حلمى سالم يكتب : الله يمنحك ساعديه
الدستور الأصلي : 02 - 07 - 2010
عندما بدأ جيلنا طريقه الشعري في أوائل السبعينيات من القرن الماضي كان «محمد عفيفي مطر» يمثل أحد أضلاع مثلث الشعر الذي كان عماد المتن الشعري في الستينيات السابقة علينا مباشرة، كان «أمل دنقل» يجسد التيار السياسي المباشر الحاد الصريح، وكان «محمد إبراهيم أبوسّنة» يجسد التيار الإنساني الرومانتيكي الهادئ، وكان «مطر» يجسد التيار التركيبي الجمالي الغامض.
كان كل شاعر من الثلاثة بعد جيل رواد الخمسينيات: «الشرقاوي» و«عبدالصبور» و«حجازي» علامة علي أسلوبٍ في العمل الشعري يضم شعراء عديدين، وكان كل شاعر من الثلاثة رافضاً الواقع السياسي الاجتماعي الحافل بالقهر والهزيمة والطغيان، لكن اختلفت بينهم طرائق التعبير عن هذا الرفض: فكان رفض «دنقل» صادماً يعتمد المواجهة المكشوفة والفضح الذي ينكأ الجرح، وكان رفض «أبوسّنة» ناعماً يعتمد الشوق الإنساني العذب في حياة عامرة بالحب والعدل والسلام خالية من الحقد والظلم والحرب، وكان رفض «مطر» مركباً يعتمد التشكيلات الصورية واللغوية الجديدة.
مال كثير من أبناء جيلي، وأنا منهم إلي «محمد عفيفي مطر»، فقد جذبتنا شبكة العلاقات الشعرية الكثيفة عنده، وأقنعته التراثية ذات الحضور العصري، وروائح الفلسفة اليونانية والإسلامية التي تضوع بين المقاطع، وأساطير القرية المصرية بما فيها من لغة الحرث والزرع والحصاد و«ثقافة الري» والخصوبة.
اعتبرنا «مطر» أباً من آبائنا ومازلنا نعتبره أباً من آبائنا، في سياق يربطه بآباء سابقين ضمن سلسال طيب واحد هم: «عبدالصبور» و«أدونيس» و«جبران» و«المتصوفة الإسلاميون» و«أبوتمام»، وظللنا نتلقف بشغف شطحاته وتطوحاته وعذاباته، فتنتنا قصيدة «الجامعة»، ثم أبهجتنا قصيدة «وشم النهر علي خرائط الجسد» وترنحنا مع «تطوحات عمر»، ورأينا بعض قسمات «مطر» في «ملامح من الوجه الأنباد وقليسي»، ثم تمزق وجداننا مع تعذيبه بالكهرباء في «احتفالية المومياء المتوحشة»، حينما انقض عليه زبانية جهنم عندما قال «لا» في وجه من قالوا «نعم» بتعبير «دنقل» أثناء حرب الخليج.
طبيعي أننا مع نضج ممارستنا الشعرية والثقافية، صرنا نري في تجربة «أمل دنقل» وتجربة «محمد إبراهيم أبوسّنة» أبعاداً جديدة لم نكن نراها في السابق، لكن هوانا ظل مع «مطر»، علي الرغم من أنه اتخذ مؤخراً، موقفاً محافظاً من قصيدة «النثر»، وعلي الرغم من أنه عادي استبداد ناصر «وهو محق» وأيد استبداد صدام، كأن هناك استبداداً خير من استبداد، لكننا لا ننسي له أبداً اختياره طريق القصيدة الجمالية المركبة التي تضيف جديداً فنياً، في الوقت الذي كان فيه المضمون المباشر هو المهيمن في السماء الشعرية، ولا ننسي له تحقيق «الأواني المستطرقة» بين الفلسفة والتراث والقرية في مياه واحدة، ولا ننسي له درسه في أسبقية الشعر علي «الغرض» في قولته الكبيرة الباقية: «الشعر مُلزِم لا مُلتزم»، ولا ننسي له ثقته في أن الشعر العميق الجميل سيعيش، رغم الشوشرة السياسية الصاخبة، ورغم العقلية الجمعية التي تنحاز للسهل الهين.
«احتمل غمة البرمكيين»، هذه جملة شهيرة من شعر «مطر» وقد اتخذنا هذه الجملة شعاراً أو نداءً نقوله له في كل أزمة مر بها عبر مشواره الشاق الطويل: عندما اتهمه اليسار بأنه يميني، وحينما اتهمه اليمين بأنه يساري، وحينما جافته الحياة الثقافية لأنه شاعر مركب غامض، وحينما تجاهلته المؤسسات الرسمية لأنه غير مندرج وغير رسمي وغير مضمون و(إن اضطرت إلي منحه جائزة الدولة التقديرية، منذ سنوات قليلة بعد أن منحتها قبله لمن هم أقل منه قامة وقيمة)، وعندما واجه محنة الاعتقال والتعذيب الوحشي في ليمان طره صرخ: «ابتدرت يد الجلاد ناصيتي وشد وثاق عيني المشاكستين بالرؤيا ومكنون التذكر والعناد، فرأيت جوهرة الظلام علي قوائم عرشه انفجرت نهارات مضواة، وأشهدني مقام الذل تحت يد الأذلاء المهانين. «احتمل غمة البرمكيين»، نقولها له اليوم في مواجهة المرض، صائحين فيه: «انهض يا ولد»، انهض بثلاثة أرباع القرن التي تحملها علي ظهرك بعد أن اختلط فيها طين رملة الأنجب بعدل «عمر بن الخطاب»، وامتزج فيها عذاب غيلان الدمشقي برباعية الفرح، هل تذكر «المتنبي»، شاعرك وشاعرنا، الذي طلع عليه أعداؤه بالسلاح، فلما حاول الهرب صاحوا به «أتفر وأنت القائل في الليل: الخيل والبيداء تعرفني/ والسيف والرمح والقرطاس والقلم؟»، فعاد يقاتلهم، علي الرغم من أنهم عصبة، أولو عزم، وذلك مصداقاً لبيته الشعري الخالد بالمثل نقول لك: انهض يا ولد، كيف تستسلم للموت وأنت القائل: «لا تعبري النهر يا طفلتي يا غزالة حلمي المكثف/ هذا هو الله يمنحني ساعديه/ وهذا هو الشعب يقذفني حجراً في سكون الزجاج الملون/ فانتظري/ جسد الرقص يبدأ رعدته الدافئة».