الجاريه و المجنون
في زمن بعيد يحكى أن هناك قصرا يدعى بقصر الغرام ... تعمل فيه وصيفة للملكة و إبنتها جارية للأميرة الحسناء ، كل من في القصر يحسد الجاريه على مرافقتها الدائمه للأميرة .
الأميرة جَذَّابة الملامح رشيقة البنان فاتنة الأوصاف ، قدر ما كانت تملك من الجمال إلا و الجارية أجمل منها ، كانت الأميرة تحبها جدا لبلاغتها في الأدب و القصيد ، و براعتها بسرد القصص ، تحلت الجارية بذكاء شديد و دقة في الملاحظه عجيبه خارقه ، في يوم ربيعي جميل زينت حديقة المملكة بروائع الزهور من كل نوع خرج الحرس برفقة الحاشية الملكية إلى ساحة الحديقة تنقلت فتيات القصر كالفراشات بين المروج ، اما الجارية فجلست مع الأميرة على ربوة تحتها ماء عذب صافي اللون يسرً الناظرين .
تترقبان قدوم موكب ملكي لبلاد مجاورة على رأسهم أمير تلك البلاد و كان معشوق الأميرة .
وبينما هما تتَلبثان قالت الجاريه بيت قصيد تتساءل فيه عن رجل مقطع الملابس يجلس عند قاعة الخدم أمام مطبخ القصر .
يا مولاتي و فتاة قصيدي ...... أشعر أن القصر يتخلله العبيد
مُهَلْهَل الثياب دميم الجيد ... آسِن الأنامل كصفيحة الصديد
فردت عليها الأميرة مذهولة بما سمعت
قالت : من تقصيدين يا جاريه ؟
أجابتها قائلة :
ذاك النحيل للهوية جاهلا....بات يجالس خدمنا متسولا
الأميرة : ويحك يا جارية هذا الذي تسمينه متسول كان وزير الملك ، من شدًة علمه الواسع و نباهته اعتاد أن يشد رحاله لأسفار طويلة باحثا عن التمييز والإبداع ، جالس أدباء و شعراء المملكة تعلم منهم و علمهم فتفوق عليهم و لم يكفه هذا الكم من العلم عزم ان يبحث اكثر ليكون مُغايِر الأوصاف ، و في يوم ممطر البرد قاس عنيف وصلت فيه الرياح أوجها شدً رحاله للسفر
ودع زوجته التي أوشكت على أن تضع مولودها و خرج يبحث كعادته عن مبتغاه ، ركب بالسفينة و البحر مرتفع هائج و الليل مخيف هدوئه ، وصلت الأمواج إلى صهوتها فأطاحت بالسفينة و أغرقت الناس مات ركابها إلا الوزير و رجل ابنته ثلاثة من كل من كان على متنها بقدرة إلهية تابعوا العوم و الأمواج تتقاذفهم و تلقي بهم هنا و هناك حتى وصلوا شاطئا بعيدا بقيوا عليه ترتعش أجسادهم من برودة الماء ، تملكهم الرعب أثلج قلوبهم لم يتبقى لهم الا يستكينوا للغيب ، طلع الفجر وهم متأملين طوق النجاة للعودة ، بينما هو حائر في امره و يفكر في غياهب السماء و ما تخفي من اسرار وراء الضباب الكثيف كانت زوجته على سرير الولادة في مخاض عسير
اشتدًت عليها الحمى وقسي عليها الألم ، عانت كثيرا حاول حكماء المملكة و أطبائها كل ما بوسعهم لإنقاذها لكن قدر الله و أمره شاء فسبق سيف الحق ، أخذتها المنية هي و جنينها الذي لم تضعه ولم يبصر نور الحياة فرحلا سوية .
عاد الوزير من مهمته التي كادت أن تودي بحياته للهلاك فلم يجد زوجته قص عليه خدم القصر ما حدث أخذه الذهول للوهلة الأولى من كبر الفاجعة ثم أجهش في البكاء دمعت مآقيه بحرقة و أسى و رثى حبيبته بأبيات من القصيد .
قال : يا امرأة من بين النساء أحببتها ...عشيقة القلب رفيقة الدرب اخترتها
سافرت أبحث عن ذاتي وأخلفتها ......... فاقتص مني الإله و أخذ وداعها
نار الحشا تنهش كاهلي بغيابها .........و رماح الحزن تخترق صدري مكانها
يا فتاة خدري فارقتني لأشرب ...... ..من الأقداح علقم وفاض الدمع مني هارب
هش عظام الجسد و أحرق مهجتي ... هدً الحيل غدوها برحيلها أغلقت أبوابي .
تكمل الأميرة حديثها والجارية كلها آذان صاغية .
قالت .. بقي على هذا الحال طويلا فارق الزاد ثغره و لم يرى في الحياة ملاذا بعدها .
تعلل حتى تمكنت منه الحمى و زادت هلوساته و كأنه بذهنه غادر الدنيا و بقي جسده ينبض فيه قلبه ، بعد رقدته وملازمته للفراش كثيرا عاد الى الحياة ، وبهذه الصورة المسكينة .
بعد الحديث الذي سمعته من مولاتها استأذنت الجارية و قد رسخت الوزير في ذهنها.
بدهاء و بمهارة خارقه جلست الى جانبه و قالت بيت القصيد هذا .
يا رجلا في رحاب القلب حلً الليلة ... ضيفا غريب مرتحل بين الألف والنون
حروف الشعر تداهمني فلست فقيهة .... العرب ولا نبيهة العلم وليس في عودي فتون
نظر المجنون لها و الطبع غالب التطبع ، تكلم لأول مرة جاحظا عينيه فيها
وقال : فاتنة القد و العود جليسة ... مجنون العقل ناقذ العهد والوعود
فاستبشرت خيرا وفرحت كثيرا ، ارتسمت على شفاهها الحمراوين ضحكة جميلة
قالت : الوزير فارق الخبل عقله الودود ... نطق لسانه كاسرا كل القيود
فاستلمته دائما تردد على مسامعه القصيد تسمع منه و تحفظ كل ما يقوله .
وفي يوم من الأيام استأذنت من أميرة القصر أن تنظر في أمر المجنون وتهتم به أكثر .
أذنت لها مولاتها ، ذهبت الى الخدم أمرتهم بأن يجعلوه يستحم و يرتدي ملابسه الأنيقة ليعود كما كان ، فعلا تم الأمر فخرج الى الساحة حيث هي تجلس و إذا بها تقول
يا مرحا يا مرحا أشرقت الأنوار مهلهلة .... غسله الماء يا لجماله هذه خاتِمة مذهله
ومرت الأيام والشهور و حال الحول عليهما يلقيا القصيد حتى صار بينهما عشق وجَذَل وحبور .
قررت النبيهة الجارية ان تحلله لنفسها فقالت بدهاء
حلمت اليوم في فارس حليم ... أهازيج عرس تحيطه و ترانيم
فقال مبتسما
الجارية والمجنون عشقهما ينبوع ...نقب في المجهول فخرج من القبوع
فتزوجته مسرورة مستبشرة بما بذكائها واصبحت روحه ومهجته وهو لها فارس الحب و القصيد .
اسميا بالجارية والمجنون .
من وحي خيالي
مذكرات كاتبة
بقلم ......................... / خوله ياسين