عرض الرمادي وجرأة المستقلين!!
د.سيد علي إسماعيل
كلية الآداب – جامعة حلوان
ـــــــــــــــــــــــ
الإحباط الذي يحيط بنا، بسبب ما يحدث داخلياً وخارجياً، جعلني أبتعد – قدر الإمكان في الآونة الأخيرة - عن مشاهدة أي عمل مسرحي خشية أن أجده بعيداً عن الواقع، أو أجده مضحكاً بصورة مبتذلة، بحجة الهروب مما نحن فيه!! ولكن هذا الشعور، اختلف تماماً عندما ذهبت لمشاهدة عرض (الرمادي) في مركز الهناجر، من إخراج الأستاذة عبير علي؛ لأن العرض هو معالجة لرواية 1984 لجورج أورويل. واستخدام هذه الرواية في أي عمل فني، يعني أن العمل الفني، سيكون تعبيراً عن الخداع الحكومي، والمراقبة السرية، وتلاعب الدولة الشمولية السلطوية بالتاريخ الموثق!! فهل هذا ما حدث في عرض الرمادي؟!!
بدأ العرض بلعبة إخراجية استفزازية من أجل إيهامك بأن ما ستشاهده لا يحدث في واقعك، بل يقع في مملكة أوشيانيا! ومن أدوات هذا الإيهام، هو التأكيد على الجدار الرابع؛ لأن المعروف أنه جدار وهمي، وقديماً كانوا يحطمونه!! أما في الرمادي، فيجب التأكيد على وجوده بستار رمادي شفاف تأكيداً على عزل الجمهور عما يحدث خلف هذا الجدار! وعلى هذا الستار كتبت بالأضواء عبارة تقول بإن أي تشابه في أحداث المسرحية بما هو في واقع أي بلد .. فهذا من باب المصادفة غير المقصودة ..إلخ.
ومع دخول الجمهور، تبدأ المذيعة – عبر الميكروفون تقول – لا تخف .. نحن نرعاك .. أنت أمانة في أعناقنا .. نحن هنا للحفاظ عليك .. نحن مسخرون لتلبية احتياجاتك!! وتتكرر هذه العبارات كثيرا حتى يجلس كل مشاهد في مقعده، ثم تبدأ الأحداث!! وأول حدث مهم – لا يتعلق بواقعنا نهائياً – هو احتفال المملكة بالإعدام الجماعي للأسرى في ميدان عام، ووجوب خروج الأهالي لمشاهدة هذا الاحتفال السعيد!! وعندما يشعر بطل المسرحية (ونستون) بالاشمئزاز من رؤية مشاهد الإعدام، ينظر له الجميع باستغراب!! لأنه يخالف شعور الجميع، وأوامر الحاكم الفرد (الأخ الأكبر)، الذي يسعد بهذه الإعدامات!!
مشهد آخر - لا علاقة له بنا إطلاقاً - يتمثل في جلسة الكراهية، وهي جلسة يجتمع فيها الشعب المنقسم، وفجأة يبدأ كل قسم في شتم القسم الآخر وسبه حتى يتخلص من شحنة الغضب عنده، ويتخلص أيضاً من شعور الرضا بالعيش مع المختلف؛ لأن الدولة لا ترضى بالاختلاف، ويجب أن تطارد كل مختلف وتعتقله وتعذبه وتقتله وتعدمه .. إلخ، لأن الدولة في حالة حرب وهذه الحالة لا تقبل أي عيش مع مختلف أو معترض، ويجب التخلص من كل المختلفين والمعترضين والسماح فقط بأن يعيش كل متفق مع الدولة ونظامها تبعاً لأوامر الزعيم الأوحد (الأخ الأكبر)!! وحتى لا يسرح الجمهور في أمور لا يجب أن يسرح فيها .. يقوم العرض بتذكيره بأن هذا ما يحدث في مملكة أوشيانيا .. وليس في أي مكان آخر!!
بعد انتهاء جلسة الكراهية، التي ينتصر فيها الجانب المؤتلف مع توجهات الدولة وأقوال الأخ الأكبر، نلاحظ أن الائتلاف ليس في الآراء والتوجهات، بل في الملبس والمأكل والمشرب والشكل العام!! فشعب أوشيانيا - المُجبر على الرضوخ والاتفاق وغير مسموح له بالاختلاف – يرتدي ملابس واحدة في لونها الرمادي وفي تفاصيل حياتها!! حتى الحذاء من نوع واحد ولون واحد، وعندما وجدوا شخصاً يرتدي حذاء بلون مختلف، تم الإبلاغ عنه، فقبضت عليه الشرطة وسجنته لأنه اختلف وارتدى حذاء مختلفاً!! كذلك الطعام .. فالكل يأكل طعاماً واحداً بمقدار ثابت بنوعية واحدة، وذلك وفقاً لأوامر الزعيم الأخ الأكبر!! كذلك الأمر في الشعر!! نعم الشعر ... فإنه أسود وقصير، سواء للرجل أو للمرأة!! وهنا نجد مشهداً إنسانياً بين فتاتين، إحداهما تقول للأخرى: أليس تتمنين أن يطيل شعرك ويصل إلى نصف ظهرك؟! ثم يتوالى الحوار حول الأنوثة ومتطلباتها .. إلخ، وفجأة يخرجان من هذا الشعور، ويرددان بأن الأخ الأكبر أراد من ذلك المساواة وعدم إثارة الرجال حتى يقومون بالعمل والإنتاج!!
هذا الشعب المقموع، يتحكم فيه الأخ الأكبر ومساعدوه من خلال عنصر الرقابة الشاملة؛ حيث إن شاشات المراقبة موجودة في كل مكان، حتى في غرف النوم لمتابعة وقياس وقت استمرار العلاقة الحميمة بين الزوجين!! ووصلت المراقبة إلى حد أن الابنة أبلغت الشرطة عن أبيها؛ لأنها سمعته يهذي في حلمه بعبارات ضد الحزب الحاكم، فتم سجنه. أما الطامة الكبرى فتمثلت في جهاز (شرطة الأفكار)، وهي شرطة تراقب أي فرد في الشعب يسرح أو يكون شارداً؛ لأن هذا يعني إنه يفكر!! والتفكير ممنوع؛ لأن الأخ الأكبر – حاكم البلاد الأوحد – هو الذي يفكر للشعب ويتحدث بلسان الشعب، ويجب أن يسمع كلامه الشعب ولا يسمع لغيره .. وردد أحد الممثلين في العرض هذه المقولة القاطعة المانعة، قائلاً: (الرأي اللي يمشى، رأي اللي معاه: القوة، السلطة، السلاح، رأي اللي يقدر ينفذ ويحمي رأيه)، والمقصود به (الأخ الأكبر)، الذي وصفه جورج أورويل في روايته: بأنه طاغية، يحكم كزعيم سعياً للسلطة ولا شيء سواها، ولا يهتم بصالح شعبه أو الآخرين!!
أما حزب الأخ الأكبر، فيسعى إلى تثبيت أركان حكم الأخ من خلال عمل الوزارات المتنوعة في مملكة أوشيانيا، ومنها (وزارة الحقيقة) التي يعمل فيها بطل العرض ونستون، ووظيفته فيها تزوير التاريخ والحقيقة!! فيستطيع من خلال وظيفته تبديل الأمور التاريخية، بحيث يعزل مسئولين، ويلغي وجودهم من التاريخ، ويجعل البريء متهماً، والمتهم بريئاً، وصاحب الحق سجيناً، ومختفياً أو ملغياً من الوجود الرسمي إذا لزم الأمر!! وفجأة استيقظ ضمير ونستون، وقرر أن يفكر ويخالف الواقع المؤلم المفروض عليه، فقرر أن يفكر وينضم إلى (جولد شتاين) وجماعته؛ لأن جولد شتاين هو أول زعيم للثورة، فسجنه الأخ الأكبر وحكم عليه بالإعدام، ولكنه لم يُعدم حتى الآن؛ ولكن كلماته وخطبه مازالت تُذاع على الشعب، بوصفها أكاذيب لأن هذا ما يريده الأخ الأكبر!!
والتناقض في اسم (وزارة الحقيقة) التي تزور الحقائق، نجده أيضاً في (وزارة الحب) التي تقوم بتعذيب الناس من أجل الاعتراف بجرائم لم يقترفونها. أما (وزارة السلام) فمسئولة عن الحرب، بل ومسئولة عن تبديل العدو بالصديق تبعاً لمصلحة الأخ الأكبر!! فالعرض يقول بأن أوشيانيا تحارب أوراسيا العدوة، وفجأة تذيع الوزارة أن أوراسيا أصبحت صديقة وحبيبة؛ فهكذا يريد الأخ الأكبر، وما على الشعب الأوشياني إلا الرضوخ للأخ الأكبر وسماع كلامه وغير مسموح بسماع كلام الآخرين!! وأخيراً نجد (وزارة الوفرة) التي تعنى بالشئون الاقتصادية، فتقلص حق الفرد في حصة طعامه اليومي، التي قررها له الأخ الأكبر!!
اللون الأبيض، الذي يُمثل روح أغلب شعب أوشيانيا المقهور المغلوب على أمره، واللون الأسود الذي يمثل سلطة ديكتاتورية الأخ الأكبر وحزبه، أنتجا اللون (الرمادي)!! وهذا اللون الرمادي أصبح اللون السائد على المملكة في جميع نواحيها، ولا أمل للشعب إلا بالثورة على هذا اللون الرمادي، لذلك تأتي رقصة ختام المسرحية بثورة الألوان من قبل جميع الممثلين – شعب أوشيانيا – فقاموا بخلع ملابسهم الرمادية، لتظهر جميع الألوان في ملابس جميع الممثلين، والألوان مختلفة، تدل على اختلاف أفراد الشعب في ملبسهم ومعتقداتهم وأفكارهم ... والكل يرقص بصورة هستيرية ويغني فرحاً بأن ظهر بلونه الذي يحبه، ويرتدي الزي المحبب له، ويغني كما يحلو له، ويفكر كما يريد .. إنها ثورة على النظام السلطوي الذي لا يريد أن يعترف بنعمة الاختلاف!!
بهذه النهاية، حققت الأستاذة عبير علي الهدف من كلمتها، المنشورة في بمفلت العرض، حيث قالت فيها: "نحن الآن في مفترق طرق، في مأزق تراجيدي، إما نعيش سوياً في رحابة الاختلاف أو نموت جميعاً على خلاف"!! .. بهذه الكلمات الجريئة، عبرت المخرجة عن عرضها الجريء، الذي قدمه المستقلون، الذين استحقوا كلمة مدير الهناجر الأستاذ محمد دسوقي، عندما قال في كلمته المنشورة في بمفلت العرض: لقد وجدت المستقلين أكثر احترافية من بعض المحترفين أنفسهم!!
ساحة النقاش