شذرات من أنين العصر ( 12 )
الحقيقة الوحيدة في حياتنا هي .. لا نعرف { الحلقة الثالثة }
إننا لا نعلم أي شيء .. هذا هو الأمر الواقع ..
فكما قال الإمام الصوفي الحجة الكامل سيدي / أحمد بن عطاء الله السكندري قدس الله سره ، ورضى تعالى عنه وأرضاه : " كلما ازددت علماً ازددت جهلاً "
إن العلم حتى الثابت بالمعادلات والتجارب المعملية ، ما هو إلا علم نسبي .
فما كان بالأمس من الثوابت الراسخة ، أصبح كثير منه اليوم هواءً خواءً ..
وما كنا نظنه في الماضي أوج العلم ، فإذا بنا نكتشف أنه لا يُعد كونه مجرد حرف من حروف أبجديات العلم ، التي لم ولن نعلم أبداً كل أبجدياتها ، فالواقع يقول إننا لا نعلم حتى عدد العلوم الكونية ، والأرضية ، ولا ندرك ما هو مدى كل تلك العلوم .
لقد استوقفتني مقولة لباب مدينة العلم الإمام العظيم / علي بن ابي طالب كرّم الله وجهه ، ورضي الله تعالى عن حضرته وأرضاه قال فيها " أعطاني رسول الله ألف باب من العلم ، وفتح الله علي من كل باب ألف باب "
أترى عزيزي القارئ ، مدى عِظم تلك الكلمات ، فمما لا شك فيه أن الإمام علي كما هو معلوم للجميع ، أنه باب مدينة العلم ، مصداقاً لحديث سيد المرسلين ، وإمام العالمين وقدوة المؤمنين سيدنا ومولانا محمد ، صل الله على حضرته وعلى آله وصحبه وسلم في كل لمحة ، ونفس عدد ما وسعه الله حينما قال " أنا مدينة العلم وعلي بابها "
صدق رسول الله صل الله عليه وآله وصحبه وسلم
وبالقطع هذا ما ثبت بالتاريخ ، والأدلة والبراهين الدامغة التي لا تقبل الجدل والشك .
والسؤال هنا ..
إذا كان الإمام علي ، قد أوتي أسرار مليون علم ، فكم هو عدد العلوم التي أوتيها ، حضرة سيدنا النبي صل الله عليه وسلم ؟؟؟!!!
فسبحان العلي العظيم الذي آتاه جوامع الكلم .
أما بالنسبة للسؤال المنطقي الذي يتبع هذا السؤال ، وهو .. ما مدى العلوم الآلهية وكم عددها ؟؟
فالإجابة عليه لا تجوز ، ولا يمكن ولا يُتخيل ، لأي مخلوق كائنَ من كان أن يُجيب على هذا السؤال ، وإن كانت هناك إجابة واحدة على هذا السؤال فستكون هي .. أننا لا نعرف .
فهي علوم لا يُمكن إحصائها ، ولا يمكن إدراكها ، ولا حتى معرفة أنواعها وأسمائها ، فكيف يمكن لمن وُهِب العلم أن يحيط بعلوم وأسرار ، واهب العلم سبحانه وتعالى .
فسبحان من قال " وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً "
صدق الله العظيم
ولهذا فحقيق علينا أن نُسلّم ، بأن المرادف المنطقي لكلمة علم هو .. { فاي } ، وفاي في علم الرياضيات ترمز إلى اللانهائية .
قد يبادر البعض قائلاً بأن حقائق ثابتة راسخة ، لا يمكن إنكار الاعتراف بكونها حقيقة كاملة ، لا حقيقة نسبية فعلى سبيل المثال .: الجبال ..
فمن منا يمكنه أن يُنكر وجود الجبال ؟
من منا يستطيع إنكار ذلك ؟
فالله سبحانه وتعالى أخبرنا ، بأنه ألقى الرواسي في الأرض ..
بسم الله الرحمن الرحيم
" وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم " ( سورة النحل : 15 )
صدق الله العظيم
وها هي شاخصة ماثلة أمامنا جميعاً
لكن ماذا لو طبقنا قانون الحقيقة على هذا المثال ؟؟؟
أي أننا لو طبقنا قاعدة : العلم + الزمن + المكان + الإحاطة على مثال الجبال ، هل سيتغير المفهوم ، إلى أنها لا تُعد أكثر من حقيقة نسبية ، بالرغم من أن وجودها المادي الذي يدل على ، أنها حقيقة كاملة ؟
وللإجابة على هذا السؤال يجب أن نعلم اولاً ..
متى نشأت الجبال ؟
وهل كانت هذه هي مواقعها منذ قديم الأزل ، أم أنها نشأت في موضع آخر غير هذا الموضع ؟
وما الذي نعلمه عنها ؟
هل نعلم عنها كل شيء ، أم أن هناك أشياء خفي علينا ، إدراكها ؟
وهل شاهد إنسان واحد كيفيتها ، وهي تٌنشئ ؟
فبالنسبة لنشأة الجبال فنحن لا نعلم على وجه الدقة ، والتحديد متى نِشأت ، ولا في أي ساعة انتصبت ، ولا نعلم أيضاً هل انتصبت في ظلمة الليل ، أم في وضح النهار .
أما عن مواقع تواجدها فإننا بالفعل ، لا نعلم لها أي موضع إذ أنها نشأت من خلال تصادم القارات ، كما أنها تتحرك ..
لا تتعجب عزيزي القارئ ، فالجبال بالفعل تتحرك ، وإليك الدليل ..
قال تعالى : ]وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) [النمل: 88 ) .
وقد أثبت العلم بما لا يدع مجالاً للشك حركة الجبال ، ولولا أنني لا أريد أن أطيل عليك ، عزيزي القارئ لأفردت لك ما أثبتته الأبحاث العلمية في هذا الشأن ، لكنك تستطيع بكل سهولة أن تبحث في هذا الأمر حتى تتأكد بنفسك من ذلك .
إن أول الجبال خلقاً كانت هي الجبال البركانية ، فحينما خلق الله سبحانه وتعالى القارات ، بدأت أولاً تتكون في شكل قشرة رقيقة صلبة ، تطفو على مادة الصهير الحجري ، وهنا أخذت تميد وتضطرب ، فخلق الله الجبال البركانية لتخرج من تحت سطح تلك القشرة ، وأخذت ترمي بالصخور إلى خارج الأرض، ثم تُعاود الانجذاب مرة أخرى إلى أن تراكمت فوق بعضها لنكون الجبال .
وحينما قال سبحانه وتعالى " وألقى في الأرض رواسي " فهنا يُشير جل عُلاه إلى الطريقة التي تكونت بها الجبال البركانية ، وذلك بإلقاء مادتها ، من باطن الأرض إلى خارجها ، وقد أثبت العلم أن الجبال تمتد في باطن الأرض ، بأطوال تزيد عن ارتفاعها الظاهر فوق سطح الأرض بعدة مرات .
تلك الحقيقة لم تُكتشف ، إلا في منتصف القرن التاسع عشر، حينما تقدم السيد جورج إيري ، بنظريته التي تقول أن القشرة الأرضية لا تمثل أساساً مناسباً لحمل الجبال ، ومع تقدم العلم ثبت أن للجبال جذوراً مغروسة في أعماق الأرض ، إلى ما قد يُعادل ارتفاعها بخمسة عشر مرة .
وهذا ما أخبرنا به المولى عز وجل حينما قال : " والجبال أوتادا "
فكما يختفي وتد الخيمة في الأرض ، كذلك الجبال .
فسبحان من أطلع نبيه ، على هذه الحقيقة ، منذ أكثر من { 1400 } عام .
حقاً " إن هو إلا وحي يوحى "
صدق الله العظيم
ووفقاً لذلك فنحن بلا شك ، لا نعلم من اي موضع على وجه الأرض نشأت الجبال .
أما الإحاطة .. فبالقطع لم يرى بشري واحد ، تلك الجبال حين خلقها الله ، ولم يُحط بكامل أوضاعها ، وتدرج احوالها .
كل هذا يؤكد أننا لا نعلم ، إلا القليل عن حقيقة واحدة من ملايين الحقائق الماثلة أمام أعيننا .. بل إننا سنجد أنفسنا لا نعلم أي شيء ، بالقياس لما خُفي علينا من علم ، وهذا دليل آخر أنه لا توجد على وجه الأرض حقيقة واحدة كاملة . نعم حولنا كثير من الحقائق ..
نعم نعلم بعض الأشياء عنها ..
نعم أدركنا العديد من خصائصها ..
نعم أحطنا بقدر من الاستبيان عنها ..
لكننا في النهاية أمام الحقيقة الوحيدة الكاملة الآن ، وهي أننا لا نعرف شيء إذا ما قورنت المعرفة ، بما هو خاف عنا .
فسبحان من قهر العباد بعلمه ..
وجعلهم تحت سحائب قطراته ..
حتى تظل أعناقهم ..
خاضعة ..
خاشعة ..
لملك الملوك ..
الواحد الأحد ..
الذي لم يلد ..
ولم يولد ..
ولم يكن له ..
كفواً أحد .
*******
وإلى اللقاء في الحلقة القادمة إن شاء الله
#الأديب_محمد_نور