آفــــــــــــــاق

الموقع خاص بالكاتب ويتضمن إنتاجه الأدبى المنشور

                                                                 

الآب والابن والأرض المقدسة ..

 

علي الحصير القديم المتهالك ، والذي تناثرت فيه الثقوب السوداء بفعل شظايا النيزان المتناثرة طوال أيام الشتاء..جلس الأب مباعداً ما بين ساقيه ، مسنداً كوعه علي ركبتيه ، فارداً أصابع يديه علي ألسنة النيران المتوهجة في الموقد أمامه .. بالقرب منه وفي الجهة الأخري ، جلس الإبن ينتظر رداً.. لم يبد أي اهتمام بالنار الموقده ، ولا بالدفء المنتشر في الحجرة ، تعلقت عيناه قليلاً بالسقف المسود ، ثم هبطتا في قلق علي وجه الأب المغضن ، راقب حركات شفتيه ، تجعد جلد الوجه حول فمه وهو يقول :

-  طلع الموضوع ده من دماغك ...

تناول قطعة من القوالح اسود لونها وتصاعد منها دخان كثيف .. أخذ ينفخ فيها بقوة حتي دمعت عيناه .. توهجت فألقي بها في الموقد ..

-  بلاش كلام فارغ ..

انتفض الإبن وا قفاً.. دس قدميه في نعله وانطلق خارجاً .. تتابعه عيون الأب في تكاسل وعدم اكتراث .. هز رأسه يميناً ويساراً وراح يرقب ألسنة النيران التي بدأت تخبو قليلاً ، لم يلتفت إلي امرأته الراقدة بالقرب منه حين تململت إثر صفق الباب .. تتشابك ألسنة النيران .. تتشكل فيها آلاف الصور .. تتصاعد الأغنيات والمواويل وصرخات الميلاد ..

.. تصاعدت صرخة طويلة حادة .. ارتجف منه الجسد واتجه إلي السماء .. وتمتم بكلمات .. وحين سمع صراخ الوليد استقر القلب بمكانه , وتسائل في لهفة .. قالوا له " مبروك .. ولد " حانت منه التفاتة إلي الأم .. كانت نظرته حانية .. شاكرة .. " الولد يشد الظهر .. ما أجمل أن يموت الانسان مطمئناً " .. تراقصت في القلب عيدان القمح وأراق شجرة الصفصاف علي رأس الغيط .. وضحك النوار وأمواج البحر الكبير ، وقال ... هذه سنة طيبة ..

حين اشتد منه العود ، وترك صدر الأم ليلهو في الحارة ، كانت الفرحة تملأ قلبه عندما يشكو الجيران شقاوته .. كان يعنفه أمامهم في غضب كاذب ويتعجل أوان الحصاد .. ولما ضاقت عليه الحارة ، وجد عند رأس الغيط براحاً فاستراح .. كانت جلبة الصباح توقظه ، فينهض مسرعاً ، يتعلق بذيل الأب فيرفعه إلي ظهر الحمار ، كان يضيق بخطواته عندما يبطئ فينهال عليه ضرباً بعصاه الصغيرة .. تعلو ضحكات الأب .. وهناك .. تحت شجرة الصفصاف كان يخط أرضه خطوطاً مستقيمة ، يرويها ويغرس في طينها فروعاً خضراء سرعان ما تنمو أشجاراً .. أشجاراً يصنع من الطين ساقية تهدر .. ويصنع أبقاراً تفوح منها رائحة الحليب .. يراقب فأس الأب تعلو وتنقض .. وسلاح المحراث يشق الأرض في حزم وحنان .. يتسائل عن سر الدفء الطالع من بطن الأرض .. تعلو ضحكات الأب .. وأخيراً يأتي أوان الحصاد ... لكن .. تري ..لماذا ينعق البوم هذا المساء ؟ ؟ ..

فرت نظرته إلي الموقد .. كانت النيران قد خبت تماماً .. شعر بالدفء يسري في كيانه .. وبداخله تتمطي الرغبة .. تمدد بجانب امرأته الراقدة لصق الحائط .. لكزها بكوعه .. استدارت إليه وهي تئن ..

                                           * * * * *

حين صفق باب الدار خلفه طارت بومة الليل فزعة ، وسكت صرصار الليل عن الأزيز ، وفرت العفاريت هاربة إلي مأواها تحت الأرض .. لم يعبأ بنسمة الهواء الباردة حين صكت وجهه الساخن .. مضي مسرعاً يدهس الليل والظلام والأفكار السوداء قاصداً المقهي ، يشعر بالرغبة في الإنسلاخ من نفسه ، حدس أن جو المقهي بصخبه وضجته يمكن أن يسرقه من ذلك الذباب الذي يطن في رأسه طنيناً مزعجاً ، لم يلتفت إليه أحد حين دخل .. ألقي بنفسه علي دكة خشبية متهالكة ، ازداد أنينها تحت ثقله ، راحت عيناه تتابعان الصور علي شاشة التليفزيون .. كل العيون شاخصة إلي الشاشة بشغف وانتباه الشفاه قد انفرجت قليلاً فيما يشبه الابتسامة – لو قدر لأحدهم أن يري نفسه علي هذه الصورة لما تمالك نفسه من الضحك – بعد قليل ، انشدت عيناه ..تتابعت الصور.. ها هي فتاته .. كان القلب يخفق كلما ظهرت .. ينتفض كلما تمايلت أو طوحت شعرها الأصفر الذهبي إلي الخلف كاشفة عن عنق أبيض كالمرمر " آه .. هذه هي النساء .. هذه هي .. النساء في بلدنا لا يختلفون عن الرجال إلا في الحبل والولاده .. لكن هذه البنت .. إنها شيء آخر .. ! شيء آخر ".. اللعنة علي هؤلاء الصغار .. لا يكفون عن الثرثرة لا يدعونني أستمتع بتغريدها ، وهمسها .. اللعنة علي الكبار وعلي عيونهم الجريئة الوقحه .. ما تكاد البنت تظهر حتي تتسع عيونهم ، يلتهمون جسدها التهاماً .. حتي في وجودي ، وأمام عيني .. لا يستحون أبداً .. ألا يعرفون أنها فتاتي أنا وحدي ..؟ كيف يستبيحون جسدها هكذا ..؟ اللعنة ..اللعنة علي كل شيء .. حتي الحياة نفسها ..

·        * * *

          يتواري الحلم بعيداً .. بعيداً .. يتصاعد مع سحابات الدخان في حلقات تظل تـدور وتـدور حتي تختفي في اللانهاية .. يضيق عليه المكان .. يشعر بإختناق .. يســــأله الصديق عن أخـــباره مع الأب دون أن ينتظر رداً .. يسترسل .. إنه أوشك علي الإنتهـــاء من كل شيء ، يضحك وهو يردد، ملعون أبو الأرض و الزراعة، ملعون أبو التراب والبلهارسيا والقطن والقمح والسواقي والجرن والنورج .. " ملعونة دي عـــيشة " .. أنا في الطــريق للفلوس بالطيارة ، يضغط علي الكلمة " بالط .. يا.. رة  " مش بالحمار والفاس ...

         يتوقف عن الكلام وهو يلهث .. يتسائل في لهفة وإلحاح ..

                - ح تسافر معايا .. ؟

         تزداد المرارة في الحلق ، يطرق ، يحدق في الأرض المتسخة ...

                - الراجل مش موافق ..!

         الصــديق يضحك ســاخراً ، والولد يشعر بالغثــيان ، ينطلق خارجاً من المقهي بخطوات واهنة .. يبحث عن بعض الهواء المنعش لعله يرد إليه الروح الهائمة .. انطلق نحو البراح حيث تمتد الغيطان بلا نهاية .. أشجار الصفصاف والكافور والترعة تمتد بطول الطريق حتي تقطعه محطة السكة الحديد ثم يعود ثانية يواصل سعيه في زمـام القرية المـجاورة ،

         صوت القطــار واضح في سـكون الليل يذكره بالسفر البعيد .. يشعر بالحزن ، يتـــابــع الصوت حتي يتلاشي تماماً ، يعود لليل هدوءه الثقيل ، تقطـعه أحــياناً أصــوات متباعده .. نقيق ضـفدع .. نباح كلب .. طلق ناري .. صوت ساقية تدور .. تذكر ليــالي الري القاسية تحت برد الشتاء اللاذع ، وأيام جمع القطن تحت الشمس الحـامية ، وأهرامــات القمــــح الأصفر في الجرن الواسع ، آلمته ندبة في قدمه ، تذكر سلاح النورج حين مر عليها وهـو صبي فرحــان بالنورج إذ يتبخترفوق السنابل .. " آه .. يا لك من زمــن قاسٍ وضنين .. "

        " تعالي أيتها المرأة الجميلة .. ضميني إلي صدرك الدافئ الحنون .. تعالي .. خذيني إلي دنياك أنت .. إلي عالمك السحري .. خذيني ..وكفاني عذاباً .. " آه .. هذا الطريق لاينتهي أبداً .. هل آن أوان العودة !..

        شــعر بالتعب والإنقباض والوحشة .. هواء اللــيل يزداد برودة ، والســكون أصــبح أكثر ازعاجاً ولابد من العودة .. هذا الطريق لا نهاية له ...

        اخترق الحارة الضيقة الطويلة ، وفي نهايتها توقف ، دفع الباب الخشبي المتهالك فأصدر صوتاً مزعجاً ، تناهي إلي سمـعه شخير الأب ، وأنين الأم ، زفر هواءاً ساخــناً ، وعلي الحصير القديم تمدد .. جذب الغطاء الصوفي حتي غطي رأسه تماماً .. ونام وفي الصدر أشياء وأشياء ..

 

أيقظه صوت أمه الرتيب الواهن ، رفس الغطاء في ضيق ونهض جالساً .. راح يراقبها وهي تصفي البذور المنقوعة من مائها العكر .. للمرة الأولي يدرك أنها نحيلة أكثر مما يجب ، لمح بضع شعيرات بيضاء تطل من عصابتها السوداء دوماً .. للحظة شعر بالرثاء لها ، عاد إليه ضيقه بهذا الصباح المتكرر دون جدوي ، لم يأبه لحديثها وهي تلقي عليه تعليمات يعرفها جيداً .. لكنها تقول وتنسي أنها قالت .. فتعود تكرر ما قالت .. فرك عينيه ودمدم وهو يتجه إلي زير الماء ، التقط كوزاً ملأه بالماء البارد .. وبيدٍ واحده راح يضرب وجهه .. حين فتح راحة يده وراي ما بها من ندوب أحس بالضيق ، وحين لامست وجهه وشعره بخشونته أحس بالخجل .. أقسم أن هذه اليد لو تحسست جسد فتاته الأبيض الطري لسال منه الدم .. ألقي بالكوز بلا عناية علي غطاء الزير فانكفأ ، رفع ذيل جلبابه وانحني قليلاً وأخذ يجفف وجهه ، ثمة قطرات ظلت عالقة بأطراف شعره الأسود الخشن .. امتطي ظهر الحمار بقفزة واحدة وتناول صرة الطعام من يد أمه بلا مبالاه .. هز ساقيه .. لم يستجب الحمار .. أخذ يسبه ويسب صباحه وانهال عليه بعصاه .. أذعن الحمار مصدراً نهيق احتجاج ..

ومع التواءات الحارة الطويلة كان قرفه يزداد ، مخلفات البهائم تتوسط الطريق ، تتصاعد منها الأبخرة والروائح الكريهة .. مخلفات العيال بجوار جدران البيوت تصدم العين .. ولما استقام الطريق كانت الشمس قد تخلصت لتوها من سحابة عابرة وبدات تبث في الخلق دفئها ، أسرع الحمار سعيداً بالدفء والبراح والخضرة ، وعلي البعد لاحت شجرة الصفصاف ، وارفة الظل قد أرخت فروعها الطويلة حتي لامست المياه الجارية في القناه في قبلة طويلة الأمد..

      - يا أرضنا يا جنة ...... مفروشة ورد وحنة ..

      - يا أرضنا  يا حنة ..... مفرو ....

أحس الأب بدبيب الحمار قريباً منه ، نهض واقفا ً يتدلي من سرواله الطويل حبل مجدول من تيل الأرض يعلوه صديري قديم قد حال لونه ، فتح صرة الطعام وقعد يأكل بشهية ، رمق الإبن وهو يطيل المضغ بلا شهية ، هز رأسه ولم ينبس ، ورسخ في قاع العين قلق وتوجس ومن القلة المكسورة الرقبة راح يمص الماء بصوت مسموع ، تجشأ وحمد الله وتهيأ للعمل .. قام الإبن ببطء وفتور ، لم يكن الجوع دافعه للأكل .. لكنه فعل ما يجب أن يفعله ، خلع جلبابه وهم أن يلقيه تحت جذع الشجرة .. لكنه عدل عن ذلك وعلقه علي فرع الشجرة ومضي للعمل ..                             

شمس الضحي ساخنة كالفرن المحمي ، والهواء راكد .. لا يكاد يحرك فرعاً في الصفصافة .. وعلي مرمي البصر لا شيء سوي السماء والأرض .. تمتدان بلا نهاية ، بينهما بضعة أجساد متناثرة قد انحنت في صلوات صامتة .. يتصاعد منها أحيانا صوت مليء بالشجن .. يغني للفراق والغربة فيزداد الأسي بالقلب .. تتباطئ شمس الضحي ولا تريد الرحيل .. " أيتها الشمس القاسية .. لم أعد أحبك .. وانت  .. أنت أيتها المرأة التي تسافر في .. متي يأتي أوان الحصاد ..

 

                                                                                                                                                                                                                        

 

     نبت العرق علي جبهة الأب وصدغه حبيبات .. حبيبات .. تتزايد فتتجمع في أخدود متعرج علي صفحة الخد .. ينتهي الأخدود أسفل الذقن .. يتساقط العرق قطرة .. قطرة تتشربه الأرض سريعاً .. يختفي في باطنها ...

     ارتفعت فأسه .. رمق الولد بنظرة سريعة ، كان يعمل بفتور وغضب ، مزموم الشفتين ، غائر الخدين .. هذه حاله حين يغضب .. – عليك اللعنة أيها الولد المجنون .. ألا تريد أن تقلع عما برأسك من أفكار خائبة ‍‍‍؟ ؟ كيف تسافر وتترك أرضك .. ‍‌‍تذهب هناك لتعمل في أرض الغير ، وتترك أرضك تبور .. _ انقضت فأسه ، ابتسمت الأرض عن حفرة صغيرة .. ألقي إليها حفنة من البذور .. ردم عليها بخفة وحنان .. ارتفعت فأسه .. " تترك أرضك تبور ‍‍؟ والله لن يحدث أبداً .. انقضت فأسه .. ارتفعت ..

      _ يا أرضنا يا جنة .. مفروشة ... ورد .. ورد وحنة ..

      _ يا أرضنا .. ياحنة .. يا أرضنا .. ياجنة

ثمة ظل يستطيل أمامه .. توقف .. رفع رأسه .. كان الولد منتصباً كتمثال تعلو وجهه ملامح غريبة .. في عينيه تحد وإصرار وجرأة ..

     _ أ.. أنا لازم أسافر .. لازم ..

‌بهت الأب .. نهض ببطء _ تسائل _ من هذا الرجل الواقف أمامه الآن ؟ ؟ حتي الصوت بدا غريباً علي طبلة أذنه .. لحظة الميلاد ما برحت خياله بعد .. انتهت رقصة السنابل والنوار والصفصاف .. وزعق البوم .. والأرض الصغيرة علي رأس الغيط أصبحت جرداء قاحلة وصرخة الميلاد استطالت وأصبح لها رنين صرخة الموت الفاجع ..

    _ لا...لا..

تعالي الصراخ ، وتعالت الشتائم .. رفع الجيران رؤوسهم وراحوا يراقبون المشهد الغريب في دهشة.. تعامدت الشمس علي وجه الأب ، ضيّق عينيه .. ظللهما بيسراه وارتفعت فأسه في الهواء عالية .. عالية ..وهوت .. انطلقت صرخة حادة .. ليست كصرخة الميلاد القريب .. ولست كصرخة الموت .. غامت العينان .. أسرع الجيران محدثين جلبة شديدة .. الصراخ يختلط بنهيق الحمار بصوت الساقية القريبة .. والقطار المبارح

   _ لا حول ولا قوة إلا بالله .. الولد كان ح يموت ..

من خلال سحابة داكنة .. رآهم بملامحهم المألوفة يحملونه ويمضون به بعيداً .. يلمع دمه علي خده وهو يحاول ألاّ يستسلم لأيديهم القوية ..

خفتت الأصوات رويداً .. رويداً حتي تلاشت تماماً .. وحيداً كان .. لا شيء غير السماء والأرض وبينهما بضعة أجساد قد انحنت في صلاة صامتة .. كفه لا زالت تقبض علي فأسه الصغيرة .. وشمس الظهيرة قد انكسرت حدتها .. الفأس تعلو وتهبط .. تعلو .. تتوقف في الهواء .. لمح قطرة دم امتصت الأرض بريقها .. هوت الفأس .. وضع حفنة البذور .. اختلطت بالدم بالتراب بعرقه الذي سال بغزارة .. بدمعة فرت من عينيه .. حاول أن يمنعها .. لكنه لم يفلح ..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

samibatta

أهلاً ومرحباً بك عزيزى القارئ .. أرجو ألاّ تندم على وقتك الذى تقضيه معى ، كما أرجو أن تتواصل معى وتفيدنى بآرائك ومناقشاتك وانتقاداتك ..

  • Currently 35/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
11 تصويتات / 160 مشاهدة
نشرت فى 31 ديسمبر 2010 بواسطة samibatta

ساحة النقاش

سامى عبد الوهاب بطة

samibatta
أهلاً ومرحباً بك عزيزى القارئ .. أرجو ألاّ تندم على وقتك الذى تقضيه معى على صفحات هذا الموقع .. كما أرجو أن تتواصل معى بالقراءة والنقد والمناقشة بلا قيود ولا حدود .. ولكل زائر تحياتى وتقديرى .. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

90,120