آفــــــــــــــاق

الموقع خاص بالكاتب ويتضمن إنتاجه الأدبى المنشور

<!--

<!--<!--

حكاية أمنا الغولة

الغــول فى الحـكاية الشعبية


الغـول واحد من تلك الكائنات التى ابتدعها خيال الانسان دون أن يكون لها وجود حقيقى فى حياته   لكنه تخيلها من واقع تصوره لحالة غير مفهومة من حالات الطبيعة أو ظاهرة من ظواهرها وهى ظاهرة الظلام التى تبعث فيه شعوراً بالخوف من المجهول ..

ولأن هذا الكائن مرتبط بظاهرة الظلام – المعادل النفسى للمجهول – فقد حاول الانسان مقاومتها بأشكال مختلفة كان من أهمها حرصه على اشعال النار فى الليل لتبديده – ولو جزئياً – والتجمع للسمر والحكى تبديداً للوحشة ، ولكن بعد أن استقر فى باطنه الخوف منه ، ودفعه هذا الشعور إلى تجسيد خوفه فى صورة كائن غير محدد المعالم منطلقاً من خيالاته وخبراته فى التعامل مع الظواهر الطبيعية التى حيرته منذ بداية اصطدامه بها ، والتى هى فى نفس الوقت شديدة الاتصال بواقعه النفسى والاجتماعى والفكرى ..

والغـول يشغل حيزاً ليس بالهين فى ثنايا العقل الباطن للإنسان ، بدليل تواجده بكثافة فى حكاياته الليلية التى هى فى نفس الوقت تعبير عن مخزونه الثقافى ، ورؤيته الفلسفية للحياة ، وصورة لآماله وطموحاته وآلامه  واستشراف لمستقبله ..

وإذا ما ألقينا نظرة سريعة فى كتب التراث لنتعرف على الغول وما يعنيه اللفظ نجد فى كتاب الحيوان للدميرى مثلاً أن الغول ( بالضم ) أحد الغيلان ، وهو جنس من الجن والشياطين وهم سحرتهم ، ويقول الجوهرى : هو من السعالى والجمع أغوال وغيلان ، وكل ما اغتال الإنسان فأهلكه فهو غـول ..

وقال قـوم : الغـول ساحرة الجن وهى تتصور فى صور شتّى ، وزعم العرب أنه إذا انفرد الرجل فى الصحراء ظهرت له فى خلقة الإنسان فلا يزال يتبعها حتى يضل عن الطريق ، فتدنو منه وتتمثل له فى صور مختلفة فتهلكه روعاً ، وقالوا : وخلقتها خلقة انسان ورجلاها رجلا حمار ..

والتغـول يعنى التلون ، ويقال " تغـولت المرأة إذا تلونت .." والذى ذهب إليه المحققون أن الغـول شيئ يُخوّف به ولا وجود له ، فالشاعر يقول :

            الغـول والخـل والعنقاء ثالثة                    أسماء أشياء لم توجد ولم تكن

والغـول الذى تعرفه الحكاية الشعبية يجمع كل هذه الصفات والخصائص التى طالعناها فى كتب التراث بالفعل ، فهو يظهر فى صورة الإنسان ويتكلم مثله ، لكننا لا نستطيع أن نصنفه كإنسان ، كما لا يصلح تصنيفه كحيوان ، ولا حتى كجان لأنه يظهر بجسده ويتحاور مع الإنسان .. وكل ما يمكننا قوله أنه كائن من تلك الكائنات التى نسميها بالخرافية ..

وهذه الكائنات الخرافية تعرفها جيداً كل شعوب العالم ، ولا تختلف فيما بينها إلا بقدر اختلاف البيئة الثقافية والحضارية لكل شعب ، فالشعوب الأوربية مثلاً تؤمن بما يعرف " بمصاص الدماء " أو الكونت    "دراكيولا " وهو شبيه بالغـول كما سنرى بعد قليل ..

وعلى الرغم من اليقين بعدم الوجود الفعلى لهذا الكائن إلاّ أن الخيال الشعبى لجأ إلى ابتداعه ، كما ابتدع غيره من كائنات خرافية ( لم تكن أبداً خرافية بالنسبة له ) بعضها يدب على الأرض كالغـول ، وبعضها يطير فى السماء كالرُخ والعنقـاء ، أما فى البحر فربما حال سطح الماء بينه وبين الأعماق فلم يتمكن من تجسيد كائناته واقتصرت علاقته به على الأمواج العاتية التى تطيح بسفنه فتحطمها وتلقى بركابها على شطآن الجزر المجهولة حيث البشر غير البشر ، أو حيث توجد المدن المسحورة ، أو الحيات العملاقة وما أشبه . .

وبالطبع لم يكن ابتداع الخيال الشعبى لهذه الكائنات ضرباً من العبث أو اللاهدف ، لكنه كان تأكيداً لقيمه واتساقاً مع معتقده ، وتعبيراً عن ثقافته ، ومن هنا فقد حدد لهذه الكائنات أدوارها فى الحكاية ، كما حدد لها خصائصها الملائمة لهذه الأدوار ، وعلاقتها بشخصيات الحكايات من حيث العداء أو الصداقة ..

*  حكاية أمنا الغولة :

ومع الغـول بالذات هناك ملاحظة من الضرورى التوقف عندها وتأملها لغرابتها  ، وهى أنه –  أى الغول –  بكل ما يمثله من قبح فى الشكل ، وشر فى الطبع ، وما يثيره من خوف فى النفس ، إلاّ أنه يقترن دائماً بالأم التى تمثل أسمى المشاعر الإنسانية ، فيتكرر فى الحكايات تعبير " أمنا الغـولة " ويلقى بصيغة الجمع وكأنه يمثل الأمومة كقيمة وليس أماً محددة ، وليس أمامنا لتفسير هذه المقولة – أو محاولة تفسيرها – إلاّ الرجوع للمصادر الأسطورية البعيدة ( صورة الأم القاتلة فى مقابل صورة الأم الرحيمة ) حيث الإله الذى يأكل أولاده فور ولادتهم كما فى أسطورة الإله الإغريقى " كرونوس " خشية أن أحدهم سيعزله حسب النبوءة ، وكذلك الربة " ميديا " التى لا تتورع عن قتل أولادها انتقاماً من زوجها عندما قرر الزواج بغيرها فى الحضارة اليونانية القديمة ، كما نجد نفس الصورة فى الحضارة الهندية القديمة والممثلة فى الإلهة " كالى " المدمرة والتى تصور فى معبدها فى صورة بشعة .. ولعل صورة الملكة " قمرية " أم الملك " سيف بن ذى يزن " والتى حاولت قتله مراراً خوفاً من استيلائه على العرش فى سيرته المعروفة باسمه قريبة من أذهاننا وهى لا تختلف عن الصور السابقة للأم .. فهل يعود هذا التعبير الغريب إلى هذه القيمة التى ترسبت فى اللاوعى الجمعى واستقرت بداخله فى شكل ما يسمى بالراقات الثقافية والتى تنضح بلا وعى فى ابداعات الإنسان الأدبية ، وتوجه ممارساته وسلوكياته فى إطار من المعتقدات البدائية التى لا تزال كامنة فى أعماقه خاصة عندما يصطدم بما لا يفهم من ظواهر الكون .. ؟ !

أم أن الأمر لا يتعدى أن يكون إطلاق لقب " الأم " على الغول هو نوع من التودد الناجم عن الخوف والرهبة ، ومحاولة لدرء الأذى والفوز بالمنفعة والمساعدة ..؟

الحقيقة أنه لا تعارض بين التفسيرين ، فالأول منهما لا يلغى الآخر ، لكننا نميل إلى الربط بين الحكايات الشعبية والأساطير القديمة ، هذا الارتباط الذى يصل لدرجة أن بعض الباحثين يرى أن الحكايات الشعبية ما هى إلاّ فتات أساطير، بينما يرى آخرون أن الأساطير هي تجميع لحكايات شعبية متناثرة ،ومن ثم فتفسير المعتقد الشعبى أو إشارات الحكايات اعتماداً على الرجوع للأساطير أكثر فائدة وأقرب للموضوعية .. 

دور الغول فى الحكاية الشعبية :

حكايات الغـول كثيرة فى التراث الشعبى العربى ، وهو من الشخصيات المزدوجة فى الحكاية بمعنى أنه فى الغالب ما يكون رمزاً للشر والخوف والقهر ، ولكن فى أحيان أخرى يكون طيباً مفيداً مساعداً للبطل بل وفى بعض الأحيان يكون ناصراً للمظلوم ، ومنتقماً من الظالم ..

والملاحظ أن الذى يحدد طبيعته فى الحكاية هو الإنسان نفسه ، فشره أو طيبته تكون رد فعل لسلوك الشخصيات الإنسانية .. ويؤكد هذه المقـولة تلك الجملة التى تتكرر كثيراً على لسان الغـول لمن يلقى عليه السلام " لولا سلامك سبق كلامك .. لكلت لحمك قبل عضامك .. " وقد تلقى الحكاية التالية الضوء على هذه الخاصية .. " تزوج رجل بعد وفاة زوجته – وكانت لديه ابنة – من امرأة أخرى لديها ابنة ايضاَ ، وكانت زوجة الأب تؤثر ابنتها وتحرم ابنة زوجها من كل شيئ ، الطعام والملبس والراحة ، وصبرت البنت على ما هى فيه من عذاب ومهانة .. ولأنها كانت جميلة بينما ابنتها قبيحة الخلق والخلقة فقد فكرت الزوجة فى التخلص من البنت بأن ترسلها إلى الغولة بحجة طلب الغربال .. وتذهب البنت إلى الغولة وبالصدفة كان فى جيبها بعض حبات السمسم وتطلب الغربال من الغولة ، تأمرها الغولة أن تفلّى رأسها وتمتثل البنت وتقبل عليها تفليها وهى تمتدح قملها وتتظاهر أنها تأكله بينما هى تأكل السمسم .. تسعد بها الغولة وتدعو لها .. ثم تأمرها بنزول البير .. تطيع البنت وتنزل والغولة تردد :" يا بير.. يا بير.. املاها م الدهب الكتير .. يا بير.. يا بير .. اكسيها م الحرير الكتير .. " ثم تعطيها الغربال وتنصرف البنت .. تفاجأ زوجة الأب وتشتعل بداخلها الغيرة .. وتسرع بإرسال ابنتها إلى الغولة وحدث معها ما حدث مع الأولى .. لكن البنت لا تخفى قرفها واشمئزازها من رأس الغولة .. تأمرها الغولة بنزول البير وتردد :" يا بير.. يا بير.. املاها م التعابين كتير .. يا بير.. يا بير.. املاها م السحالى كتير.." وتعود البنت لأمها وهى فى هذه الحال البشعة ..

والغـول فى مثل هذه الحـكايات يمثل القصاص العادل ، وأداة تحقيق العدالة .. وهو حل جاء من الخارج كما رأينا وكأنه عقاب إلهى لا مناص منه لكل ظالم .. وهى قيمة سائدة فى الضمير الشعبى يعبر عنها بالحكاية والمثل بل والنكتة فى أحيان كثيرة ..

وتعبر الكثير من حكايا الغيلان عن الصراع بين الثنائيات ، كالخير والشر.. الصدق والكذب ..الذكاء والغباء .. الطمع والقناعة ....... الخ .. ولننظر فى هذه الحكاية ..

" يلتقى الغول بأسرة مكونة من رجل وزوجته وأولادهما الثلاثة فى مدينة لا يعرفون فيها أحداً .. وبينما هم فى حيرة من أمرهم يندفع إليهم الغول – وقد أدرك حالهم – وهو يرحب بهم ويدعوهم بأقاربه وأهله .. يتعجب الرجل ويسأل زوجته عما إذا كان من أقاربها فتجيبه بالنفى وتسأله بدورها نفس السؤال فيجيبها بأنه لم يره من قبل .. لكنهم إزاء حيرتهم فى أمر الطعام والمبيت يقبلون ترحيبه ويتظاهرون بأنهم فعلاً من أهله .. يستضيفهم الغول فى قصره الكبير المتعدد الغرف .. ويقدم لهم الطعام الفاخر والإقامة المريحة وفى نيته تسمينهم تمهيداً لأكلهم بالطبع .. يطلب منهم استخدام القصر كأنه بيتهم .. يدخلون كل غرفه عدا غرفة واحدة حددها لهم .. لكن الفضول – أو قل الرغبة فى المعرفة – يسيطر على الزوجة فتدخلها فى غفلة منه لتكتشف الحقيقة المرعبة عندما تشاهد ما فى الغرفة .. إنها بقايا أجساد بشرية .. تتكتم الزوجة الأمر ، وبحذر شديد تبلغ زوجها بالأمر لكنه لا يصدقها – رغبة فى استمرار الحياة الرغدة – فتتركه وشأنه وتأخذ هى فى تدبير الحيلة للهروب وبالفعل تنجح فى ذلك وعندما يكتشف الغول الأمر يثور ويفترس الزوج ويخرج للبحث عن غنيمته .. يلجأ إلى الحيلة حتى يصل إلى المدينة التى تقيم فيها الأم وأولادها .. يلتقى بالأولاد أولاً ويخبرهم بأنه سيزورهم فى الغد وينقل الأولاد الخبر لأمهم التى تفهم الأمر سريعاً وتدبر حيلة من جانبها للقضاء على الغول وقتله .. وبالفعل تنجح المرأة فى ذلك وتنقذ نفسها وأولادها ، بينما يلقى الأب مصيره جزاء طمعه وغباءه .. " ..

وتتعدد ثيمة الغـول داخل الحكاية مع اختلافات يسيرة فى التفاصيل حسب المكان والبيئة الثقافية ودرجة تغلغل المعتقدات الشعبية الموروثة لدى أفراد كل مجتمع ، ويمكن أن نعدد من هذه الثيمات :

- يظهر الغـول بشكل بشع ومقزز ، كما يظهر بصورة شاب جميل الصورة ..

- يتزوج الغـول من البنت برضاها ودون علم أخيها ، وتتآمر معه على قتل الأخ ..

- تتحالف البنت مع أخيها ضد الغـول ويتعاونان معاً لهزيمته وقتله ..

- يعيش الغـول فى قصر كبير يصعب دخوله حيث يمكنه اختطاف النساء والزواج بهن عنوة ..

- يحضر الغـول عند فرك شعرة منه ، أو عند حرق ثلاث شعرات من شعره ..

  وهكذا سنظل نردد حكايات " أمنا الغولة " إلى أن يظهر لنا من هو أكثر بشاعة وأشد افتراساً من ذلك الكائن الذى صاغته مخاوف الإنسان البدائى وظل يخيفنا حتى اليوم ..






samibatta

أهلاً ومرحباً بك عزيزى القارئ .. أرجو ألاّ تندم على وقتك الذى تقضيه معى ، كما أرجو أن تتواصل معى وتفيدنى بآرائك ومناقشاتك وانتقاداتك ..

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 1693 مشاهدة
نشرت فى 30 أكتوبر 2012 بواسطة samibatta

ساحة النقاش

سامى عبد الوهاب بطة

samibatta
أهلاً ومرحباً بك عزيزى القارئ .. أرجو ألاّ تندم على وقتك الذى تقضيه معى على صفحات هذا الموقع .. كما أرجو أن تتواصل معى بالقراءة والنقد والمناقشة بلا قيود ولا حدود .. ولكل زائر تحياتى وتقديرى .. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

95,062