقل.. وهيشون هو كارت الذي أفاق من غفوته وحلم أن تكون اللاذقية عاصمة للتشكيل العربي.. هو فنان متمرد ومختلف يكتب القصة والشعر.. وأحلام البطل الأسطوري هيشون تتحقق الآن..‏

حكاية إنسان بسيط‏

الفنانة عدوية ديوب: هيشون لوحته تروي حكاية الإنسان البسيط القابع في تراب البيئة الساحلية السورية معتمدا نسيج العلاقات اللونية التي تتبلور وتتفاعل مشكلة عناصر بشرية ونباتية وحيوانية متنوعة دائمة الحركة في كل الاتجاهات ضمن اللوحة تفصلها خطوط ذات بنية حرة تحمل الإحساس الأولي للفنان على خامته البيضاء المسطحة لتعزف عليها مزامير الرعاة واناشيد القرويين وقوارب الصيادين.في تجربته حضرت ألوانه وعناصره متناقضة أحياناً ومنسجمة احيانا اخرى دون وجل يتّوجها اللون الابيض ضمن المساحات أو الأشكال أو العناصر.تجربة لفنان أصيل بنى شخصية فنية تحمل فلسفة خاصة عميقة ورؤية ذات طابع إبداعي جديد محلي مّيزته عن محيطه ونافس بها خريجي المدارس الأكاديمية بكل تواضع وأضافت للفن السوري.‏

عشق سورية‏

يبدأ الدكتور عماد اللاذقاني حديثه بالقول: الكلمات فقدت معناها والشعر أصبح وحيداً، والفن بالحداد يوم رحل جسدك الطاهر، رحل الجسد وبقيت روح الفنان هيشون عيسى بعجانو في وجداننا وذاكرتنا الفنية وذاكرة التاريخ. خسارة اللاذقية كبيرة في رحيل هذا الفنان الذي أحب اللاذقية وعشق سورية وتاريخها الفني وأساطيرها، تغنى بأوغاريت، وفرح فرح الأطفال بانتمائه لهذا الوطن وهذا التاريخ، من خلاله أحببنا الشعر والفن والإبداع كل ذلك من خلال إنسانيته التي تجسدت في علاقاته مع أصدقائه، كان طبعه المحبة وهاجسه هموم الناس والمجتمع. هو من رسم ابتسامة المحبة اللونية على وجوه الأطفال وهو من علم الحب باللون والخط هو صديق الدرب.. وصديق العمر سكنت روحك وهدأ بالك ستبقى ستبقى في أعماق قلوبنا التي رسمتها بحبك وإخلاصك لأنك كنت تتمم الآخر بكل الحب بعيدا عن شوارع الظلمة فحبك نور أضاء دروباً كثيرة للأصدقاء.. ستبقى ستبقى في كل القلوب التي أحبتك.. سلام عليك وعلى روحك الطاهرة..‏

وبيّن خلال حديثه أن الفنان هيشون كان يحب المزاج الجميل وإطلاق النكات ويزرع الابتسامة كما كان يقاسم رغيف الخبز بين أصدقائه- متواضعاً رغم غناه النفسي كان متفانياً في مساعدة الآخرين صاحب القلب الكبير..‏

http://www.thawraonline.sy

 

somaragha

سومرعفيف آغا

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 407 مشاهدة
نشرت فى 10 فبراير 2012 بواسطة somaragha

ابحث

سومرعفيف اغا

somaragha
سومر عفيف آغا مخرج سينمائي ، ممثل - بكالوريوس جامعة كييف للسينما والمسرح والتلفزيون - اختصاص الفيلم الروائي - ماستر في الإدارة والانتاج السينمائي »

أقسام الموقع

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

22,780