حركة الشعر العربي الحديث.. النشأة
حلمي سالم
نشأة الشعر العربي الحديث
- 1 -
بات من الثابت في الدرس السوسيو ثقافي، وثوق العلاقة الأكيدة بين التطورات السياسية الاجتماعية الفكرية في المجتمع، والتطورات الأدبية والفنية في هذا المجتمع.
وعلى الرغم من وثوق هذه العلاقة، بين التطور الاجتماعي والتطور الأدبي الفني، فإنها ليست علاقة مرآوية ميكانيكية تطابقية، كما كان يرى بعض علماء الجمال الماركسيين، فيما سبق، بل هي علاقة جدلية مرنة.
وفي ضوء هذه العلاقة الوثيقة بين تطور المجتمع، وتطورالأدب والفن سننظر إلى نشوء الشعر العربي الحديث.
ومصر هي البلد الذي سأتخذه النموذج الأغلب للفحص والتطبيق (مع إشارات عربية عامة)، وربما يعود ذلك إلى أن معرفتي بهذا النموذج هي أوسع من معرفتي بغيره من بلاد العرب، وربما يعود إلى اعتقادي أن التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية، هي مثال يلخص تلك التطورات في مجمل الوطن العربي.
- 2 -
بدأت مسيرة ما يسميه المفكرون "النهضة العربية الحديثة"، منذ قرنين من الزمن، وسواء كانت لحظة البدء في هذه المسيرة هي الحملة الفرنسية على مصر والشام (8971) - كما يرى بعض المؤرخين، أو كانت هي تولي محمد علي حكم مصر (1805) - كما يرى آخرون، فإن المؤكد أن بدايات هذه النهضة قد ظهرت مع أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر لا سيما أن اللحظتين (الحملة الفرنسية، وولاية محمد علي)، هما لحظتان متتاليتان متكاملتان، بحيث تشكلان في حقيقة الأمر لحظة واحدة كبيرة.
ويمكن- باقتراح من عندي - تقسيم هذين القرنين إلى ثلاث دورات كبيرة.
الأولى، هي التي تبدأ بالحملة الفرنسية، وتولي محمد علي الحكم، وتنتهي ببداية القرن العشرين، ولنحدد هذه الدورة بتاريخين معينين، هما: عام تولي محمد علي (1805) كبداية، وعام رحيل محمود سامي البارودي (1904)، أو عام معاهدة سايكس - بيكو (1916) كنهاية.
والثانية، هي التي تبدأ برحيل البارودي (1904)، أو معاهدة سايكس بيكو (1916)، وتنتهي بنكبة فلسطين (1948)، أو ثورة يوليو في مصر (1952).
والثالثة، هي التي تبدأ بنكبة فلسطين (1948)، أو ثورة يوليو (1952)، ولاتزال ممتدة حتى لحظتنا الراهنة، بتموجات مختلفة.
- 3 -
إن أهمية القرن التاسع عشر عندي تكمن في أنه القرن الذي بدأت فيه بشائر انتقال المجتمع العربي من الطابع التقليدي القديم (ذي العلاقات الإقطاعية بتعبير السياسيين)، إلى الطابع المدني الحديث (ذي العلاقات المدنية البورجوازية، بتعبير السياسيين)، بصرف النظر - مؤقتا - عن تشوهات هذا الانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، وأوجه النقص العديدة فيه، وهو ما سنشير إليه لاحقا.
فماذا حدث في هذا القرن؟
شهد هذا القرن عددا هائلا من التحولات والتطورات والظواهر والتحركات السياسية والاجتماعية والثقافية، سنرصد منها عينة تمثيلية:
- ففي الأنفاس الأخيرة من القرن الثامن عشر حدث أول لقاء - أو صدام - بين الشرق والغرب، من خلال الحملة الفرنسية، حيث شاهد المصريون والشاميون القنابل (التي سماها الجبرتي القنبر)، وكانوا يواجهونها بالخيول. ورأوا المطبعة للمرة الأولى تطبع الكلام والمنشورات. وقامت في مواجهة الغزاة ثورتا القاهرة الأولى والثانية. وعرف المجتمع المصري ما صار يسمى بعد ذلك "النضال الوطني ضد المحتل"، واحتك العرب بمبادئ الثورة الفرنسية "الحرية والإخاء والمساواة" (وإن كانت ملوثة بدخان المدافع).
وهنا نسجّل أن هذا الالتباس بين الدانة والمطبعة، في إدراك العرب للحملة الفرنسية، سيظل واحدا من الانشقاقات المشوهة التي ساهمت في تشوه الانتقال العربي من المجتمع التقليدي القديم إلى المجتمع المدني الحديث، وسيظل عنصرا من عناصر تكرار النهضة والسقـــوط فـــي الفكــر العربي الحديث.
ومع خروج الحملة الفرنسية من البلاد العربية، كان مفهوم "الأمة" قد بدأ في التبلور، ومع تولي محمد علي الحكم - تعبيرا عن إرادة المحكومين - كان مفهوم "الشعب" قد بدأ في التكون. ومع إجراءات محمد علي في تثبيت حكمه وتوطيده كان مفهوم "الدولة" قد بدأ في الظهور على مسرح الحياة العربية.
وغني عن البيان أن المفاهيم الثلاثة (الأمة، الشعب، الدولة)، هي من المعطيات الرئيسية لدخول المجتمع العربي في العصر الحديث.
وعلى طول القرن نشأ جيش مصري عربي قوي بسلاح شبه قوي، وصل إلى مشارف آسيا وأوروبا. وأقيمت مدارس للترجمة عن العلم والفكر الأوروبيين، وذهبت بعثات إلى أوروبا - فرنسا خاصة - وعادت لتطور التعليم والجيش والري والمستشفيات والصناعات. من هذه البعثات انبثق رفاعة الطهطاوي الذي أصدر "الوقائع المصرية"، وترجم الدستور الفرنسي ونشيد الثورة الفرنسية، ووضع تجربة احتكاك الشرق بالغرب في كتابه العمدة "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، وهو واحد من الكتب المبكرة في النهضة العربية الحديثة التي أوضحت أن أطرنا التقليدية لا يمكن أن تستجيب لمستجدات التحضر، وأننا نستطيع أن نأخذ بأسباب التقدم والتمدن، من غير أن نفقد خصوصيتنا أو هويتنا الذاتية، ولعل ذلك الفهم المستنير كان بذرة أساسية استندت إليها الآداب والفنون العربية، فيما بعد، في إنجاز نقلتها الكبيرة.
بالتوازي مع الطهطاوي، كان هناك شبلي شميل الذي ترجم "النشوء والارتقاء" لدارون، الذي صدر عام 1884، وفرح أنطون الذي أكد أن إصلاح الأرض مسألة علمية، لا مسألة دينية، وأن أورشليم القديمة يجب أن تفسح في المجال لأورشليم الجديدة. وهو الذي أعلن أنه "لا مدنية حقيقية ولا عدل ولامساواة ولا أمن ولا ألفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم إلابفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية".
- 4 -
توالت بعد الطهطاوي الارتعاشات السياسية والاجتماعية والفكرية: علي مبارك ودوره الثقافي والعمراني، تكوّن أول مجلس نيابي في مصر الحديثة، إنشاء أول أوبرا في الشرق.
ثم كانت ثورة عرابي (1881) مفصلا أساسيا من مفاصل ذلك القرن، وهي كذلك عندي لأربعة أسباب:
الأول: أنها دشَّنت ظاهرة تدخل الجيش في السلطة في تاريخنا الحديث، هذا التدخل الذي سيظل طوال النهضة العربية الحديثة يمثل إشكالية تاريخية غير محلولة، ومعضلة من معضلات الدولة الوطنية في الأقطار العربية.
الثاني: أنها الانتفاضة التي اعتبرها المفكرون التقدميون المصريون الحلقة الأولى من الحلقات الثلاث للثورة الوطنية الديموقراطية المصرية في العصر الحديث، الثانية هي ثورة سعد زغلول (1919)، والثالثة هي ثورة عبدالناصر (1952).
الثالث: أنها كانت تجليا من تجليات التمرد على استبداد الأسرة العلوية (أبناء محمد علي)، والسعي إلى المساواة بين الناس "الذين ولدتهم أمهاتهم أحرارا". وما صاحب ذلك من نزعة "الوطنية المصرية" في مواجهة الشركسيين الأغراب، ومن نزعة "مؤسسية" في وضع نواة للدستور وللمجالس التشريعية.
الرابع: أنها أنتجت للحياة الفكرية المصرية والعربية أربع شخصيات كبيرة كان لها أثر عميق في التحولات الثقافية والأدبية في العقود التالية، مما شكل مهادا أوليا لثورة الشعر العربي الحديث.
الشخصية الأولى: محمود سامي البارودي (رب السيف والقلم)، الذي اضطلع بمهمة استعادة القوة الرصينة، والديباجة المكينة للشعر العربي التقليدي، بعد عصور من التردي والضعف.
الشخصية الثانية: جمال الدين الأفغاني الذي انتصر لحرية الرأي ولشرعية "الآخر"، وأسس "العروة الوثقى"، كأول منبر إعلامي مستقل عن السلطات الحاكمة والمؤسســات الرسمـــية فــي العصر الحديث.
الشخصية الثالثة: محمد عبده، الذي وضع الكتاب التأسيسي الثاني (بعد كتاب الطهطاوي: تخليص الإبريز)، وهو كتاب "الإسلام بين العلم والمدنية"، شارحا إمكان استجابة الإسلام (في وجهه التجديدي المتفتح)، لشروط التقدم البشري ومتطلبات الحياة المعاصرة، ومحمد عبده هو الذي وصل باحترام حرية الآراء إلى قوله: "إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر"، وهو الذي أكد أن الإسلام ليس فيه "دولة دينية".
الشخصية الرابعة: عبدالله النديم، الذي واصل فكرة المنبر الإعلامي الثقافي المستقل عن المؤسسات الرسمية، عبر مجلته "الأستاذ" ثم "التنكيت والتبكيت"، من ناحية، والذي شد الشعر والأدب إلى دور شعبي تحريضي متصل بهموم المواطنين (ستكون تلك سمة من سمات تيار من تيارات ثورة الشعر العربي الحديث في منتصف القرن العشرين)، من ناحية ثانية، والذي أضاف آلية التهكم أو "الساركازم" إلى الأسلوب الأدبي (ستكون هذه الآلية إحدى آليات الشعر العربي الحديث) من ناحية ثالثة. وهو الذي جسَّد مبكرا في ثقافتنا المصرية الحديثة نموذج "المثقف العضوي"، المطابق بين النظر والعمل، الماشي بين الناس - أدبيا وحركيا - معبرا عن أشواقهم الملموسة، محتميا بينهم بدفء الجماعة.
وسيذكـــــر النديم بعد ذلك كثـــــيرا في شعـــــــر عبدالصــــبور وحجــــازي ونجـــــيب ســـرور، وسيكون - كالطهطاوي - محور مسرحيات طليعية عديدة، باعتبارهما من "بشاير التقدم".
- 5 -
حفل العقد الأول من القرن العشرين بأربع وقائع كبيرة، كان لها تأثيرها الملحوظ على الحراك السياسي والفكري والثقافي في العقود الخمسة التالية، أي حتى بدء الدورة الأخيرة من الدورات الثلاث التي قسمنا إليها قرني النهوض - أو شبه النهوض - العربي الحديث:
الواقعة الأولى: هي وفاة محمود سامي البارودي (4091)، وهو ما يعني أن مهمة إعادة العمود الشعري التقليدي إلى استوائه السابق، وعافيته القديمة قد تمت، بحيث صارت الأرض جاهزة لأي موجات تجديدية تالية، تتواكب مع طبيعة اللحظة التاريخية الراهــــنة. لقـــد صـــارت الأرض ممهدة - بعد استئناف كلاسيكي قصير مع شوقي والزهاوي والرصافي - لتجربة المهجريين العرب، ولتجربة جماعة "الديوان" ولتجربة مجلة "أبوللو" وسائر المدرسة التقليدية الرومانسية.
الواقعة الثانية: هي معاهدة "سايكس - بيكو" التي قسمت تركة "الرجل المريض" (الدولة العثمانية التي تشيخ) بين إنجلترا وفرنسا؛ فحصلت إنجلترا على مصر والسودان وفلسطين والأردن والعراق، وحصلت فرنسا على المغرب العربي كله (فضلا عن الجزائر سلفا) ، والشام الكبير: سوريا ولبنان.
على أن كارثة "سايكس - بيكو" انطوت على فائدتين عظيمتين لمسيرة التطور العربي الحديث:
أولاهما: تخلُّق وتنامي الشعور الوطني المعادي للاستعمار (الإنجليزي والفرنسي - فضلا عن التركي نفسه)، وتشكل الجماعات والأحزاب الوطنية المطالبة بالتحرر والحرية، وهو ما لبث أن تجلى في هبّات وطنية شعبية ومحاولات للاستقلال عديدة.
ثانيتهما: الاحتكاك المباشر مع ثقافة المحتل وعلمه وتقدمه التكنولوجي والمدني، الأمر الذي كوّن نخبة سياسية وثقافية وتقنية، وسرّب المفاهيم الليبرالية والدستورية والقانونية إلى النخبة والعامة في المجتمعات العربية المحتلة.
إن هذا الاحتكاك المباشر مع ثقافة المحتل كان ذا نتائج إيجابية على التطور الثقافي والإبداعي لبعض البلاد العربية، لا سيما في المغرب العربي ولبنان، حيث كثرت الهجرات إلى فرنسا، وكثرت الكتابة بالفرنسية، وهو ما أنتج ظاهرة "الفرانكفونية" في الكتابة العربية الحديثة، التي أهدتنا، مالك حداد وكاتب ياسين ورشيد بوجدرة وألبير قصيري وجويس منصور.
وليس من ريب في أن الثقافة الفرنسية ستكون - بعد سنوات - عاملا من عوامل ظهور أدونيس (التي نقل بها السريالية الفرنسية إلى حركة الشعر العربي الحر)، وجورج حنين وعبد اللطيف اللعبي ويوسف الخال وغيرهم من رواد حركة الشعر الحر، وأن الثقافة الإنجليزية كانت عاملا من عوامل ظهور بدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور وسلمى الخضراء الجيوسي ونازك الملائكة وغيرهم من رواد حركة الشعر الحر.
الواقعة الثالثة: هي ترجمة سليم البستاني لإلياذة هوميروس (1904)، ليبدأ بعدها توجه ثقافي عربي كثيف نحو التراث اليوناني - فلسفة وأساطير وفكرا جماليا - يرفده توجه إلى أساطير الشرق البابلية والكنعانية والآشورية. الأمر الذي سيشكل - بعد ذلك - خيطا رئىسيا من خيوط حركة الشعر العربي الحر، حيث ستزدهر أساطير التموزيين والكلدانيين والفينيقيين (لا سيما في شعر السياب وأدونيس).
هذا السياب يتغنى بـ "تموز وجيكور" فيقول:
"نابُ الخنزير يشقّ يدي
ويغوص لظاه إلى كبدي
ودمي يتدفقُ، ينسابُ:
لم يغدُ شقائقَ أو قمحا
لكن ملحا
"عشتار" وتخفقُ أثوابُ
وترفُّ حيالي أعشابُ
من نعل يخفق كالبرقِ
كالبرق الخلّب ينسابُ"
الواقعة الرابعة: هي نشأة الجامعة المصرية (1908) بجهود أهلية تكافلية تؤكد حضور بذور أصيلة للمجتمع المدني، لاسيما بعد أن رأسها أحمد لطفي السيد أبرز أقطاب الفكر الليبرالي آنذاك، الذي قدم استقالته بعد ذلك تضامنا مع طه حسين في أثناء أزمة كتابه "في الشعر الجاهلي".
- 6 -
بعد العقد الأول المثير من القرن العشرين، توالت التطورات السياسية والوطنية والفكرية والثقافية حتى منتصف القرن، وسأوجز أكثرها أهمية وتأثيرا كما يلي:
- ثورة 1919 التي قادتها الطبقة المتوسطة المصرية، والتي شكلت الحلقة الثانية من حلقات الثورة الوطنية الديموقراطية المصرية، والتي رفعت شعارا علمانيا مدنيا تاريخيا هو "الدين لله والوطن للجميع"، محققة حالة رفيعة من التسامح الديني والاعتراف بالتعدد، والتي ساهمت في "عودة الروح" الوطنية، والتي أنتجت أجواؤها الليبرالية كتاب علي عبدالرازق "الإسلام وأصول الحكم" (1926)، وكتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" (1927).
وعندي أن هذه الكتب الثلاثة قد ساهمت مساهمة مؤثرة في دفع حركة التجديد في الشعر العربي في العقود التي عاصرتها والتي تلتها، وذلك بما أقرته هذه الكتب من رفض للثيوقراطية واللاهوت، ومن التأكيد على أن الأدب هو ابن لمجتمعه، ومن تدعيم الاجتهاد الفكري والفني، ومن تكريس التعدد وحرية الفكر في مواجهة الواحدية والاستبداد.
- دستور 1923، الذي كان ثمرة عليا من ثمار ثورة 1919، بما تضمنه من حقوق مدنية وتشريعات حقوقية قانونية، ومن كفالة حرية الرأي والاعتقاد، وهو ما اعتمد عليه المحقق في تبرئة طه حسين في مواجهة دعاة الدولة الدينية وشيوخ النقل المعادين للعقل.
كان قرار رئيس النيابة الذي يحقق مع طه حسين (اسمه محمد نور) يقول في حكمه التاريخي: "إن للمؤلف فضلا لا ينكر في سلوكه طريقا جديدا للبحث حذا فيه حذو العلماء من الغربيين، وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين، بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواقع إنما أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر، فلذلك تحفظ الأوراق إداريا".
- ثورة عام 1936 في فلسطين ضد الانتداب البريطاني، وهي الثورة التي أيقظت الشعور الوطني الفلسطيني، ونتج عنها ثقافيا ظهور الحركة الرومانتيكية الوطنية في الشعر التقليدي الفلسطيني، متواكبة مع الحركة الرومانتيكية التقليدية العربية في المهجر والديوان وأبوللو. وكان على رأس هذه الحركة الرومانتيكية الفلسطينية إبراهيم طوقان وأبوسلمى وفدوى طوقان.
- الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، وما شهدته من أهوال هائلة (مثل قنبلتي هيروشيما ونجازاكي)، وما تركته في نفوس العرب من إحساس مرير بسبب حرب "لا ناقة لهم فيها ولا جمل"، الأمر الذي ولّد إحساسا بالضياع، وخلّف أزمة وجودية إنسانية عاتية، شكلت خيطا من خيوط التجربة الشعرية التي اندلعت للتو، باسم حركة الشعر الحر.
- نشأة جامعة الدول العربية (1945)، التي غذَّت الشعور "القومي" عند العرب، وهو ذلك الشعور الذي كان قد بدأ بذورا صغيرة بعد معاهدة "سايكس - بيكو"، التي قسمت البلاد العربية - في مطلع القرن - إلى أقطار إدارية مختلفة، لكنها وحدت الوجدان العربي عاطفيا ونفسيا، في حركة معاكسة لفعل التقسيم الجغرافي.
وقد صارت "الفكرة القومية" التي بلورتها تنظيميا الجامعة العربية، ملمحا جوهريا من ملامح حركة الشعر الحر، بعد سنوات قليلة، لاسيما بعد ظهور ثورة يوليو 2591، بنزعتها القومية الواضحة (تجلى ذلك ناصعا عند بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وأحمد عبدالمعطي حجازي ونزار قباني وعبدالعزيز المقالح).
بل إن قصيدة نازك الملائكة "الكوليرا" - التي تعد واحدة من القصائد الرائدات في حركة الشعر الحر - هي تشخيص عميق لـ "الفكرة القومية" لدى رواد الشعر الحر، إذ كتبت الملائكة هذه القصيدة تضامنا مع أهل مصر، الذين عانوا وباء الكوليرا في أوائل (1947)، حيث:
"الكوليرا
في كهف الرعب مع الأشلاء
في صمت الأبد القاسي
حيث الموت دواء
استيقظ داء الكوليرا
حقدا يتدفق موتورا
هبط الوادي المرح الوضاء
يصرخ مضطربا مجنونا
لا يسمع صوت الباكينا
في كل مكان خلَّف مخلبُه أصداء
في كوخ الفلاحة في البيت
لا شيء سوى صرخات الموت
الموت الموت الموت
في شخص الكوليرا القاسي
ينتقم الموت"
- صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من الأمم المتحدة (1948)، الذي أكد الحقوق الجوهرية للإنسان. وعلى رأسها الحق في الحياة وحرية الرأي والعقيدة، وحق الأمن والتعليم والصحة والمسكن والطعام والكرامة الفردية، وغير ذلك من حقوق كانت هي نفسها أهداف الحركة الوطنية العربية، كما كانت مدار القيم الفكرية والإنسانية التي تمحورت حولها حركة الشعر العربي الحر، التي انطلقت متزامنة مع هذا الإعلان.
يتأكد هذا التجادل حينما نلتقي بأبيات نزار قباني التي بعنوان "لماذا يسقط متعب بن تعبان في امتحان حقوق الإنسان":
"مهاجرون نحن من مرافئ التعب
لا أحد يريدنا من بحر بيروت إلى بحر العرب
لا الفاطميون ولا القرامطة
ولا المماليك ولا البرامكة
ولا الشياطين ولا الملائكة
لا أحد يريدنا
في المدن التي تقايض البترول بالنساء
والديار بالدولار، والتراث بالسجاد،
والتاريخ بالقروش،
والإنسان بالذهب
وشعبُها يأكل من نشارة الخشب
لا أحد يريدنا
في مدن المقاولين، والمضاربين، والمستوردين،
والمصدّرين، والملمعين جزمة السلطة،
والمثقفين حسب المنهج الرسمي،
والمستأجَرين كي يقولوا الشعر،
والمقشِّرين اللوز والتفاح للملوك،
*******
والمخوِّضِين في دمائنا حتى الرُّكب
لا أحد يقرؤنا
في مدن الملح التي تذبح في العام ملايين الكتب
لا أحد يقرؤنا
في مدن الملح التي تذبح في العام ملايين الكتب
في مدن صارت بها مباحث الدولة
عراب الأدب".
وقد جسَّد الشعر العربي الحديث - وعكس - العديد من شعارات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في حركة تبادلية من التأثر والتأثير: فوجدنا قيمة التحرر والحرية عند السياب وأدونيس ودرويش، ووجدنا قيمة العدل الاجتماعي عند عبدالصبور وعبدالوهاب البياتي، ووجدنا رفض الاستبداد عند سعدي يوسف ونزار قباني ومحمد الماغوط، ووجدنا قيمة "الذات" عند أنسي الحاج ويوسف الخال.
- نكبة فلسطين (1948)، وهي النكبة التي فجرت في قلوب النخبة العربية (السياسية والثقافية، بل والعسكرية) شعورا بالمرارة والخزي والغضب، وباستحالة استمرار الأوضاع المزرية للأنظمة العربية المستخزية على ماهي عليه من ضعف وتهاون وهوان. وقد عبر بعض الشعراء العرب الرومانتيكيين - قبل ثورة الشعر الحر - عن هذه المـــرارة وذلك الغضــــب، على نحو ما نجد عنـــد أبي سلمى وطوقان وعلي محمود طه، الذي صرخ:
أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا
وذلك قبل أن تندلع حركة الشعر الحر، لتكون مأساة فلسطين دافعا من دوافع هذا الاندلاع، وموضوعا رئيسيا من موضوعاتها، ومحورا لتبلور تيار شعري كامل داخل ثورة الشعر الحر، هو تيار "شعر المقاومة" الفلسطينية، الذي برز فيه - بعد أبي سلمى وطوقان - توفيق زياد ومعين بسيسو ومحمود درويش وسميح القاسم وراشد حسين وسالم جبران وأجيال تالية.
على أن تيار شعر المقاومة الفلسطيني، لم يكن معزولا عن النهر العربي العام لحركــــة الشعـــر الحر - وإن كان تيارا متميزا فيه - بل كان رافدا نابضا في ذلك النهر، على نحــــو ما تؤكده سطــــور محمود درويش:
"سجِّل
أنا عربي
ورقمُ بطاقتي خمسون ألفْ
وأطفالي ثمانية
وتاسعهم سيأتي بعد صيفْ"
وعلى نحو ما تؤكده سطور توفيق زياد التي يتضامن فيها مع سائر الثوار العرب:
"أناديكم
أشدُّ على أياديكم
أبوسُ الأرض تحت نعالكم،
وأقول: أفديكم".
- 7 -
كانت ثورة يوليو في مصر (1952) - كما يقول المفكرون - الحلقة الثالثة والأخيرة من حلقات الثورة الوطنية الديموقراطية المصرية في العصر الحديث.
وبصرف النظر عن صحة هذا القول أو خطئه، فإن ثورة مصر (1952)، كانت نقلة كبيرة في مسار التطور السياسي الاجتماعي الثقافي المصري والعربي على السواء. إذ كانت بؤرة لمجموعة من الثورات والاستقلالات والانقلابات الوطنية في الوطن العربي، سبقتها أو لحقتها بقليل، مثلما وقع في سورية والعراق ولبنان قبل (1952)، وفي الجزائر والسودان بعد (1952).
هكذا كان العقدان الممتدان من منتصف الأربعينيات إلى منتصف الستينيات لائقين تماما بوصف: عقدي ازدهار الحركة الوطنية العربية وإنجازاتها الباهرة.
شكلت ثورة يوليو (1952) إذن قوة دفع هائلة لنشوء ونمو وصعود حركة الشعرالعربي الحر، بما رفعته هذه الثورة من شعارات وتوجهات وإجراءات تجاه حرية الوطن، وكرامة المواطن، والعدالة الاجتماعية، ومقاومة المستعمر والمحتل، وتذويب الفوارق بين الطبقات، والانحياز إلى البسطاء، وإعلاء "القومية العربية"، والتقدم والاشتراكية، ورفض الاستغلال والإقطاع والاستعباد، وغير ذلك من قيم وأهداف ورؤى، رأى فيها شعراء التجديد القادمون تجسيدا لأحلامهم أو تشكيلا لها، بما يستجيب لأشواق هؤلاء الشعراء - الذين يريدون تحطيم الأطر القديمة وخلق أطر جديدة - في الحرية والعدل والتقدم، على الأصعدة جمعاء.
عندما قامت ثورة (1952)، لم يكن قد مر أكثر من أربع سنوات على صدور قصيدة "الكوليرا" لنازك الملائكة وقصيدة "هل كان حبا" للسياب كلتاهما صدرت عام (1947)، بصرف النظر عن مشكلة سبْق أيام قليلة لنازك أو للسياب، فالريادة ليست مسألة دقائق معدودة، بل مسألة مشروع حفر متواصل".
لكن ثورة يوليو (1952)، هي التي أعطت "الشرعية الثورية" لما سبقها من قصائد الشعر الحر، ولما لحقها من موجات شعرية حرة، اندلعت مدعومة بنظام سياسي "ثوري" يتراسل مع هذه الموجات، تأثيرا وتأثرا، يعطيها مددا وحماية وتشجيعا ومنابر، ويأخذ منها "شرعية جمالية". حتى بدا الأمر كأن ثورة يوليو هي حركة الشعر المجدد الحر بين الأنظمة السياسية، وكأن حركة الشعر الحر هي ثورة يوليو بين الأنظمة الأدبية الشعرية القديمة.
من هنا، حدث تناظر - أو تجادل - بين شعارات الثورة (ثورة 1952)، وسائر الثورات العربية، وبين المضامين الأساسية لحركة الشعر الحر: التحـــرر، العدالـــــة، الفقـــراء، العروبة، كرامــــة الفرد، كراهية الاستعمــــار، البنــــاء والعمل، العمال والفلاحـــــون، التضامــــن النضالي العالمي مع سائر الشرفاء.
ولم يختلَّ هذا التناظر - التجادل إلا في قضية واحدة هي "كبت الرأي وقمع المختلف". ذلك أن هذه الثورة المصرية الوطنية وسائر الثورات العربية الشبيهة، على الرغم من إنجازاتها الوطنية والاجتماعية، ضاقت بالرأي الوطني الآخر، منطلقة من أنها تملك الحق الوحيد والحقيقة الوحيدة. فكان القمع والاعتقال والاستبداد.
لذلك، برزت - إلى جوار الموضوعات السابقة في مضامين الشعر الحر - موضوعة "السجن" والزنزانة والمحقق والمخبر والتعذيب. تجلى ذلك، كأمثلة في شعر البياتي في العراق، وأدونيس وشوقي بغدادي والماغوط في سورية، وأحمد عبدالمعطي حجازي وأمل دنقل في مصر، واللعبي في المغرب.
يقول محمد الماغوط في قصيدته "الحصار":
"دموعي زرقاء
من كثرة ما نظرت إلى السماء
وبكيت
دموعي صفراء
من طول ما حلمت بالسنابل الذهبية
وبكيت
فليذهب القادة إلى الحروب
والعشاق إلى الغابات
والعلماء إلى المختبرات
أما أنا فسأبحث عن مسبحة
وكرسي عتيق
لأعود كما كنت
حاجبا قديما على باب الحزن
ما دامت كل الكتب والدساتير والأديان
تؤكد أنني لن أموت
إلا جائعا أو سجينا".
- 8 -
بتعبيرات المجال السوسيو - ثقافي، نقول: "يمكن أن نعتبر ثورة عرابي (1881) هي ثورة البورجوازية الكبيرة العسكرية. وعلى ذلك كان نتاجها في الشعر هو: نهوض البارودي بمهمة استعادة العافية والمتانة والرّواء لبنية العمود التقليدي للشعر العربي، بعد مراحل انحدار طويلة، وتابعه في إتمام المهمة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي وبدوي الجبل وبشارة الخوري وغيرهم.
ويمكن أن نعتبر ثورة سعد زغلول (1919) هي ثورة البورجوازية المتوسطة المدنية. وعلى ذلك فإن نتاجها في الشعر هو: الحركة الرومانتيكية - داخل العمود التقليدي - التي تمثلت في مدرسة "الديوان" (العقاد وعبدالرحمن شكري وإبراهيم المازني)، ومدرسة "أبوللو" (أبو شادي وعلي محمود طه وإبراهيم ناجي وأبو القاسم الشابي)، ومدرسة "المهجر" (جبران ونعيمة وإيليا أبو ماضي وأبو شبكة).
تجسدت النقلة المهمة التي أنجزتها الرومانتيكية (بمدارسها الثلاث) في الانطلاق من الذات تجاوبا مع الثورة البورجوازية المتوسطة التي أعلت قيمة الفرد، بحيث يغدو الشعر تعبيرا عن الشعور، مؤكدة "ألا يا طائر الفردوس، إن الشعر وجدان"، وأن الشعر هو "محاكاة الداخل"، لا "محاكاة الخارج"، كما كانت الحال عند التقليديين السابقين.
وقد تساوق مع هذه المفاهيم الجديدة تحريك قليل لشكل العمود السابق، لتتكون القصيدة من عدة مقاطع يلتزم كل مقطع فيها بوزن مختلف وقافية مختلفة، متخلين بذلك عن وحدة الوزن والقافية طوال النص، كما كانت الحال في الشكل القديم.
ويمكن أن نعتبر ثورة يوليو (1952)، هي ثورة البورجوازية الصغيرة المصرية والعربية، وعلى ذلك فإن نتاجها في الشعر هو: حركة الشعر الحر، التي خطت شوطا أكثر جذرية من الحركة الرومانتيكية السابقة:
- من حيث المضمون، إذ دخلت موضوعات جديدة تبنت ما يمكن تسميته "الرومانسية الثورية"، فيها انطلاق من "الذات" لكنها الذات الممزوجة بالجماعة، وفيها محاكاة للداخل، لكنه الداخل المخلوط بالخارج: الواقع الاجتماعي والشعب وهموم الوطن من زاوية أولى.
- من حيث الشكل، إذ اعتمدت تعدد الوزن وتراوح القافية، وإسقاط وهم اللغة التي هي شعرية ونقية بذاتها، والتحول إلى الأداء البسيط الميسور البعيد عن المعاجم الغليظة، وذلك لإنزال الشعر من السماء إلى الأرض، مع ما يرفد ذلك كله من تلاقح، أو تناص، مع الثقافة واللغة والأساطير الغربية، من زاوية ثانية.
- من حيث "فلسفة الإنشاء الشعري ذاتها"، إذ جسدت حركة الشعر الحر مبدأ ألا ثبات أبديا خالدا لأي صيغة شعرية، لأن الصيغ اقتراح العصور التاريخية والاجتماعية مسقطة بذلك قداسة أي إطار إبداعي ودوامه، مؤكدة أن صيغة الشعر الحر، هي صيغة العصر الحديث، مثلما كانت صيغة العمود التقليدي هي صيغة العصور التقليدية السابقة، من زاوية أخيرة.
يجب، هنا أن أستدرك موضحا: إن ما أجريته من موازاة بين الطور السياسي الاجتماعي والطور الشعري ليست موازاة حديدية تطابقية حرفية صماء، فقد تكون النتيجة سببا والسبب نتيجة. والأصح هو أن العلاقة بينهما علاقة جدلية تفاعلية سريعة أحيانا وبطيئة أحيانا، مباشرة تارة وغير مباشرة تارة. لكن الثابت هو حالة "الأواني المستطرقة"، التي تحكم الوشائج بين الواقع والشعر.
وما التعميمات والمبالغات التي نسوقها، إلا رسوم توضيحية واسعة لتبيان ذلك الحبل السُّري في جدلية الفاعل والمفعول.
- 9 -
إذا كانت التغيرات الشعرية في جانب كبير منها، استجابة للتغيرات الاجتماعية والسياسية، فلماذا تأخرت التحولات الشعرية في مجتمعنا العربي قرنا ونصف القرن بعد بدايات تحول المجتمع العربي إلى النهوض المدني الحديث، منذ بدء القرن التاسع عشر؟
في الإجابة عن هذا السؤال، يمكن أن نشير إلى عوامل عديدة، سببت ذلك التأخر الذي بلغ مائة وخمسين عاما:
أولا: ليس من الحتم أن تكون استجابة الشعر لتحولات الواقع استجابة فورية ميكانيكية، فتلبية البناء الفوقي لتغيرات البناء التحتي تحتاج إلى بعض الزمن، كي تتفاعل وتتبلور وتنضج.
ثانيا: إن تحول المجتمع العربي نفسه إلى مجتمع مدني حديث، لم يتم في سنوات معدودات قليلات، بل إن هذا التحول نفسه استغرق ما يصل إلى قرنين. كما أن علاقات الإنتاج فيه لم تتغير بشكل شبه ملحوظ إلا مع الثورات التحررية الوطنية في منتصف القرن العشرين، ومع الثبات النسبي لعلاقات الإنتاج طوال القرن التاسع عشر، حتى منتصف القرن العشرين، كان شكل العمود الشعري التقليدي هو الإطار المنسجم مع (والناتج عن) علاقات الإنتاج التقليدية القديمة.
ثالثا: إن دخول تعديلات على الشعر العربي (الشعر العربي بالذات) مسألة صعبة وشاقة، نظرا إلى أنه "ديوان العرب"، مما يعني أنه "سجل الحياة والهوية" وعليه فإن أي تغيير فيه يعد تغييرا للحياة والهوية. ونظرا إلى أن ثباته طوال خمسة عشر قرنا أضفى عليه هالة من الجلال والسكون والرسوخ، ونظرا إلى أن الشعر العربي اكتسب مسحة خفيفة من القداسة التي اكتسبتها اللغة العربية بوصفها لغة القرآن، غدا كل مساس بلغة الشعر أقرب ما يكون إلى المساس بالدين وبالمقدس.
رابعا: يقول مفكرو الاجتماع الثقافي: إن النهضة العربية الحديثة - في القرنين الفائتين - كانت نهضة مشوهة منقوصة، لأنها نشأت في حضن الإقطاع من ناحية، وفي حضن الاستعمار من ناحية أخرى، ومن ثم لم تكن انتقالها من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث انتقالة صافية كاملة جذرية ناجزة (كما حدث مع الثورات البورجوازية الغربية). لهذا، كانت الخطوات النهضوية قليلة جزئية بطيئة متدرجة، وعلى هذا النمط، كانت خطوات التحول الشعري قليلة جزئية بطيئة متدرجة، حتى كانت النقلة الكبيرة مع حركة الشعر الحر، إذ ألقى النشوء المشوه المنقوص للنهضة بظله على حراك الشعر.
خامسا: ومع ذلك، وعلى الرغم من الثبات النسبي لنمط الإنتاج القديم وعلاقاته حتى منتصف القرن العشرين، لم تخل هذه الفترة من تململات وتذبذبات بسيطة داخل الإطار القديم، انعكست على الشعر في تململات وتذبذبات بسيطة، من مثل التنوع الذي شهده شعر الأندلس، ومن مثل أنماط شعرية جديدة، كالدوبيت والمخمسات، والبند العراقي والكونكان والموشح، والمقطعات والرباعيات، وغير ذلك من أساليب لم تكن معروفة في السياق العمودي القديم.
إن أبرز تجليين لهذه التململات والتذبذبات التي اعتورت النظام الشعري القديم هما - عندي - تجربة "شعر النثر"، عند المتصوفة، وتجربة "البديع الشكلي" في العصور المملوكية.
فقد كانت تجربة شعر النثر عند المتصوفين الإسلاميين (وهي التي أعتبرها شعرا من الشعر)، خروجا على المنظومة الأخلاقية للفلسفة العربية، وخروجا على النظام الجمالي والبلاغي واللغوي العربي. وقد ربط بعض علماء الاجتماع الثقافي المستنيرين وبعض المفكرين التقدميين مثل حسين مروة والطيب تيزيني وجلال فاروق الشريف، بين التجربة الصوفية العربية "بانشقاقها الفلسفي والأخلاقي والجمالي"، وبين بعض الظواهر الرأسمالية الجنينية في رحم النظام العربي التقليدي في العصور الوسيطة.
وفي زعمي أن هذه التجربة الصوفية الانشقاقية كان لها حضور باذخ في حركة الشعر الحر، استلهاما لقيمها اللغوية، واستحضارا "لإشراقها" الروحي، واستفادة من فيوضها الجمالية الكاسرة. وهو ما تجلى عند الكثيرين من رواد حركة الشعر الحر، مثل أدونيس وأنسي الحاج ومحمد عفيفي مطر. كما تجلى عند جيل الحداثة التالي للرواد (مما يسمى جيل السبعينيات)، مثل قاسم حداد وأمجد ناصر، وعبده وازن (الذي حقق ونشر ديوان الحلاج)، وأحمد طه وفريد أبو سعدة ومحمد أبو دومة.
لنقرأ نص أدونيس عن "النِّفَّري":
"ساوتني شمسي بالأشجار
وبالأنهار
وبالبؤساء/ سلوها
كيف نفتني
نشرتني في الطرقات وفي لهجات الغربة
حرفا حرفا
لا تسلوها
أسلمت لتيه الشمس خطاي
رضيتُ لوجهيَ هذا المنفى".
text-align: right; margin: 0cm 0cm 0pt; unicode-bidi: embed; direction: rtl; mso-margin-top-alt: auto; mso-margin