جذور عداء السلفيين للصوفيين
الأهالي : 08 - 09 - 2011
لماذا يكره السلفيون الصوفيين؟
سؤال قديم، جديد، متجدد، طرحته علي الحياة الفكرية والسياسية المصرية والعربية الراهنة، النزاعات والصدامات التي اندلعت في حياتنا المصرية بعد ثورة 25 يناير 2011، حينما انقض السلفيون «الذين أطلقتهم الثورة من السجون» علي مقامات وأضرحة الصوفيين في أكثر من قرية ومدينة مصرية بالهجوم
والهدم، بدعوي أن هذه الأضرحة والمقامات مخالفة لصحيح الإسلام، ثم حينما بدأ الصوفيون يدخلون الحياة السياسية رويدا رويدا بعدما انعزلوا أو عزلوا أنفسهم سنوات طويلة، فراحوا يقتربون أو يتحالفون مع التيارات الليبرالية والمدنية لمواجهة دعاة الدولة الدينية من الإسلاميين المتشددين، وهنا قاد السلفيون هجوما كاسحا علي هؤلاء الصوفيين متهمين إياهم بالانتهازية وتأجيج الطائفية والخروج عن جادة الدين من أجل مكاسب سياسية عابرة.
ولأن لهذه الكراهية جذورا تاريخية قديمة، فلابد أن نعود للوراء قليلا لنتحري أسباب هذه الكراهية من السلفيين للصوفيين، عبر التاريخ الإسلامي، في هذا التحري سنجد تسعة أسباب لهذه الكراهية القديمة المتجددة..
الأول: أن الفلسفة الصوفية، منذ بدايات القرن الهجري «عبر أقطابها الكبار مثل: الجنيد والحلاج والنفري وجلال الدين الرومي وابن الفارض والبسطامي وفريد الدين العطار وعبدالكريم الجبلي وغيرهم» كانت ضارة بمصالح السلفيين، ذلك أن نزعة الاتحاد مع الله أو الحلول فيه أو الفيض الإشراقي الداخلي كانت تضرب في السويداء فكرة ضرورة الفقيه كوسيط بين العبد والرب، أو كوكيل لله علي الأرض، أو كهمزة الوصل بين المؤمنين والإله، ونحن نعلم أن هؤلاء الشيوخ الفقهاء الوسطاء كانوا يتكسبون من «وظيفة» الوكالة أو الوساطة هذه، مكاسب أدبية ومادية هائلة تدعم تسلطهم المعنوي والاجتماعي علي العباد.
أصول تاريخية
إن الصوفيين الذين قال قائلهم «الحلاج»: «أنا من أهوي ومن أهوي أنا» قد كرسوا الصلة المباشرة بين المسلم وربه، بما يهدد وجود «طبقة» كبيرة هي طبقة الواقفين المستفيدين المستثمرين في هذه المسافة بين المسلم وربه.
الثاني: أن الصوفيين يحررون الخيال والمجاز واللغة، ويطلقون اللاوعي والذوق وفيض الحس، علي عكس السلفيين الذين يقيدون الخيال ويضعون للوعي حدودا جغرافية صارمة، فلقد تجاوز الصوفيون النظريتين المعرفيتين السابقتين، نظرية النقل ونظرية العقل، مبتدعين نظرية جديدة هي «المعرفة بالحدس»، بما تنطوي عليه هذه النظرية من «وقفة» روحية و«كشوف» وجدانية، وما تقتضيه من «شطح» وخروق، كانت نظرية المعرفة بالحدس، نقيضا لنظرية المعرفة بالنقل، التي اتبعها السلفيون والتقليديون الماضيون، الذين يرون أن الصلاح والكمال قد تما في السابق مرة وللأبد، وأن الفقيه المقلد للماضي هو مالك خزائن العلم والصواب، وأن «كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، والهدف هو أن يلزم الناس حدود ما قيل وما سبق، ولا يتعدوه إلي الاختلاف أو التجديد أو الابتكار، وجلي أن وضع «الاتباع» هذا، وضع يخدم مصلحة الشيوخ والفقهاء من محتكري الدين أو الأوصياء علي الإيمان السليم، فيما وضع «الإبداع» ضار، مناقض، خطر.
الثالث: أن الصوفيين يتجهون إلي «الباطن» لا إلي «الظاهر»، وينظرون إلي «الداخل» لا إلي «الخارج»، ولذا لم يولوا كبير اهتمام للشعائر والإجراءات والطقوس الخارجية، مثل الصلاة والحج وغيرهما من «مظاهر»، وهو ما كان يدفعهم أحيانا إلي موقع يبدون فيه مخالفين للشريعة الظاهرة، متناقضين مع أهل الفقه النقلي السلفي، علي نحو يجعل هؤلاء الأخيرين يتهمونهم بالكفر والزندقة والانحراف عن جادة الدين القويم، لاسيما إذا ارتبط هذا الاتجاه إلي «الباطن» عند الصوفيين بنزعة تداخل الأديان عندهم، كما يتضح من قول عبدالكريم الجيلي: «فطورا تراني في المساجد راكعا/ وطورا تراني في الكنائس راتعا/ إن كنت في حكم الشريعة عاصيا/ سأكون في حكم الحقيقة طائعا»، فهم، إذن، يقدمون الحقيقة الداخلية علي الشريعة الخارجية، ومثلما دعا العقلانيون الإسلاميون «كابن رشد» إلي تقديم العقل علي ظاهر الشرع عند التعارض، فإن الصوفيين دعوا إلي تقديم «إشراق الروح» الجوهرية علي ظاهر الإجراءات والطقوس والشعائر البرانية، وكلا «التقديمين» مكروه عند أهل النقل.
الغزل الألهي والأنثوي
الرابع: أن الصوفيين أعطوا «الأنوثة» موقعا مركزيا في فكرهم الفلسفي وفي المجمع والكون، علي عكس السلفيين الذين وضعوا «الذكورة» في قمة هرم التراتب في الفكر والكون والمجتمع، كانت جملة محيي الدين بن عربي «كل مكان لا يؤنث، لا يعول عليه» المحور الأساسي في الفكر الصوفي الذي انطلقت منه نزعة رفض «سيادة الذكورة» في ثقافة الفقه الإسلامي التقليدي، كما تجسدت هذه النزعة شعرا حينما توجهت معظم الأشعار الصوفية المبتهلة لله إلي مخاطبة الأنثي، لتصير مزيجا من الغزل الإلهي والغزل الأنثوي، علي غرار ما نري في قول بن الفارض: «إن قلت عندي فيك كل صبابة/ قال الملاحة لي، وكل الحسن في/ يا ما أميلح كل ما يرضي به/ ورضا به يا ما أحيلاه بغي».
الخامس: أن الصوفيين يؤمنون بوحدة الأديان، وتماثلها، وعلي الرغم من أنهم إسلاميون، فإنهم لم يميزوا دينا علي دين، فالرب عندهم واحد، والرسالة عندهم واحدة، يتضح هذا التوجه عند بن عربي والحلاج والجيلي والبسطامي، لكنه يسطع بجلاء في قول جلال الدين الرومي: «أيها المشهد المتألق لا تنأ عني، انظر إلي العمامة أحكمتها فوق رأسي، بل انظر إلي زنّار زرادشت حول خصري، أحمل الزنار وأحمل المخلاة، بل أحمل النور، فلا تنأ عني، مسلم أنا، ولكني نصراني وبرهمي وزرادشتي، فلا تنأ عني، ليس لي سوي معبد واحد، مسجدا كان أو كنيسة أو بيت أصنام، ووجهك الكريمي فيه غاية نعمتي، فلا تنأ عني».
هذا الإيمان بتماثل الأديان بلا تمييز أو أفضلية، كان «قديما وحديثا» مناقضا لرؤية النقليين السلفيين الذين يرون أن كل دين آخر هو ناقص، وكل أمة أخري هي أدني، والحق أن إيمان الصوفيين بالمساواة بين الأديان كان يمنحهم علي الدوام مسحة من التسامح وقبول الآخر واحترام التعدد، وغير ذلك من مفاهيم «مدنية» حديثة، تبعدهم عن العرقية والتعصب والإقصاء الذي يتبناه السلفيون.
السادس: هو أن الصوفيين، كما أشيع، كانت لهم صلات بالشيعة والفكر الشيعي، وليس من ريب في أن أهل النقل من السنة السلفيين هم أصحاب ترويج هذه الشائعة، وعلي رغم أن الفكر الشيعي هو جزء لا يتجزأ من الفكر الإسلامي، فإن التيار السلفي الإسلامي نجح في تصوير الاتجاه الشيعي بوصفه فكرا منكرا مشبوها، ألصق بكبار فلاسفة الصوفية مثل الحلاج والسهروردي والرومي وبن عربي وغيرهم، وقد تعرض الباحث مصطفي كامل الشيبي لهذه الصلة التحتية الملتبسة في كتابه القيم «الصلة بين التصوف والتشيع».
الفكر الشيعي
وقد وصل السجال بين التيارين الكبيرين «السنة إذ يمثلون الموالاة، والشيعة إذ يمثلون المعارضة» إلي محطات دامية مؤسفة في التاريخ العربي الإسلامي، بدءا بالفتنة الكبري في القرن الهجري الأول، مرورا بعصر الأمين والمأمون وصولا إلي المذابح التي وقعت في العراق مؤخرا «بعد دخول الجيش الأمريكي»، ووصولا إلي أن يصدر الأزهر بمصر في السنوات الأخيرة فتاوي وبيانات تحرم الفكر الشيعي، وتجرم الدعوة الشيعية في بلد سني، وتمنع وجود كتب الشيعة في الأسواق المصرية، علي رغم أن الأزهر نفسه بناه الفاطميون ليكون منارة للفكر الشيعي بمصر، قبل أن يحوله سلاطين الدولة الأيوبية إلي قلعة سنية تسعي إلي نشر الفكر الوسطي المعتدل «المتشدد مع الشيعة»!
السابع: أن الصوفيين، وهم ينطلقون من قاعدة وحدة الأديان وتماثلها، قد ربطوا ذلك بانفتاحهم علي الثقافات الأخري غير الإسلامية وغير العربية، فنحن نري في ثقافة المتصوفة وفي أصول رؤاهم الفلسفية جذورا فارسية وهندية وزرادشتية ويونانية وغيرها من ثقافات حية محيطة، وهم في ذلك مناقضون للفكر السلفي التقليدي الذي ينزه الثقافة العربية الإسلامية تنزيها عرقيا عنصريا مفرطا، يري في الانفتاح علي الثقافات الأخري «شعوبية» مارقة، وعداء لقريش.
وفي حين كان الصوفيون، في قاعدة تنوع الثقافات، يتماسون مع الفكر الإسلامي العقلاني، عند ابن رشد الذي دعا إلي الاحتكاك بالثقافات الأجنبية وعند محمد عبده الذي دعا إلي أن نأخذ من الغرب ما يعين نهضتنا، انطلاقا من وحدة الثقافة البشرية، بل عند الرسول الكريم نفسه الذي دعانا إلي أن نطلب العلم ولو في الصين، في الوقت ذاته كان النقليون السلفيون يرفعون راية «الانغلاق علي الذات»: الذات العقلية، والذات الثقافية، والذات الدينية، ويعادون «الانفتاح علي الآخر» باعتباره هجوما علي الذات المكتفية المصونة.
مأساة الحلاج
الثامن: أن الصوفيين، علي الرغم من انعزالهم عن مجريات الحياة السيارة، كانت لهم في العصور السابقة صلات بالحركات الاجتماعية الاحتجاجية المناوئة للنظام السياسي «كثورة الزنج وحركة القرامطة» وببعض التيارات الفكرية غير المرضي عنها مثل الشيعة والمعتزلة، ولقد كانت صلة الحلاج بهذه الحركات السياسية في القرن الرابع الهجري محورا رئيسيا أقام عليه الشاعر المصري صلاح عبدالصبور معالجته لقصة هذا المتصوف الكبير في مسرحية «مأساة الحلاج»، إذ صور محنة الرجل مع الاستبداد السياسي والاستبداد باسم الدين، وهي المحنة التي انتهت بصلبه.
وواضح أن الصوفيين الحاليين يحاولون أن يعيدوا هذه السيرة، لاسيما بعد ثورة 25 يناير، حيث كونوا أحزابا سياسية، وسعوا إلي إقامة تحالفات جبهوية مع أحزاب ليبرالية ومدنية، وأن هذه الصلة مع الحركات السياسية المناوئة كانت تضع الصوفيين في موقع «المعارضة»، بينما كانت التيارات السلفية تتخندق في موقع «الموالاة» التي تبرر للسلطة الجائرة طغيانها تبريرا شرعيا، محرِّمة «الخروج علي الحاكم» حتي لو كان ظالما.
التاسع: أن الصوفيين بسامون، يحبون الغناء والرقص، حتي شكلوا من الغناء والرقص حضرات الذكر، وانبثقت من فلسفة المتصوف الشهير جلال الدين الرومي رقصة أو طقس غنائي راقص، هو «المولوية» الذي صار معروفا في البلاد الإسلامية، وبينما كان - ومازال - السلفيون ينكرون الرقص والغناء والموسيقي ويعتبرون كل ذلك محرما شرعا، نجد جلال الدين الرومي يتغزل في «الناي» بنص جميل يقول: «أنصت إلي الناي، كيف يقص حكايته، إنه يشكو ألم الفراق، إنني منذ قطعت من منبت الغابات والناس: رجالا ونساء، يبكون لبكائي، إنني أنشد صدرا مزقه الفراق، حتي أشرح له ألم الشوق، فكل إنسان أقام بعيدا عن أصله، يظل يبحث عن زمان الوصل»، وهي الفكرة التي تتجاوب مع قولة أبي حيان التوحيدي الباهرة: «من سمع الغناء علي حقيقته مات».
وقد وصلت شجاعة المجاز عند الصوفيين إلي أن استخدوا التعبير عن معاقرة الخمر كنوع من الرمز إلي الوصل مع الله، ومع الشطحات الإيمانية، حيث لا يكون الخمر خمرا ولا الكئوس كئوسا ولا السكر سكرا واقعيا فعليا، بل هو خمر الترنح بهوي المحبوب، وكئوس النهل من محبة الذات العليا، وسكر التطوح بالمواجيد الربانية علي نحو ما يتجلي في قول السهروردي: «ولما حضرنا للشراب بمجلس/ وخف من عالم الغيب أسرار/ ودارت علينا للمعارف قهوة «القهوة الخمر عند العرب»/ يطوف بها من جوهر العقل خمار/ تكاشفنا حتي رأيناه جهرة/ بأبصار صدق لا تواريه أستار»، إن كل هذه الرموز الحسية الملموسية والمجازات الشجاعة الجريئة يكرهها السلفيون الذين يتعاملون مع الألفاظ حسب معانيها الحرفية الظاهرة، بدون سعة في التأويل أو ثراء في الدلالة، علي الرغم من أن النفري قال لهم ولنا مبكرا: «الحرف لا يخبر عن نفسه، فكيف يخبر عني؟»
الخضوع لكل سلطة
هذه هي الأسباب التسعة التي أعتقد أنها وراء كراهية السلفيين للصوفيين، منذ العصور السابقة حتي اللحظة الحاضرة، ولست بذلك أجزم بأن السلفيين كانوا، دائما، بصورة مطلقة، خانعين موالين لكل نظام سياسي متسلط، فبعض هذه الجماعات السلفية تحولت إلي تشكيلات جهادية مسلحة تسعي إلي تحرير دار الإسلام من الجاهلية والشر «بغض النظر عن اتفاقنا مع هذا النهج أو اختلافنا»، كما لست أجزم بأن الصوفيين كانوا دائما ثوريين أو معارضين أو مبدعين، فمنهم تيارات انعزلت عن الحياة الجارية انعزالا سلبيا واستغرقت في «دروشة» غيبية هائمة.
علي أن الحقيقة الثابتة هي أن وجود الصوفيين «في القديم والحديث» كان يمثل لونا من الإدانة أو الفضح للسلفيين، من حيث إن الفكرة الصوفية إلغاء لوظيفة الوسيط بين العبد والرب، التي يتعيش عليها السلفيون، ومن حيث إن مبدأ التسامح بين الأديان والثقافات عند الصوفيين نقيض للنزعة العرقية العنصرية التمييزية عند السلفيين، ومن حيث إن الموقف المناوئ السياسي للصوفيين يكشف الموقف المتهادن للسلفيين، ولكل ذلك، فإن التناقض بينهما هو تناقض قديم يتجدد، تناقض طرفاه: السعة والسماحة والمدنية من جهة، والضيق والتعصب والماضوية من جهة ثانية.