((ـــــــــــــ الرحيل ــــــــــــ))
ـــــــــــ من مآسي الحياة ـــــــــــ
بقلمي ........ خوله ياسين
..................
ليلى فتاة متعلمة من عائلة بسيطة كباقي فتيات قريتها أنهت دراستها وتزوجت ابن عمها فادي الذي خطبت له في عامها الجامعي الثالث .
سارت حياتهم الزوجية كما ينبغي أن تكون ، احترام وود وعشرة طيبة ويمضي الوقت والعروسين منهمكين في العمل لتحسين وضعهم المعيشي حتى أدرك الإثنين بأنه لقد مرّ على زواجهم أربعة أعوام و دخلا أعتاب الحول الخامس ، بعد نقاش واتفاق قررا أن يكون لهم أطفال وأنهم جمعوا مالا كافيا فهم ليس بحاجة إلى عمل ليلى و بحول الله حملت الزوجة وبعد أشهرها التسعة وضعت طفلها الذي ملأ عليهم دنياهم وزينها بالسعادة لتكتمل لوحة الفرح المرسومة من القدر للأسرة .
وتمر الأيام حتى أصبح جاد ثلاث سنوات ، ما لفت انتباه الأم أنه غير أطفال جيله هادئ كثيرا منعزل لا يحب اللعب ، لا تغريه تجمعات الأطفال ، ظنت لأنه وحيد وسيتعود على أبناء عمومته وأطفال الجيران .
لكن العام يتلوه الآخر وجاد ينطوي على نفسه أكثر ، يحب الخلوة في غرفته كل ما كان يشغله كيف صنعت سياراته وكيف تحدث أصواتا ليشغل ذهنه الصغير بالنظر إلى ألعابه وهي تسير من زاوية إلى اخرى مجرد أنه كبس زر المحرك الاسلكي .
ليلى كانت تراقبه وتدخل غرفته كثيرا ، تتحدث معه وتحاول اللعب برفقته ولكنه كان يرفض بشدّة بحركات يديه ، فلا يتعب نفسه ليخاطب والدته أو يتجاوب معها فقط يحرك راْسه إن كان موافقا أو لا .
وفي يوم ربيعي ، تلونت فيه الحدائق بحلة الزهور الفاتنة تفتح الأنفاس وتشفي العليل عاد الأب من عمله مبكرا ، فقرر أن لا يضيع الساعات اللطيفة برفقة أسرته الصغيرة .
فعزم على أن يفسح ابنه وزوجته .
أعدت ليلى بعض الزاد ولوازم الرحلة و توجهوا للنزهة .
في ساحة الحديقة التي تسر الناظرين بجداولها الخلابة وأشجارها الباهية بَسَطَت ليلى قطعة قماش على الأرض ووضعت ما أحضرته معها عليها ، ثم بدأت تلاعب ابنها وتمازحه .
والده أيضا تارة يرقد على حجر ابنه مشاكسا له وأُخرى يرفعه على الأكتاف ثم يلقي به في أحضانه ، لكن جاد يبتسم مجبرا ثم يجلس وحده .
فجأة التم الأطفال حول مجلسهم يريدون اصطحاب الطفل إلى الأرجوحة المعلقة على جذوع الشجر ، أسرع جاد إلى حجر أمه أخفى وجهه على تِربها وبكى مما جعل الوالدين في حيرة كبيرة ، فاعتذر والده بشدة للأطفال عما حدث .
قال : لا عليكم أحبائي هو فقط خجل لأنه لا يعرفكم .
فعاد الأطفال إلى اللعب ، وجاد إِضْطَجَعَ في حجر والدته حتى داعب الكرى جفنيه وغفا .
تحدث والوالدين عن حالة ابنهم التي أصبحت تجر ورائها عباءة القلق ، فقرر فادي أن يأخذ الطفل ليعرضه على طبيب ربما يكون مريضا أو شيء ما في تكوين ذاته يجعلة منطويا مضطربا ليس له شهية للأكل ولا ملاذا في اللعب كأبناء سنه .
انتهى النهار والطفل غارق في النوم ولم يتبقى إلا أن يجمع الوالدين أشياؤهم والعودة إلى المنزل مكسورين الخاطر يعتريهم الحزن والخيبة .
هاتف فادي دكتور العائلة ليستشيره ويشرح له حالة ابنه مما جعل الطبيب يشدد عليه بالحضور وحذّره بأن لا يتأخرون عليه كثيرا .
اصطحب فادي ابنه جاد للطيب ، بعد الفحوصات اللازمة طُلب من الوالد أن يجري بعض التحاليل لإبنه ثم يقرر الدكتور ويشخص الحالة بدقة .
بعد أيام من التحاليل ظهرت النتيجة التي أذهلت الطبيب فهاتف فادي حتى يزوره في الحال .
بالنسبة لجاد ساءت حالته وأصبح جسده مضمحل يحب العزلة و يستكين للنوم كثيرا ، شحب وجهه وفقد النشاط الذي كان يبادره في شرفته .
و أحيانا يلجأ للبكاء دون سبب مفهوم .
قرء الطبيب التقرير المخبري على مسامع فادي .
ذهل الوالد بما سمع ففرّت دموعه مفارقة الأهداب ، حملته قدميه بصعوبة وهو يمشط التراب بخطاه تاه عن موقف سيارته لم يعد يعرف أين يذهب وبماذا سيخبر ليلى التي تنتظره بلهفة لتعرف ماذا يدور حول ولدها من أحداث .
وصل فادي والحزن يعتصر قلبه فلاقته ليلى عند بوابة الساحة وشفتيها تمطر على مسامعه بالأسئلة واختلطت ألفاظها بالدموع مجرد أنها نظرت إلى ملامح وجهه الشاحبة المصفرة .
تدرجت خطى فادي إلى المنزل وجلس على الأريكة وكأنه يشعر بحالة إغماء وضع يده على صدره ليفرغه من شحنة الألم وحالة الإختناق التي يشعر بها حتى انهملت دموعه لتفضح مكنون ما يخفيه بداخله أو الأصح لا يقوى على الكلام ليعرب عن الفاجعة التي يحملها في الأوراق بين كفيه .
هدأت ليلى قليلا وجلست بجانب فادي ، احتضنت رأسه إلى صدرها .
قالت : ما بك حبيبي هل أحدا من أهلنا أصابه مكروه .... ؟
قال : لا يا عزيتي اطمأني الكل بخير .
قالت : إذا ما بك وكأن السماء انطبقت على شمائلك ...؟ ماذا جرى وعساه الله يجعل في كل ضيقة فرج .
حينها بكى على كتفها كالطفل الصغير الذي رحلت عنه أمه
قال : يا رب اللهم اشفي ابننا أنت الشافي .
أخذت لحظة من الوقت حتى تدفقت حروف زوجها كالصاعقة على مسامعها فاستوعبت ما استبعدته عن ذهنها .
قالت : جاد .... ؟؟؟ لما ما به جاد تكلم أرجوك وأجهشت في البكاء .
امسك يديها التي أصبحت ترتجف وكأنها قابعة على ربوة من صقيع ، ثم مسح دموعها .
وقال : أدعي له الله حبيبتي هذه هي تقارير الطبيب وكل الفحوصات التي أجرينها له .
أخذت ليلى من يده الأوراق وبدأت تتمعن فيها وتتلعثم بالكلام شهقاتها تتعالى ودموعها منهمرة .
قالت : ماذا عسانا نفعل ويلي لما لم أفهمه ..؟ منذ مدّة وهو على حلة الإنعزال هذه لم يشتكي يوما من أي وجع .
قال : حبيبتي هذا المرض أعراضه الأولية ليس فيها ألم ولكن انقطاع الشهية والعزله وارتخاء القوى هي العلامات الأولى .
سرعان ما انقلبت حياة العائلة الصغيرة رأس على عقب ، فارقتهم الإبتسامة وحلّ مكانها الدموع والإنكسار ، وبدأت رحلة جاد في السفر إلى المجهول وتلقي العلاج اللازم في محاولة انقاذه .
زيارة الزوجين إلى الطبيب تداولت كالمطلوب ، كل أسبوعين مرّة وأحيانا تسهر ليلى على رعاية صغيرها في المشفى لتلقيه لجلسات الكيماوي في علاج الاورام السرطانية .
وتمرّ الأيام ، فأراد فادي أن يدخل ابنه إلى روضة الأطفال حتى يندمج معهم ويسهو عن مرضه المتعب بعض الشيء .
دخل الروضة جاد فوجد فيها أشياء كثيرة تهمه كالرسم وبناء البروج بالمكعبات ، فاعتاد أن يذهب مع والده وقد أخذ زاوية في حجرة التي تجمعه برفاقه في الروضة لكنه لم يختلط بهم كثيرا لحبه للعزله والهدوء .
وفي يوم اجتمع حول طاولته بعض الصبية وأخذوا يتسائلون عن حاله وصمته الطويل .
لكن الطفل لم يصغي إليهم وبقي منهمك في الرسم .
شدّة إصراره على الوجوم وبقاءه مختفيا وراء ستار صمته جعل أطفال الروضة يدخلون قطار الفضول ، فأقبل طفل يكبرجاد قليلا .
وقال : تعرف أنا لا أريد أن ألعب معك أمي قالت لي أن أبتعد عنك ربما عندك مرض معدي .
وما هذه الرسومات الغريبة !! مخيفة كأنت .
ثم تجمع البقية واستهزءوا من حالته حتى صرخ في وجوههم بكيا ثم طلب والدته .
أقبلت ليلى وجدت أعصابه منهارة ومعتكف في حجرة بمفرده لا يريد الخروج ويكمل رسمته التي بين يديه .
سئلت المربية عنما حدث ، ثم غضبت وتوعدتهم بالشكوى عن أهالي الأطفال .
ثم نظرت إلى رسومات ولدها التي ذعرت من أشكالها .
سألته ماذا تعني لوحته ومدحته بأنه فنان مبدع .
قال : هذه أنت وهذا بابا وجاد طائر في السماء تحته غيوم سوداء .
حملته أمه وذهبت للبيت وكأن الدنيا أظلمت أمامها حتى الأنفاس ضاقت عليها .
استمر الحال على ما هو والبعض يسمعه أقسى الكلام ، والآخرون ينفرون منه حتى ازدادت حالته سوء ومن الضوضاء لم يحتمل ذهنه الصغير وقع مغشيا عليه .
طلبن المربيات سيارة الإسعاف ونقل جاد إلى المشفى حيث حالته تأخرت وأصبح التنفس عنده ضعيف جدا ، مما أدى إلى خضوعه لحبال التنفس الإصطناعي وآلة ترقب دقات القلب .
أمر الطبيب بعدم خروج الطفل من المشفى لتدهور صحته ودخوله المرحلة الثانية من المرض ، كما أن التقارير تؤكد بأنه دخل في حالة حرجة ومتوقع في أي وقت سوف يتعرض للدخول في غيوبة .
تحدث الزوجين مع الطبيب ولم يخفي عليهم أمره ، وأخبرهم أن يستعدا ففي أي لحظة ممكن أن يفارق الحياة ، ليلى لم تستحمل هذا الحديث الصعب والقاسي خرجت من حجرة الطبيب لتراقب ابنها من وراء الزجاج ، وهي تلامس الزجاج وتخاطب نفسها .
قالت : يا حبيبي يا قطعة من قلبي أكاد أشعر أن كل شيء بداخلي سيتوقف عن الحياة ، ليتني كنت مكانك يا صغيري لا أحتمل رؤيتك في هذه الحالة ضعيف مستكين للآلات طريح الفراش .
أتعبني قلبي أشعر بأن ناره أشعلت في أطرافي وأحرقت شمائلي .
وهي في هذه الحالة من الصراع الداخلي الذي ينهش الأخضر فيها أقبل زوجها يربت على كتفها ويهدأ من روعها ويذكرها باحتسابه عند الله .
أدركهم الليل يرتدي حلّته الحزينة فدخلا الوالدان ليجلسا حول سرير ابنهما .
حتى استرق النوم من عيني ليلى بعض الدقائق . استفاق جاد من نومه وجد والدته متكئة على رجليه ممسكة بيده الصغيرة ونائمة لم يريد أن يزعجها حسس على شعرها
قال : أحبك ماما أحبك جدا .
ثم نظر إلى والده وجده جالس إلى سريرة يبكي ، رفع يده إلى عيني والده ومسح دموعه
قال : بابا أنا أحبك كما أحب ماما لا تبكي حبيبي ، أنا أرى حولي رجالا طيبون الرائحة كالورد يرتدون ألبسة بيضاء وجوههم مبتسمة ألا تراهم بابا ... ؟
فادي : بلى حبيبي أكيد هم الأطباء .
ثم أيقظ ليلى .
قالت : حبيبي كيف أصبحت يا عمري ... ؟
جاد : أنا بخير ماما أنظري أمامك كم هو جميل المنظر فيه حدائق كثيرة وضوء لم أرى مثله من قبل .
نظرت ليلى بفزع إلى فادي وضربات قلبها كالإعصار تتوالى ، أمسك بها زوجها ودعاها أن تصمت .
فقال الطفل : ما بكما لما لا تفرحا نحن في مكان جميل ، ماما بابا أنا أحبكم كثيرا ولا أريد أن أرى دموعكم ، سأذهب الآن مع الرجال سأترككم قليلا ألعب ثم أعود .
ما إن أنهى كلامه حتى دقت جرسها المفزع آلة القلب وهرع الطبيب ومن معه إلى حجرة الصغير أخرجا الوالدان من الغرفة وبدأ بالإسعافات للطفل حتى يعيده لكن دون جدوى فارق جاد الحياة .
رحل جاد إلى الأبد ، حالة ليلى وفادي يرثى لها اشتدّ عليهم الحزن والألم لفراق ابنهم . الذي كان أول فرحتهم .
النهايــــــــــــــــــــــة
ـــــــــــ من مآسي الحياة ـــــــــــ
بقلمي .........../ خوله ياسين
13.03.2016