النظام السياسي صانع الفتنة
الأهالي : 12 - 01 - 2011
ربما تكون هناك مؤامرة خارجية في الجريمة البشعة التي تمت في كنيسة القديسين بالإسكندرية، لكن المؤكد أن الاحتقان الطائفي ظاهرة لا يمكن إنكارها طوال العقود الأربعة «منذ بداية السبعينيات». وعندي أن النظام السياسي هو المسئول الأول والأكبر عن هذا الاحتقان.
فهذا النظام السياسي هو الذي صنع «التمييز ضد الأقباط»، منذ أوائل السبعينات، حينما راح أنور السادات يعلن في خطبه «أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة». ويتجلي «التمييز ضد الأقباط» الذي يصنعه ويرسخه النظام السياسي في خمسة مجالات أساسية:
الأول: هو الدستور نفسه، إذ ينص في مادته الثانية علي أن «الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع». إن هذا النص يعني أن الأقباط مواطنون من الدرجة الثانية، وأن وضعهم غير دستوري وغير شرعي.. وكان ما يقرب من مائتي مثقف مصري قد نشروا بيانا، عام 2005 أثناء بعض التعديلات الدستورية السابقة لانتخابات رئاسة الجمهورية، يطالبون فيه بتعديل هذه المادة الثانية لتنص علي «أن الأديان السماوية جميعا، مع وثائق حقوق الإنسان العالمية هي المصدر الرئيسي للتشريع». لكن السلطة السياسية والتشريعية تجاهلت هذا البيان المهم، فراح كصرخة في واد، بلا مجيب.
الثاني: قوانين بناء الكنائس، التي تجعل بناء كنيسة يتطلب تصريحا من رئيس الجمهورية نفسه، وفي السنوات الأخيرة صار المحافظون مفوضين من رئيس الجمهورية بالتصريح، وهم يصنعون العراقيل العديدة، بينما بناء المساجد والزوايا «مفتوح بغير قيود»، بل إن كل عمارة جديدة صارت تعفي من الضرائب إذا بني صاحبها مسجدا أو زاوية أسفل العمارة.
وإذا علمنا أن تقرير جمال العطيفي في منتصف السبعينيات أوصي بإصدار قانون موحد لدور العبادة «المساجد والكنائس»، بدون تمييز، وظلت توصيات التقرير حبيسة الأدراج حتي اللحظة، نتأكد أن السلطة السياسية لا تريد لهذا القانون أن ينجز.. وإذا سمعنا ردود صفوت الشريف ومفيد شهاب علي رفعت السعيد في مجلس الشوري حينما قالا إنه لا حاجة لهذا القانون لأن عدد الكنائس التي بنيت في عهد مبارك يفوق عدد ما بني من كنائس طوال التاريخ، وأن حادثة كنيسة القديسين إرهابية خارجية وليست طائفية، إذا سمعنا هذه الردود الزائفة أدركنا أنه لا نية عند هذا النظام السياسي لإلغاء التمييز بين المسلمين والمسيحيين في بناء دور العبادة.
الثالث: وزارة التربية والتعليم التي تدرس الدين الإسلامي لكل التلاميذ، بمن فيهم المسيحيون، والتي تقدم كل شواهد تدريس النحو من جمل إسلامية وقرآنية، والتي عرفنا أن بعض مدارسها ألغت نشيد الصباح وأحلت محله أناشيد دينية!.. أما مناهج التاريخ في وزارة التربية والتعليم فهي تتجاهل الحقبة المسيحية من التاريخ المصري، وكأنها لم تكن، وفي هذا: تزييف للتاريخ من جهة، وإهاجة لمشاعر المسيحيين الذين يرون في هذا التجاهل- بحق - نوعا من «حذف» المسيحيين من التاريخ و«اقصائهم» من «سجل » الحياة المصرية.
الرابع: وزارة الأوقاف، التي تعرف أن الغالبية العظمي من خطباء المساجد الذين تعينهم يقولون في خطبهم أن المسيحيين مشركون وكفرة، وأنه لا يجوز للمسلم أن يلقي عليهم تحية الإسلام «السلام عليكم»، ولا يحل لمسلم أن يهنأهم بأعيادهم، وعلي المسلم أن يتجنبهم إذا قابلهم في الطريق.. وقد استمعت بنفسي إلي مثل هذه الخطب من عمر عبدالكافي في مسجد أسد بن الفرات بالدقي، وفي أكثر من مسجد، كان آخرها مسجد قرب بيتي بفيصل يوم الجمعة 31 ديسمبر الماضي، أي في منتصف النهار الذي انتهي بكارثة كنيسة القديسين.
ولا شك أن وزارة الأوقاف، ووزيرها د. محمود زقزوق، الذي يصفه الكثيرون بالاعتدال والتعقل، يعرفان ما يقوله هؤلاء الخطباء مروجو التمييز والفتنة، وتلك مصيبة، وإذا كانا لا يعرفان فالمصيبة أعظم.
الخامس: الإجراءات الإدارية، التي هي خليط من القانون والعرف والاتجاه، والتي تمنع وصول المسيحيين إلي العديد من المناصب العليا والحساسة، بما يعني عدم الثقة في «وطنية» المسيحيين أو الشك في نواياهم، مما يخلف لديهم إحساسا حقيقيا بالقهر والظلم وعدم المساواة، وبأن الحديث المكرر في الخطاب الرسمي عن المساواة أمام القانون، وعن المواطنة، وعن عدم التمييز بسبب اللون أو الجنس أو الدين، حديث باطل ووهمي وكاذب.
هذه، إذن، دولة تصنع التمييز الديني بيديها، وتصنع الاحتقان الطائفي بفعل فاعل: تنص في الدستور علي مادة المواطنة، لكنها تنفيها بمادة الشريعة الإسلامية.
تنص في إحدي المواد علي حرية الاعتقاد، لكنها تنفيها باضطهاد وتعذيب المتحولين من المسلمين إلي المسيحية.
وتنص في إحدي المواد علي حرية ممارسة الشعائر الدينية لكنها تنفيها بقانون منع بناء الكنائس، وإذا بنيت بعد التعقيدات كنيسة لابد أن يسارع المسلمون ببناء مسجد لصقها، كنوع من التشويش أو التضييق أو النكاية!
حكي الدكتور رءوف عباس في كتابه «خطي مشيناها» أن وزارة التعليم طلبت منه، في سنة من السنوات، ترشيح أستاذين من أساتذة التاريخ، ليضعا امتحانات الثانوية العامة في التاريخ، فرشح الدكتورين: عاصم الدسوقي ويونان لبيب رزق، فطلبت الوزارة مهلة لاستشارة الأمن، وعادت الوزارة تقول له إن «الأمن» رفض الترشيحين، والسبب عند الأمن، أن الأول «الدسوقي» شيوعي، والثاني «يونان» مسيحي.
إن هذه الواقعة تعني أن شعار «المواطنة» حبر علي ورق، وأن عدم التمييز بسبب اللون أو الدين أو الفكر حبر علي ورق، وأن شعار «الكفاءة هي المعيار» حبر علي ورق.
كذلك فإن عديدا من رجال الدين الرسميين «ممن يسمون معتدلين أو تابعين للأزهر الوسطي» يقررون دائما أن «الإسلام وطن»، أي أن الانتماء الديني يسبق الانتماء الوطني، حتي يصبح الدين هوية أو جنسية، وهي دعوة تعني أن «وطنية» المسيحيين «مشكوك» فيها، وأن المسلم الأفغانستاني أقرب إلي المسلم المصري من المسيحي المصري!
يتصل بذلك أن كثيرا من رجال المؤسسة الدينية الرسمية «الأزهر» المسماة بالمعتدلة أو الوسطية، يفتون دائما بعدم جواز تولي المسيحي الولاية العظمي «رياسة الجمهورية»، وهو ما يعني أن المسيحي المصري مطعون علي جدارته وفي ولائه الوطني، وفي أمانته، وفي أهليته.
يتأكد لنا، بهذه الحالات وبغيرها الكثير مما تضيق المساحة عن ذكره، أن الدولة، أو النظام السياسي الحاكم هو باذر الفتنة وزارع التمييز وصانع الاحتقان، بدستوره، وبقوانينه، وبإجراءاته، وبعرفه، وبوزارة تعليمه، وبوزارة إعلامه، وبوزارة أوقافه، وبأزهره، وبدار فتواه. وما لم يسارع النظام السياسي بتنقية كل هذه البؤر من الفتنة والتمييز، ستظل المشكلة تتفاقم بين فينة وأخري، وسنظل نزور ونقول «مؤامرة خارجية»، وسنظل ندفن رءوسنا في الرمال ونحن نتغني بنشيد يقول «عاش الهلال مع الصليب» بدون واقع حقيقي يؤكد هذا العيش، وسنظل نتبادل «القبل التليفزيونية» بين المسلمين والمسيحيين الرسميين، بينما النار مشتعلة في البيت كله.