في محيط الرؤية
ـــــــــــــــــــــــــــ
عرض لرواية (سيرة العريان)
بقلم : زكريا عبد الغنى
يهدى عبد الجواد خفاجى روايته إلى أرواحنا التى فى البرد والمخمصة ، ويعلق : إنه سيكون واقعيًا جدًا ويدعونا إلى مزيد من العناء ، كما أنه يصدّرها بجزء من قصيدة لشاعر تونسى يقول فيها:
" بلدٌ كلا بلدٍ
فضاءٌ .. لا فضاء
جثةٌ .. ومشيعون
بلدٌ كلا بلدٍٍٍٍ
وأعراسٌ بقافلةٍ من الموتى ... "
مثل هذا التصدير ومثل هذا الإهداء يهيأنا نفسيًا لجو الرواية ، ويجعلانا فى حالة نبوءه شعرية لما ستقوله الرواية ، فنلج إليها وقد أعدنا ترتيب جزئياتنا الوجدانية بما يتسق مع هذه المشاعر التى بثها الكاتب فى تصديره وإهدائه. ولست أدرى هل أرسل عبد الجواد خفاجى نسخًا من روايته إلى وزراء التربية والتعليم الأسبق والحالى والآتى ، وإلى محافظ قنا وإلى أعضاء مجلس الشعب والشورى بمحافظة قنا أم لا، أرجو أن يكون قد فعل هذا ، وإن لم يكن قد فعل فربما لأنه يعلم أنهم لن يقرؤوها لضيق وقتهم وكثرة مشاغلهم وضخامة أعبائهم ومسئولياتهم .
نحن هنا أمام سارد يُدْعَى " العريان " يعمل مدرسًا حديث التعيين، وإن كان واسع الخبرة بالحياة ، له اهتمامات أدبية وسافر قبل تعيينه معلمًا إلى عدة دول عربية عاش فيها لفترات طويلة تشبع فيها بطقس عروبى أصيل ، وثقافة عربية أصيلة ، ويقدم لنا الأحداث معتمدًا على ضمير الأنا ، ويحدثنا فى جزئيات الرواية عن حذائه باستفاضة ، الحذاء في الرواية بطل مهم من أكثر أبطال الرواية أهمية، وهذه هي المفارقة الساخرة، أن يكون الحذاء على درجة من الأهمية أكثر من الإنسان نفسه وهذه الفكرة العابرة، سنكتشف بعد قراءة الرواية أنها فكرة شبه معممة على المستوى الرسمي للنظام الإداري والسايسي للدولة، فحذاء العريان مستورد من إيطاليا ، اشتراه من أحد محلات الكويت منذ خمسة عشر عامًا ، وهو آخر ما تبقى له من غربة عشر سنوات كاملة هناك ، وقد اشتراه بخمسة عشر دينارا أى ما يعادل سبعين جنيها مصريا فى ذلك الوقت ، وأنه لجودة خامته وحسن صنعته عاش طوال هذه الفترة دون أن ينفتق ، وهو يعتز برقبته المبطنة بالحرير ومن ثم فهو لا يلبسه إلا فى المشاوير المهمة ، أو عندما يكون ذاهبًا لمقابلة أشخاص مهمين، وهو لاعتزازه به يضعه فى كرتونة صغيرة بين الكتب . وقد اشتراه من محلات " ماجيك شوز " بأحد شوارع منطقة " النقرة " بالكويت ، وعندما عاد إلى مصر عز عليه أن يمرمط هذا الحذاء فى طرقات غير معبدة ، وكان يخشى على نعله من المطبات والحفر ، خاصة أن نعله إلى حد ما مرتفع ، إذ كان يبلغ ارتفاعه فى بداية استعماله حوالى 12 سم تنحّف منها مع الزمن 2.5 سم . وقد كان تراب الصعيد من الأسباب التى اضطرته إلى وضعه فى كرتونة صغيرة ، بيد أنه كان يُخْرِِجه من فترة لأخرى ليعاود النظر إليه ، وكان أكثر ما يعجبه فيه تلك القطع المعدنية الموزعة بعناية فائقة ودقة بالغة عالية ، كانت ثمة بعض حروف من المعدن اللامع المثبت على الجانبين ، بيد أن الزمن لم يُبْقِ عليها ، ولم يكن السارد يظن أن نهاية حذائه ستكون سيئة إلى هذا الحد ، وقد كانت مناسبة تعيينه مدرسًا فى مصر مناسبة عظيمة لاعادة هذا الحذاء لحياته الطبيعية، ومن ثم استخرجْه من كرتونته ولبسه مشفقًا عليه فى الوقت ذاته ، ولم يكن يعلم أن مصيره سيكون مؤسفًا ومطينًا إلى هذا الحد .
مثل هذا الوصف الدقيق للحذاء والاعتزاز به والإعلاء من شأنه يتباين أشد التباين مع وضعية السارد نفسه عندما يُسْجَن ويسمع أحد المسجونين يخاطبه فى الزنزانة بقوله : " ادخل يا عريان مكانك اللائق وكفاية كلام مثقفين و... إن ولعل وقد ولسوف وحبذا .. ادخل .. ادخل يا مثقف .. ادخل يا حذاء " وأطلق ضحكة عالية ساخرة فى الهواء .
والقارئ لا يستطيع أن يمضى فى قراءة الرواية منذ العنوان دون اسقاطاتها وإيحاءاتها ودلالاتها ورموزها فنحن هنا مع أول هذه الاسقاطات التى تحيلنا إلى صورة المثقف فى زماننا وهو فى وضعية تشبه وضعية الحذاء .
السارد فى روايته معلم بمدرسة إعدادية فى " أبو تشت " أو فى إحدى قراها – لا فرق – وهو مثقف وأديب .. ومن هذا المنطلق فأنت عندما تقرأ الرواية تلحظ اشتباك السارد " العريان " مع المؤلف " عبد الجواد خفاجى " فكلاهما مدرس وكلاهما من أبو تشت، ولا يخالجك الشك فى أن الرواية واقعية جدًا تكاد تقترب من التسجيلية أو السيرة الذاتية لولا سماتها الفنية الظاهرة وأحداثها التركيبية خاصة وأن السارد أرادها بضمير المتكلم .
ثمة نظرتان أو خطان مجددولان يمتدان من أول الرواية إلى أخرها ، ويصنعان نسيجها الفنى والاجتماعى ، هما نظرة السارد إلى نفسه ومعرفته بحقيقة قدره، ونظرة المجتمع إليه كمدرس متواضع فى مدرسة صغيرة فى جوف الصعيد .
ومن هذين الخطين المجدولين فنيًا واجتماعيًا تمضى بنا الرواية فى بنائها وصراعها وأحداثها ونسيجها الفنى . نظرة السارد إلى نفسه واعتزازه بكرامته ومعرفته بحقيقة قدره تتجسد فى كثير من المواقف فى الرواية كما تجسدت فى وصفه لحذائه واعتزازه به ، أما نظرة المجتمع فقد تجسدت فى كثير من المواقف والحالات كما تجسدت فى حديث السجين إليه ووصفه إياه بالحذاء .
عُيِّن السارد مدرسًا فى إحدى مدارس إدارة " أبو تشت " التعليمية ، وها هو يصف لنا كيف ذهب إلى تلك المدرسة : " كان كل شىء يبدو مهدمًا فيما بدا الصباح ضبابيًا ، وكانت المدرسة محاطة بالبيوت الطينية والبوص وقش القصب ، وثمة بعض الجواميس كانت رابضة فوق روثها ، ولم يكن غير طريق ضيق يخترق البيوت يمر أمام باب المدرسة الوحيد .. ظننتها فى البداية واحدة من هذه البيوت لولا أنها كانت مطلية بالجير .. ومن ثم نظرت إلى أعلى البوابة الحديدية .. كانت لافتة سوداء باهتة ، وكانت ثمة كتابة عليها ، لولا أن بعض الحروف تآكلت ، ولم تلحظ عيناى فى وسط اللوحة غير حرف " م .. " مكتوب بخط عريض ، هنالك خمنت أن تكون تلك الكلمة " مدرسة " .. ولم يكن يقينى قد ثَبُتَ تمامًا ، وكانت عيناى قد التقطتا فى أعلى اللوحة كلمات متقطعة أخرى وكانت هكذا : " وز. ر...تر ... و ...عليم " هنالك ثبت يقينى أننى أمام مدرسة ، وأن هذه الحروف المتناثرة تعنى إلى حدٍّ أكيد : " وزارة التربية والتعليم " . وكنت قد لاحظت أيضًا ثلاثة شبابيك حديدية كبيرة ، وثلاث دراجات خلف الباب ، وممرًا ضيقًا يمر به رجل رث الثياب ، وكنت قد تخيلت وزير التعليم على شاشة التلفاز ، وكان يتحدث عن تكنولجيا التعليم ، وعن المدارس النموذجية ، وكانت ثمة بعض البراغيث قد أخذت مرعاها فوق قفاى ، وكان ثمة تلميذ يحمل حقيبة خلف كتفيه خارجًا من باب على يمين الممر ، هنالك ثبت يقينى تمامًا ، ودخلت .. لم أسأل أحدًا ودلفت داخل أول حجرة على اليمين ، لست أدرى لماذا تخيلتنى للحظه وكأننى قد دخلت حرم ساقية مهجورة، وكان الجالس خلف مكتبه كجزع نخلة مقطوعة .. ملتحمًا بكرسيه ، ولم يكن رأسه يبرز كثيرًا أعلى كتفيه ، وكانت ثيابه بنية بلون المكتب الصغير أمامه ، ولم يكن يفعل شيئًا ، غير أنه كان ينظر إلىّ دون اكتراث ودون أن يرمش له جفن ، ظل ناظرًا إلىَّ فيما كنت قد رحت أظن أنه معتوه ، وكان علىَّ أن أكلمه .. قلت : " أنا العريان .. مدرس اللغة العربية الجديد " وكان أنْ قدم لى نفسه : " عبدالفتاح قدُّوم .. وكيل المدرسة ، والقائم بالنظارة " ، وكنت قد سألته عن الناظر فقال : " إنه فى خط سير " ثم ينتقل السارد لوصف المدرسة من الداخل فيقول : " كان فناء المدرسة ضيقًا جدًا ومحاطًا بسور مرتفع ، وكانت المسافة بين السور والحجرات الدراسية تكفى لمرور عربة الكارو التى تقع فى نهاية السور ، وكان أحد العمال يمسك بطرف خرطوم مياه واقفًا بجوار عربة الكارو ومنهمكًا فى رى بعض النباتات الصغيرة تحت السور وكان أن لاحظ الوكيل أننى أمعن النظر إلى هذا العامل ، فقال : " ما أكثر العمال فى هذه المدرسة ، ومع ذلك هم لا يفعلون شيئًا " وسألنى " هل تتصور أن هذا العامل لا يفعل شيئًا طوال اليوم غير رى هذه النبتة التى تحت رجليه ؟ " وسمعته يقهقه ويضيف : " يسقى الشتلات طوال اليوم ثم يدهسها بعربته الكارو آخر النهار " ففهمت أن العربة الكارو هذه تخص هذا الرجل ، وسألت الوكيل : " لماذ لا يركن عربته خارج سور المدرسة ؟ " فقال : " المدرسة آمن " وكان الممر قد انتهى وانعطفنا شمالاً ، وكانت ثمة ساحة أوسع قليلاً فى الجهة الشرقية تصلح للتشمس فى الشتاء ، وكان أحد المدرسين يلعب مع خمسة من التلاميذ الكرة وكانت الكرة تطير إلى خارج السور فيقفز أحدهم ليعيدها مرة أخرى ، لكنما لسوء الحظ هذه المرة طارت إلى الأسلاك الكهربائية المتهدلة من الأعمدة خارج السور وتطاير منها الشرر ، وصمت الوكيل كأنما يتحدث إلى نفسه قائلا: " الله يخرب بيتك يا كرم .. النور انقطع " .
ويتحدث السارد عن وكيل المدرسة فيقول : " عرفت أن الوكيل فى الأساس مدرس ابتدائى منتدب إلى هذه المدرسة لتدريس مادة الدراسات الاجتماعية ، وأنه ليس وكيلاً بالمعنى الرسمى ، لكنه هو كذلك يُنَصِّب نفسه وكيلاً ، وأنه لا يدخل الفصول الدراسية ولكنه يتصرف كا ينبغى يوم الامتحان ، ويقدم الإجابة جاهزة للتلاميذ فوق السبورة ، ومن ثم ينجح الجميع فى الدراسات الاجتماعية بينما يرسبون فى المواد الأخرى " .. سأل السارد وكيل المدرسة عن المكتبة فقال : " عدد حجرات المدرسة محدودة وقد تعذر وجود مكتبة " وقال الوكيل مبتسمًا عندما سأله الساردعن الأدوات الرياضية : " كان عندنا قبة للبيسبول، وصالة للجمباز ، ولكن ... " يقول السارد : " استدار برأسه نحوى وكف عن الابتسام ،وحدق فى وجهى ثم قال " الأستاذ يعيش فى أمريكا؟! " وأضاف بعد فترة صمت : " كلامك يبعد عن الواقع .. أما ترى المدرسة بلا فناء ؟ " فقلت "صدقت " وحيَّانى بسيجارة ، وكنا قد وصلنا إلى الممر الأمامى حين قال :هذه هى المدرسة " وراح يقص عليَّ قصصًا كثيرة عن بداية هذه المدرسة، وكيف أنها بُنِيَتْ طوبة طوبة بالجهود الذاتية ، وكيف أنه هو وحده تَحَمَّل عناء جمع التبرعات ، غير أنه تَحَمَّل النصيب الأكبر من التكاليف ، وأن معظم الأهالى كانوا سلبين ، ولم يبدوا تعاونًا كافيًا وكأن أمر افتتاح مدرسة فى البلد لا يعنيهم، وأضاف : نسيت أقول لك أن الأرض هذه التى تقوم عليها المدرسة ملكى ، وقد تبرعت بها للمدرسة " وأضاف : " إننى كغيرى يجب علينا جميعًا أن نطيعه لأنه صاحب فضل علينا ، وإننا جميعًا نأكل عيشًا مما صنعه هو بيده ، وأن مجهوداته يجب ألا تنكر ، وقال كلامًا كثيرًا بعد ذلك يصعب أن أتصور أننى كنت قد ركزت على سماعه ، فقد كان كلامًا مختلطًا ومتواصلاً ، وكانت تتقاذف من بين شفتيه رغوة ، وكان خيط من اللعاب ينساب من جانب فمه ، ومع ذلك أتذكر أن الجملة الأخيرة كانت " أنا المدرسة والمدرسة أنا " .
ويستطرد السارد فيكلمنا عن غرفة سكرتير المدرسة فيقول : " كانت غرفة السكرتير ضيقة وبلا مراوح ، وكانت تحوى مكتبين ، وخمسة كراسى ، وكثيرًا من الأشخاص الجالسين على الكراسى وفوق المكتبين وعلى أرضية الغرفة ، ولم يكن بالإمكان أن أميز السكرتير من بينهم فقد كانوا جميعًا بعمم وجلابيب ، لذلك بقيت واقفًا فى منتصف الغرفة ، ولم أشأ أن تخبط قدمى فى أحد لذلك لم أتحرك وكان علىَّ أن أظل واقفًا " .
ويحدثنا السارد عن مدرس مادة التربية الزراعية فى المدرسة فيقول إنه سأله عن المشكلات التى تواجهه فى هذه المدرسة فقال إن مشكلته الوحيدة أنه بلا عمل ، وأن المدرسة حولته إلى طاقة عاطلة ، وأن المدرسة لا يوجد بها حجرة مخصصة للتربية الزراعية ، لذلك هو يقضى النهار هكذا فى الظل ، وفى شرب الشاى والشيشة وأحيانا هو لا يحضر ، وفى كثير من الأيام يمضى خارجًا بعد أن يوقع فى دفتر الحضور وقال إن ناظر المدرسة ابن كلب ، وإنه يترك المدرسة لقريبة هذا الذى نَصَّبَ نفسه وكيلاً للمدرسة ، ويمارس سلطات الناظر وهو فى الأساس مدرس ابتدائى منتدب للمدرسة لتدريس مادة الدراسات الاجتماعية .. وإن الناظر مشغول طوال العام بزراعاته من القصب، وانه راجل مستريح ومن كبار المزارعين ، وإنه ـ لا مؤاخذة ـ ليس عنده ضمير ، ولا يحضر فى العام كله سوى أيام معدودات ،وأن الحجة التى تقال دائمًا لمن يسأل عنه " الناظر فى خط سير ".
ويستطرد السارد كاشفًا لنا فى مواضع تالية عن شحصية هذا المدرس بشكل أكثر تفصيلاً ، فهو شاذ جنسيًّا وسكير ، غير أنه فى الأساس مقاول خرصانة وليس لديه اهتمام بالعلم ، ولا يضع المدرسة ولا التدريس فى دائرة اهتماماته.
وعن ذكريات اليوم الأول بالمدرسة يستطرد السارد فيقول : " تجولنا فى المدرسة لبعض الوقت ثم صعدت إلى الطابق الثانى . وكانت الفصول فى معظمها خالية من المدرسين ، وكنت أرى التلاميذ من خلف زجاج المنازل كأصائص مزروعة ، وكانت أصواتهم عالية وكانت ثمة رغبة لدى للدخول وكانت ثمة حجرة تخفت الأصوات فيها ، ووجدتنى أدخلها بخفة وكان كل تلميذ فى موضعه ، وثمة مدرس فاجأنى بالوقوف كان جالسًا بين التلاميذ فى آخر مقعد " .
أسند وكيل المدرسة إلى السارد أنشطة الصحافة والإذاعة والمسرح باعتباره مدرسًا للغة العربية ونصحه بألا يشجع التلاميذ على إنجاز لوحات حائط لأنه يود أن يحتفظ بجدران المدرسة نظيفة وأن المسامير التى تثبت بها اللوحات تترك آثارًا غائرة فى الحوائط .. وأنه ـ لمؤاخذه – يجمع الفلوس بشق الأنفس من أولاد الكلب .. بالكاد كل عيّل جنية واحد فيما عدا الأيتام ، وإنه بالكاد يجمع ما يكفى لدهن الحوائط بالجير فى الإجازة الصيفية .
سأله السارد ماذا يمكنه أن يفعل كمشرف للنشاط المسرحى والإذاعى والصحافى فقال : " لا شىء " وكان السارد قد لاحظ أن المدرسة تخلو من مكان مخصص للمسرح أو للمعروضات الصحفية ، غير أن الحوائط خالية من أية لوحات .
وأضاف وكيل الدرسة بعد أن سحَب نَفَسًا من سيجارته وأطلق دخانه فى فضاء الحجرة : " لا يوجد شىء حقيقى اسمه نشاط .. كله على الورق " قال وكيل المدرسة للسارد إن ملف خدمته متضخم بالعقوبات وإن آخر عقوبة حصل عليها هى خصم أجر شهرين من راتبه ، لأنه ضرب بنت الكلب " روحية " التى بالصف الثالث الآن ، وكان قد قفشها تُقَفِِّش فى صدر زميلتها أمام دورة المياه ، وكان لابد أن يعاقبها بثلاث ضربات بالجلدة ، لكن بنت الكلب كتبت شكويين ، أرسلت واحدة للإدارة والأخرى للوزير ، وانهالت التحقيقات والفضائح وسيرته كانت على كل لسان ، وإنه لولا هذه العقوبة لما تأخرت الترقية ، ولكان ناظرًا لهذه المدرسة ، وقد نصح السارد ألا يضرب أى تلميذ او تلميذة حتى لو رآهم راكبين على بعضهم ، وقال .. هكذا يريد الوزير .. وأراد السارد أن يصحح له بعض المفاهيم فقال له أن هناك مستشارين فى التربية وأن الوزير لا يقرر شيئًا دون استشارتهم فقال : " صلى على النبى " ثم أردف " كله فى البالوظة "
ويصف السارد أحوال التلاميذ فيقول : " كنا قد وصلنا إلى مشارف قرية " أبو شلوف " وكان سرب من حمير قادمًا باتحاهنا يسير بمحاذاة الإسفلت ، فيما لاحظت رؤوس الصبية والبنات تتأرجح فوق ظهور الحمير . وفيما لاحظت أن وجوههم قذرة وملابسهم رثة ومهلهلة قال كرم : مدرس اللغة الإنجليزية بالمدرسة – إنهم تلاميذ مدرستنا ؛ فأشرت إليهم وبادلنى بعضهم الإشارة ، وأعربتْ واحدة من البنات الراكبات عن أنها ستأتى إلى المدرسة بعد عودتها من الغيط ، وأنها لابد أن تذهب لإحضار طعام الجاموسة .. فيما قال كرم : إنها كاذبة ، وإنها تبيع ما تحضره من زعازيع القصب ، وانها تبيع بعشرة جنيهات فى اليوم ، وهى غالبًا ما تتغيب عن المدرسة وإذا حضرت فإنها تأتى بعد الحصة الثالثة .. وبينما كنت مشفقًا على هؤلاء الصبية الذين لا يعيشون صباهم بعيدًا عن الشقاء ، وفيما كنت أتخيل وزير التعليم جالسًا فى مكتبه يرشف قهوة الصباح ، وقد أتاه أحد مستشاريه بتقرير عن أحوال التعليم فى مصر .. كانت صورته تتشكل فى مخيلتى مبتسمة ، وكان أحد الصحفيين جالسًا أمامه يسجل تصريحاته عن الخطة القادمة .. سمعت كرمًا يقول : " أولاد الكلب " وقال إنهم لم يُنَفِّعوه حتى الآن ، ولم يطلب واحد درسًا خصوصيًّا .. وقال إن بينهم وبين التعليم مائة سنه ضوئية " .
يصف لنا السارد كيف كانت أول حصة له فى تلك المدرسة فيقول : " فوجئت أن أحدًا لم يقف لتحيتى ، وكان التلاميذ منصرفين إلى لهو آخر ، وكانت التلميذات تثرثرن كما لو كن فى عرس ، وثمة خمس منهن قسَّمن المساحة المكشوفة خلف المقاعد إلى مربعات ، وثمة واحدة منهن كانت تتوسط الباقيات وتحجل فوق المربعات ، بينما كان بعض التلاميذ من الصف الأول قد انتقلوا إلى الصف الثانى وكانوا منهكين فى لعبة قديمة تتم باستخدام عملة معدنية ، وكانت أصواتهم مختلطة وعالية ، وكان ثمة بعض التلاميذ فى الصف الأول يركبون فوق صدور بعضهم .. وقفتُ فى منتصف الفصل ، ورفعت صوتى : " سكوت" ..كررتها حوالى خمس أو ست مرات ، ثم تابعتها بفعل الأمر" قيام" وقف التلاميذ فى أماكنهم ماعدا تلميذة واحدة ، كانت فى مقدمة الصف الثالث أسفل الشباك تمامًا .. كانت بيضاء ناهدة ، وكان جسدها – فيما بدت – أكبر من سنها، وقد لاحظت أن ثيابها مميزة ونظيفة ، وكانت ثمة قطع ذهبية فى أصابعها وشحمتى أذنيها .. ألقيت عليهم التحية ولم أسمع أن أحد قد ردها . كررت التحية بصيغة أخرى فقلت " السلام عليكم " وأتذكر أن اثنين فقط قالوا " وعليكم السلام" سألت التلميذة التى لم تقف عن اسمها فأجابت وهى جالسة : " اسمى المحروسة " .. سألتها عن السبب الذى جدا بها لعدم الوقوف فأجابت ببرود : "ولماذا أقف ؟ " ولاحظت أن شفتيها تتحركان كثيرًا فسألتها إن كانت تلوك شيئا فقالت : " لبانة " .. زعقت فيها بلهجة حادة " قيام " فوقفت " سألتها : ألم يكن الأجدر أن تقفى للمعلم " ؟! فقالت : " فلقتونا " ، وجلست .. كنت مندهشًا وطالبتها أن تكرر ما قالته ، فقالت : فى الطابور ترصونا كالأحجار ثم تطالبوننا بتحية العَلَم ، وفى الفصل فى كل حصة قيام وجلوس وأداء التحية هل جئنا لنتعلم أم للتحيات ؟ فقلت : " التحيات واجبة فقالت فى الصلاة فقط " فسألتها إن كانت تصلى ، قالت : لا وكان لابد أن أذكِّرُها بالحديث الشريف "علموهم الصلاة فى السابعة واضربوهم عليها فى العاشرة " فقالت : " الضرب ممنوع ، والوزير منع الضرب " تركتها ونزلت إلى القائم بالنظارة سألته إن كان فى المدرسة إخصائى اجتماعى فرأيته ينظر إلىَّ باستغراب وسألنى إن كنت أعيش فى أمريكا، فأجبتُ : لا ؛ فدعا لى بالهداية وظل مثبتًا نظره إلى وجهى فترة تنهد بعدها وقال " كله فى البالوظة " وكان لابد أن أنقل له ما حدث عن المحروسة فقال " كسر دماغها " قلت الوزير منع الضرب ، وقد سبق أن نبهت علىَّ سيادتكم بعدم ضرب التلاميذ حتى لو رأيتهم راكبين على بعض ، إلا أن وكيل المدرسة أكد ما قال وكان على السارد أن يبحث عن عصا ، وكان أن عاد إلى الفصل وعاقب التلميذة بضربها على يدها ثلاث ضربات لأنها تستهين بالمعلم . يقول السارد : لم ألحظ بعد ذلك غير المحروسة تصرخ صراخًا منفرًا وعاليًا وتنطلق من أمامى خارجة من الفصل متابعة صراخها وهى تنزل السلم ، وكان أن انطلقت التلميذة حتى خرجت من باب المدرسة .
ويقدم لنا السارد نموذجًا لأحد مدرسى المدرسة وهو كرم ، مدرس اللغة الإنجليزية وكرم هذا هو الذى كان يلعب الكرة مع التلاميذ فاصطدمت بالأسلاك الكهربائية فانقطع التيار على الفور وكان أن مزق وكيل المدرسة الكرة بالسكين يقول السارد: " انصرف التلاميذ الخمسة هلعًا ، فيما جلس كرم تحت السور وراح يبكى كطفل صغير ، فأشار إليه الوكيل بيده وقال لى : " هذا هو مدرس الإنجليزية "
وكنا قد وصلنا إلى نهاية الجهة الشرقية ، وكان لابد أن نستدير مرة أخرى وعيناى كانتا لاتزالان مثبتتين على مدرس اللغة الإنجليزية وكنت أصغى لشهقاته المتواصلة وكنت قد سمعته يردد " والله لأكتب شكوى للوزير ، ولازم آخذ بثأر الكرة " . ويستطرد السارد بعد صفحات :خرجت من باب المدرسة إلى الطريق ، وكنت قد صادفت وأنا أدلف إلى الطريق الأستاذ كرم واقفًا أمام الباب وكان واضحًا فى عينيه آثار الدموع وكان يردد : " ياأنا يا هو " وكان الوكيل يقف خلف الباب منتظرًا زوجته ، فرد عليه " روح العب فى البِلْى"
يقول السارد وهو يقدم لنا شخصية كرم سألته عن مؤهله فقال :إنه خريج آداب قسم إنجليزى ، فشجعنى ذلك أن أسأله عن قراءاته فقال : إنه أحيانًا يقرأ مجلة " الشبكة " ولعل ذلك لم يمنعنى عن سؤاله عما قرأ لشكسبير أو ديكنز أو ت . س . اليوت فقال أن هذه الأسماء لا تعنيه وسألنى عن حاجته لقراءة هؤلاء فقلت " المعرفة " وقال " كل معرفة وأنت طيب " وفيما بدا أنه أراد تغيير لون الحديث، عندما سألنى بعد ذلك " هل جربت الحرام " فسألته إن كان يقصد الحريم ، قال: نعم .
ويستطرد السارد فى رسم شخصية " كرم " : " فى لحظة ما نظرت فيها إليه، لا حظت لأول مرة أنه يبدو كما لو كان أرنبًا بريًّا أسود .. وأنه قزم صغير لا تكاد يداه تصل إلى أعلى دراجته ، فيما لاحظت أن أنفه أفطس وأن أذنيه منهدلان كما لو كانتا لجحش صغير " .
تركته يسبقنى وأنا أتابع النظر إليه من الخلف .. كان يرتدى بنطلونًا من الجينز تتوزع عليه بعناية قطع من الحديد وبعض المسدسات الصغيرة ، وكان مشبوكًا فيه من الخلف سلسلة تتدلى منها مفاتيح كثيرة فوق مؤخرته ، فيما بدت مؤخرته كما لو كانت مؤخرة جدى صغير .." .
ويعود السارد بعد صفحات لاستكمال رسم شخصية كرم فيقول وفيما كان كرم يسبقنى بخطوة واحدة كنت منهمكًا فى تأمل المفاتيح والسلاسل الكثيرة المتعلقة بحزام بنطاله . لم أكن أدرى لماذا هو هكذا .. يبدو كجهاز روبوت صغير ، غير أننى لاحظت عظمتين متقاطعتين رقدت فوقهما جمجمة فوق قميصة من الخلف. وفيما كنت قد اقتربت منه كانت الدراجة بينى وبينه ، فيما كانت رائحة نتنة تصل إلى أنفى ، تحملها نسمة الصباح القادمة من الشمال مارة من تحت إبطه اليمنى .. وفيما كان مصرًا على أن يَقُصَّ ما حدث بينه وبين صديقته ليلة أمس كانت أصوات ممطوطة كأنها الضراط تصل إلى أذنى .
هكذا يقدم لنا السارد شخصية مدرس من مدرسى المدرسة وللقارئ أن يستنتج أن باقى المدرسين لا يزيدون عن هذا كثيرًا ، وكرم هذا مولع بالخيالات الجنسية كما قدمه لنا السارد فصديقته التى ذكرها ليست إلا من نسج الخيال ، وله فى هذا المجال خيالات وأحلام أخرى ، والحديث المفضل لديه هو الحديث عن الجنس والكرة ، وقد وصف السارد بالتخلف لأنه لا يهتم بالكرة وصرح له أنه سينتحر إذ لم يأخذ الأهلى الدورى هذا العام وقد طلب من السارد أن يمده ببعض أعداد مجلة الشبكة القديمة ، فهو يحب صور النساء العارية ومشاهدة الأفلام الجنسية وهو يرغب فى ممارسة الجنس مع مدرسة الاقتصاد المنزلى ، وقد بلغ به الخيال ذروته فصرح للسارد أن آخر امرأة التقى بها اشتكت من طول قضيبه وغادرت الشقة وهى تتألم " .. هكذا تكون الأحلام وهكذا تكون القوة المبتغاة . ومن الطبيعى أن يحلم هذا المدرس وأمثاله بممارسة الدروس الخصوصية فهو سيكتب طلبًا للنقل إلى القاهرة لأن الحصة هناك بمائة جنية على حد قوله ، ثم يمضى السارد مقدِّمًا صورة الحياة التى يعيشها كرم مدرس اللغة الإنجليزية من خلال بيته وأسرته: "عندما نزلت من السيارة مقابل قرية " الحصاوية قبلى" كانت الشمس قد اقتربت من المغيب ، وكانت الجمال والحمير تسير على الجسر الذى يربط ضفتى الترعة التى تفصل الطريق عن القرية .. وكان ثمة بعض الصبية يحومون حول الجسر ، وبعض بائعى البلح والفجل فى طريق عودتهم إلى القرية ، دخلت بين الجموع وسط هالات الغبا ر الذى يستأثر بالبراح ، وكان لابد أن أسأل عن الأستاذ كرم مدرس اللغة الإنجليزية .. أتذكر أن الأفراد الثلاثة الذين سألتهم عن كرم على التوالى أعربوا عن عدم معرفتهم شخصًا بهذا الإسم فى القرية ، غير أن واحدًا من بائعى البلح توقف بجحشه وأشار إلىَّ .. قال إنه سمعنى أسأل عن كرم فقلت : نعم إنه زميل لى فى العمل . فقال إن كرم هو ابنى وإنه معروف فى القرية باسم " جرو " ودعانى للركوب خلفه على الجحش فاعتذرت لكنه أقسم بالله العظيم ، فركبت ، وكان الذى تحتنا خُرْجًا محشوًا بالبلح والحبوب ، وكان البيت الذى توقف الجحش أمامه صغيرًا ، ومبنيًا بالطوب والجريد ، وكان أن نهق الجحش ففتح الباب الصغير ، وخرجت منه امرأة تقترب من الكهولة ، وكانت كما بدت سوداء البشرة ، ترتدى السواد ، أنزلتِ الخُرْج ، ودخل الجحش قبلها ، وانهمكتْ فى جرجرة الخُرْج إلى الداخل ، بينما كان كرم يطل برأسه من باب غرفة داخلية" ويواصل السارد : فيما يبدو أن كرمًا ارتبك لحظة أن لمحنى .. رأيته يُدْخِل رأسه سريعًا ثم يُخْرِجُها مرة أخرى .. هكذا فعل ثلاث أو أربع مرات ، وأخيرًا خرج وقبَّلنى برفق ، وأعرب عن سعادته برؤيتى، وسحبنى إلى الداخل .. كانت الغرفة بلا نوافذ ، ومتربة وكانت أرضيتها مكسوة بحصر الحلفا وكانت ثمة دكك ثلاث تستلقى تحت الحوائط " .
ويستطرد السارد " وكان أبوه قد أتم ربط جحشه بالداخل وغسل وجهه وعاد ليجلس فوق إحدى الدكك الثلاث ، وفك عمامته وراح يعيد لفها فيما بدا رأسه أصلع ، وأحمر كبلحة كبيرة ، وكان قد أشار إلى كرم أن يخلع جلبابه .. ورأيت كرمًا يخلع جلبابه الأزرق الداكن بينما كان يخرج والده زجاجة صغيرة من جيب صديريته وقال إن العطار قد باعه إياها بسبعين قرشًا ، وقال إنها زيت قرنفل ، واتجه صوب كوة فى الحائط ، وأشعل مصباح كيروسين وفيما بدت الكوة كالحة وسوداء وكان المصباح يقذف هبابه فى أجواء الغرفة ، وأشار إلى كرم أن يستلقى على بطنه ، وراح يدلك ظهره وعنقه ويدهنهما بالزيت ، كان وجه الأب يبدو بلون الكوة فيما لاحظتُ أن ذراعيه دقيقتان ومعروقتان وكانت أصابعه تشبه إلى حد كبير مخالب قط عجوز ، وكان جسد كرم فيما بدا أسود . وكنت قد لاحظت أن عظامه بارزة وعضلاته ضامرة ، وكان مُكَوَّرًا فوق الدكة حتى لأنى خلته حلوفًا صغيرًا يرقد فوقها . وكانت عمامة الأب قد سقطت بجوار رِجْل الدكة ، وبدت صلعته للمرة الثانية عسلية اللون ، ذات ندوب غائرة فيما ظننت أنه مصاب بالقراع العسلى . وكان قد أنهى دهن جسد كرم عندما مسح يديه بطرف جلبابه وجلس ليخرج من جيب صديريته علبة صفيح صغيرة فتحها وانهمك فى لف التبغ " .
هذه هى صورة المعلم والتعليم والمدرسة فى تلك المناطق النائية القابعة فى جوف الصعيد ، وهى صورة ليست من خيال السارد فى شىء ، كل ما فعله السارد أنه أجاد التصوير بدقة وأمانة ، مستنقع من الفقر والفاقة والتخلف ، والغريب أن هذا هو واقع الحال ونحن فى بداية القرن الحادى والعشرين ، والغريب أن المسؤلين عن التعليم فى بلادنا يجلسون فى مكاتبهم الفاخرة المكيفة ويتحدثون عن تطوير التعليم " وتكنولجيا التعليم " ومحاربة الدروس الخصوصية وبينهم وبين هذا الواقع الأليم مئات الكيلومترات ، فهل قام أحدهم بزيارة لمثل هذه المدرسة ، وهل أهدى لهم عبدالجواد خفاجى روايته التى تنضح شخصياتها وبيئاتها بالتخلف والبؤس ؟
كان من الطبيعى أن تقود هذه البيئة إلى الفاجعة التى هى ذروة الرواية فقد خرج السارد مع كرم إلى الحقول وجلس هناك بعض الوقت يتبادلان الحديث ، يقول السارد عن كرم : " قال إنه يحلم باليوم الذى يتمكن فيه من الهجرة إلى أمريكا وسب أمة العرب ، وكان ينظر بين الحين والحين فى ساعته حتى لأنه فى لحظة ما بدا لى متوترًا ، وقلقًا ، ونهض واقفًا وقال : إنه سيدخل القصب لقضاء حاجته، وسيعود بعد قليل ونصحنى بعدم مغادرة المكان " .
ويواصل السارد : " وفيا كمان الوقت يمر سريعًا ظننت أن كرم قد أكلته السلعوة وقد تأخر كثيرًا فنهضت من جلستى وخطوت باتجاه المكان الذى اخترق منه كرم الزراعات .. وقفت للحظة قبل الدخول وقد تنامى إلى سمعى صوت كرم وهو يقول " اخلعى اللباس " وكان ثمة صوت نسائى يرد عليه : " كل شىء إلا اللباس " ، وكان لا بد أن اخترق القصب .. فَسَّحت لجسدى مسربًا وسط العيدان ودخلت .. وفيما بدا المكان موحشًا ومظلمًا كان ثمة غبار ناعم تسلل إلى أنفى وصدرى .. ظللت أسير متمهلاً حتى وجدتنى وقفًا فوق رأسيهما.
كانت صبية يافعة فى زى بنات المدارس وكانت حقيبتها تحت رأسها فيما بدت بعض ملابسها مكومة بجانبها ، وكانت فيما رأيت بَضَّة وناهدة وبيضاء ، وكان كرم يغوص برأسه بين نهديها ، فيا كانت إحدى ذراعيه تحت رأسها فوق الحقيبة تمامًا فيما كانت ذراعه الأخرى تمارس حركتها فوق جسدها ، فيما كانت يده تبلطج هنا وهناك " .
هذا الموقف يأتى وسط الرواية كفاصل بين مرحلتين ؛ لأن كرمًا هذا سيودع الحياة مقتولاً ؛ ففيما هو واضح أن أحد الأهالى قتله انتقامًا منه بسبب علاقاته الجنسية مع بناتهم ، أما السارد فأنه سيتوه فى غيطان القصب وسيفقد فردة من حذائه فى الطين وسط القصب ، بالقرب من المكان الذى وُجِدت فيه جثة كرم فيما بعد ، ومن ثم ستكون حجة قانونية دامغة على العلاقة بين العريان وقتل كرم ، وتبدأ مرحلة جديدة من مراحل حياة العريان الذى كان عليه أن يواجه السلطة والقانون متهمًا بقتل كرم وقطع أعضاءه التناسلية ، وتتجلى قمة العبثية والسخرية الممزوجة بالأسى عندما ينقل لنا السارد السؤال الأول الذى وجهه إليه رجال البوليس : " ما العلاقة بينك وبين أعضاء كرم التناسلية؟"
************
لا شك أن الرواية تنعطف بنا نحو استعراض مجمل القضايا الإنسانية التى يعانى المواطن من فقدانها، وأولها قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية المفتقدة والعدالة الضائعة ، ويميل بشىء من الحبكة الفنية إلى إقامة الجمهورية الديمقراطية التى يحلم بها فى السجن ، يكون المسجونين هم مواطنيها، فى هذا الجزء من الرواية يأخذ الحذاء وضعيات رمزية متعددة ، فهو رمز للمواطن فى بعض المواضع ، وفى موضع آخر هو رمز لأداة الحاكم التى يؤدب بها المواطنين ، وهكذا تتصاعد رمزية الحذاء فى الروايم من المثقف إلى المعلم إلى المواطن إلى أداة الحاكم .... الخ .
إنها ولاشك رواية غنية بالرموز والدلالات الاجتماعية والفلسفية والسياسية ، تشف عن وعى كاتبها بمجمل القضايا التى تهم حياتنا المعاصرة .
استطيع أن أقول فى النهاية : إن الرواية الجيدة هى تلك التى تكون شاهدة على الحياة فى مكان ما فى زمن ما ، ورواية " الحذاء " شاهدة على التعليم والمعلم فى هذا الزمان الأغبر ، كما أنها شاهدة على مجمل حياتنا .
هذه هى رواية عبد الجواد خفاجى ، وهذاهو حذاءه الذى يرميه فى وجوهنا جميعًا. أما القارئ الذى يريد أن يعرف مصير العريان / المعلم فعليه بقراءة الرواية فمصيره يجسد حدة الصراع بين نظرةالسارد لنفسه ونظرة المجتمع إليه .
زكريا عبدالغني
كاتب روائي ـ اسيوط
حائز على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب
ساحة النقاش