<!--
<!--<!--
جناح العدالة .. والحلم المفقود
جناح العدالة متتالية قصصية ، أو مقطوعة سيمفونية ترتكز على نغمة رئيسية تتخللها نغمات تعلو وتنخفض ، تعلو حتى تصل لحد الصراخ ، وتنخفض حتى تصل لحد الهمس .. تصور صراعاً أبدياً بين ثنائيات الكون الأزلية ، بين الخير والشر/ العدل والظلم ..
وأشرف عكاشة عازف هذه المتتالية واحد من رجال هذا الوطن المنتشرين مثل العشب بتعبير كازانتزاكيس ، يكتب دون أن يثير ضجيجاً حول نفسه فيأتى ابداعه صادقاً رائقاً مثل مياه النيل قبل أن تتعكر وهو من الكتاب الذين استوعبوا التراث جيداً وحملوه بين جوانحهم وأجادوا توظيفه فى ابداعاتهم ، وهو ما يبدو واضحاً فى مجموعته " من فيض التجليات " وكذلك فى " من وجع الكلام " حيث وظف التراث الصوفى والدينى ( القصص القرآنى ) بشكل جيد ..
أما فى مجموعته التى بين أيدينا الآن " جناح العدالة " فقد اعتمد على تراث مصر القديمة أو ما نطلق علية التراث الفرعونى ، وحدد بشكل دقيق حيزه الجغرافى فى المتتالية بقرية " شدها القدر إلى أبراج ثلاثة يحوطونها والنيل رابعهم: تلك المسلة الشامخة بين أنقاض المعبد القديم أول هذه الأبراج، بينما أجراس الكنيسة الصامتة إلا قليلا من الجهة الأخري ترقب القرية وما يجري في وجل، ومئذنة المسجد الكبير وقد تقشر طلاؤها من أثر طلقات نيران الشرطة وأدخنة نار التشدد، و رابعهم النيل يحمل الأحزان، ويغسل أدرانها ويجري مفارقاً "، وهذا التحديد له دلالته فهو يجمع بين الثقافات المصرية القديمة والقبطية والإسلامية ونهر النيل واهب الحياة فى هذا المكان ، وله دلالته فى التلاحم بين الرموز الدينية من خلال الشخصيات التى سنقابلها فى أحداث الرواية أو المتتالية ، وكذلك له دلالته فى شكل الصراع بإشارته لصمت أجراس الكنائس وإصابة مأذنة المسجد بنيران الشرطة ونار التشدد ..
من كل هذه العناصر ينطلق أشرف عكاشة ناحتاً ألفاظه وصوره وتعبيراته ليسقطها على أحداث معاصرة من خلال مزج ناعم بين الواقع والأسطورة متوسلاً بـ " الحلم " المتعدد المستويات ، على المستوى الشخصى التخلص من زوجة الأب الظالمة ، وعلى المستوى العام الحلم بتحقيق العدل ، وهو ما يتطلب القوة ، ومن ثم فقد لجأ إلى الأسطورة المصرية القديمة " إيزيس وأوزوريس " بما تتضمنه من قيم الوفاء والعدالة والانتقام من الغاصب للحق ..
فى المتتالية الأولى يصور زوجة الأب القاسية للصبى فارس كما هو معروف عنها فى الحكاية الشعبية وهى بداية شعوره بالظلم – الاجتماعى والنفسى – فهى المغتصبة لعرش الأم ، الأم التى علمته الحب المطلق حتى لم يعد فى قلبه مكان للكراهية فى إشارة ضمنية للأم " إيزيس " تمهيداً للقيام بدور" حورس " المنتقم والمحقق للعدالة فى الأرض التى ملئت ظلماً وجوراً.. " الظلم محرم على من ذاقه ، ونجدة المظلوم فرض على من ملك القدرة ، فكن جناح العدالة وعينها التى لا تغفل عن الحق " هكذا صاح الصقر حورس بالصبى الصغير الذى تذوق وعرف معنى الظلم ، ومن هنا يبدأ الصقر فى تحقيق العدالة بادئاً بزوجة الأب الخائنة ثم يواصل الرحلة متجاوزاً الزمن لنجدة كل مظلوم بعد أن حصل على قلادة حورس السحرية والتى تعبر عن " القدرة " أو القوة المساندة للحق ..
"يحلق فارس بطول البلاد وعرضها، روحه أعيتها سياط الظلم الموغل في كل الأركان، عناكب القهر تشد وثاق الوطن "، وخلال رحلة الصقر/ فارس فى المتتاليات التالية للبحث عن المظلومين لإنصافهم يتعرض الكاتب لكل مظاهر الفساد التى كانت سائدة فى البلاد ، ابتداءاً بحادث العبارة السلام التى راح ضحيتها آلاف من الفقراء دون حساب لأحد من الذين تسببوا فيه ، وحادث قطار الصعيد الذى راح ضحيته المئات أيضاً وانتهاءاً بحادث كنيسة القديسين بالاسكندرية عشية عيد الميلاد المجيد ومروراً بعصابات الإتجار فى الأعضاء البشرية والقطع الأثرية من كبار المسئولين ونواب البرلمان وحتى ذلك الحيوان الغريب الذى عرفناه باسم " السلعوة " يوماً ما وأثار الذعر فى كثير من المدن ، ولم ينس حادث الهجوم الإرهابى على السياح بالأقصر- وهو ما أشار إليه فى البداية – كل هذه الأحداث التى جعلت المصور الصحفى يقول بعد أن اكتشف جزء من حقيقة ما يجرى " البلد مش بلدنا ولا إيه ؟ سلاح ومخددرات وآثار ووشوش الكل فيها مغشوش ، اللى يدافع عن الكرامة قدام الكاميرات وهو بيمص دمهم زى ديب مسعور ، واللى سبحته بتجر وراه وهو مش سايب ذنب إلاّ وغرق فيه .." وبعين الصقر كان يكشف الحقائق ويحدد الجناة الحقيقيين ومن ثم ينتقم منهم شر انتقام ..
وكما ذكرنا فى البداية نجد هناك نغمات رقيقة لحد الهمس فى علاقة فارس بحبيبته قمر " التى تتهادي في خطوات متناغمة إلى سطح البيت، تحمل في يدها كتابا، يراود ضوء القمر ورد خديها عن لؤلؤ العبرات التي انسالت عليهما " وقمر تعمل صحفية تجرى وراء الحقيقة بقلمها لكن الظروف القاهرة تمنعهما من الارتباط ، وكذلك فى ذلك المشهد الانسانى داخل الكنيسة عقب تفجيرها بينه وبين الفتاة التى أنقذها من الموت ثم التقى بها ثانية فى ميدان التحرير إبان ثورة الشعب فى الخامس والعشرين من يناير والتى ينهى بها المشهد باعتبارها معادلاً موضوعياً للقوة السحرية المتمثلة فى قلادة حورس إله الانتقام ، وينتفض الصبى فزعاً على صوت رصاص ليوقظنا من حلمه / حلمنا على واقع مرير لم تفلح حتى الأسطورة فى تجميله أو فى تحقيق العدل المفقود ..
نشر فى جريدة مسرحنا
العدد 347 بتاريخ 10 /3 /2014
ساحة النقاش