<!--<!--<!--<!--
مع الحداثة الأدبية الأزهرية في آبائها وشبابها
إعداد الدكتور/صبري فوزي أبوحسين، أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد في كلية اللغة العربية بالزقازيق
إن الأزهر من الكيانات المصرية العريقة والعتيقة التي، اكتسبت قيمتها المعنوية من تاريخ مشرق حققه وبارتقاء قيمة النشاط الذي يمارسه، أقول هذا في مناسبة الهجوم علي الأزهر الشريف، ذلك الكيان المسئول عن المفرد المهم في حياتنا وهو (الدين) بسبب ضعفه وتباطئه (كما يقال ويدعى) في مواجهة الهجمة الشرسة من التيار العلماني علي كل مفردات الدين تقريبًا والتي بلغت ذروتها بظهور الرويبضات الإعلامية والذباب الإلكتروني!
إننا دائمًا ما نجد اتهامًا من خارج الأزهر دائمًا، و من داخله حينًا لكليات اللغة العربية وشعبها المناظرة بكليات الدراسات الإسلامية والعربية للبنين والبنات، ولتخصص الأدب والنقد بجامعة الأزهر بخاصة- بالعقم والتخلف والرجعية، وأنه لا يضاهي أو يوازي مثيله في الجامعات الأخرى.
والحق أن هذا الاتهام استعلائي إقصائي قائم على نظرة جزئية محدودة قاصرة من قبل البعض، أو نظرة حاقدة على هذا التخصص بالجامعة لما فيه من أصالة وحداثة حيوية وثبات ومرونة وتطوير دائم، بطريقة فردية أحياناً، ومؤسسة حينًا!
ولعل تطوافة سريعة في ربوع كليات اللغة العربية وشعبها المناظرة لها بالجامعة تقدم الدلائل على جمع أهل هذا التخصص بين الأصالة والحداثة بوسطيته فريدة وعجيبة.
ومن أبرز هذه الدلائل نتاج هذا الثلاثي الأزهري الكبير الذي يمثل آباء الحداثة الأزهرية الراشدة: الدكتور/ محمد رجب البيومي، الدكتور/ محمد أحمد العزب، الدكتور/ صابر عبد الدايم، في مجالات الإبداع الأدبي والنقدي والثقافي. ويضاف إليهم أمير الشعراء المعاصرين الدكتور علاء السيد أحمد جانب.
صدمات حداثية في حياتي:
أولاً: مع محمد مستجاب:
ريفي أزهري غِرٌّ، يُرزَق بالعمل في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فيجالس (محمد مستجاب) مسؤول إداري(الصيانة!) بالمجمع، كنت أظنه موظفًا عاديًّا [واتضح لي فيما بعد اللقاء أنه كاتب كبير له عمود ثابت في مجلة العربي، وروائي واقعي ساخر أو ساحر] فسألني من أنت؟ قلت: محرر لغوي بالمجمع. قال: أنا (محمد مستجاب) أديب وموظف هنا.. قلت له: إذن أعرض عليك من إبداعي! قال:اعرض، فأخرجت مقامة بعنوان: "كناسة الفصحى" وأخذت أتلوها عليه وهو ينصت كل الإنصات إلى أن انتهيت!
ثم قال: اسمع يا صبري!
أنت كإنسان يريد الانتقال إلى مكان ما وأمامه وسيلتا سفر: الناقة والطيارة فاختار الناقة وترك الطيارة. اذهب يا صحراوي! فليس لك مكان في المدينة إلا مكان الماضويين المنغلقين!
نزلت العبارات صدمة على أذني وعقلي، صدمة مؤثرة تأثيرًا إيجابيًّا، لفت نظري إلى تيار آخر في الحياة لم أسمع له أو أقرأ فيه أو أحاوره إلا في هذه المرة. تيار ليبرالي حداثي له حضوره وتقنياته وأبجدياته ولا مسلمات عنده، ومن هنا بدأت صلتي معه خارج قوقعتي، وما زلت قارئًا له وفيه، وكلما قرأت ازددتُ إبداعًا وفكرًا: ثائرًا، وخارجًا، ومستفزًّا!
ثانيًا: مع محمد العزب:
أنجزت رسالتي لنيل درجة التخصص الماجستير "في الأدب والنقد" بإشراف أستاذنا الدكتور/ السيد مرسي أبو ذكري عن (الشعر ونقده في تراث مجمع اللغة العربية خلال خمسين عامًا) سنة 1997م. وقام مشرفي القسم العلمي بكلية اللغة العربية بالمنوفية بتشكيل لجنة الحكم والمناقشة، وكان العضو الخارجي بها الأستاذ الدكتور/ محمد أحمد العزب – عميد كلية اللغة العربية بالمنصورة حينئذ، وقد تحدثت عن الرسالة لكونه أحد الفائزين بمسابقة الشعر المجمعية.
وبالفعل أخذت نسخة من الرسالة وذهبت بها إلى مقر سكن أستاذنا بشارع فيصل، في عمارة خلف قهوة أبو ماجدي، ضربت جرس الشقة الأولى: فخرج لي رجل يلبس بيتي صيفي داخلي! على أذنه اليمنى قلم، وعلى أذنه اليسرى قلم، وفي يده اليمنى ورقة وفي يده اليسرى لقاب، وعلى عينية نظارة كبيرة الحجم جدّاً!
قلت في نفسي: ليس هذا أستاذنا العزب"!
لا يمكن أن يكون العزب الشاعر الحداثي والتمرد بهذه الطريقة!
قال لي من أنت؟ قلت له باحث يريد أن يعطيك رسالة من كلية اللغة العربية بالمنوفية لمناقشتها! قال أنا محمد عبد المنعم خفاجي! وهذا الجزء من العمارة خاص بي!
أما الجزء الآخر من العمارة فهو خاص بالأستاذ الدكتور/ محمد العزب، ولعلك تقصده وتريده!
قلت له: شكرًا أستاذنا وفرصة سعيدة.
قلت في نفسي: عمارة واحدة بها هذان الأزهريان العظيمان المختلفان: شخصًا وعقلا وأثرًا، واحد موغل في التراث والقَدَامة كل الإيغال، وثان موغل في المعاصرة والحداثة كل الإيغال!
وذهبت إلى المدخل الآخر للعمارة وضربت الجرس فإذا أنا أمام شخص فارع الطول متناسق الجسد، جميل المحيا، يلبس قبعة عتيقة كتلك التي نعهدها عند نجيب محفوظ أو توفيق الحكيم أو العقاد، رحب بي وتعرف عليّ وأدخلني وقدم لي واجب الضيافة وأخذ يحاورني في الأدب وقضاياه ويسأل عن قراءتي في هذا العالم الرحيب، وعن مصادره النقدية القديمة والحديثة، ثم أعطاني مجلد أعماله الشعرية، الذي طبعه على نفقته الخاصة! وعددًا من كتبه في: أصول الأنواع الأدبية، وظواهر التمرد والفكر عن اللغة والأدب والنقد، والبعد الآخر في الشعر، وقضايا تعد الشعر في التراث... وقال لي: اقرأها تعرف أين أنت في عالم الأدب والرحيب، وميدان النقد العجيب!
خرجت من عنده أحمل هذه الأشعار والآثار شغوفًا قبلها وطالعتها فوجدت عجباً لغة واصطلاحات حداثية وفكر عال عميق.
ثم كان يوم المناقشة في 7/1997م، وأخذ الدكتور العزب يطوف بي في جنبات الرسالة عنواناً وفصولاً ومباحث، وخرج منه تعبير حاد، بعد نقد متواصل: مكتبتك البحثية جيدة لكن مصادرك النقدية قديمة فقط، لا تكاد تتجاوز عصر صاحب الدلائل والأسرار! أين أنت من النقد الحديث واصطلاحات: المعادل الموضوعي/ تيار الوعي/ القناع/ الاستدعاء/ التوظيف/ المفارقة/ بنية الإيقاع...الخ فأجبت: آخر ما قرأته وطالعته: النقد الأدبي الحديث للدكتور/ محمد غنيمي هلال!
فقال: إذن أنت متخلف. وتوقف. ثم أردف: متخلف في دنيا النقد الحديث، أزل أميتك النقدية في أقرب فرصة وبكل طريقة ممكنة... فكان ذلك عن طريقة نتاجه ونتاج الدكتور/ محمود علي السمان، والدكتور/ صابر عبد الدايم.
ثالثًا: مع الدكتور/ عبد العزيز شرف:
الدكتور عبد العزيز شرف أديب ومثقف وناقد، وصحفي أشرف على الصفحة الأدبية بالأهرام سنين عديدة، وله سلسلة كتابات إبداعية ونقدية مشهورة ومنشورة.
وقد تعرفت عليه من قرب خلال اختياره مناقشًا خارجيًّا لي في مرحلة : العالمية"الدكتوراه" عن موضوع: "الأدب والنقد في تراث المحبي (ت1111هـ) دراسة تحليلية"
فوجدت فيه إنسانًا مصريًّا نشيطًا جميلاً متواضعًا على نحو لا نعهده في أمثاله ممن يحترفون مهنة الصحافة، لكنه أزهري عاش في صحبة الأزهري الكبير/ محمد عبد المنعم خفاجي!
قرأ رسالتي للدكتوراه، وأعجب بها، وبالجهود المبذول فيها، وكتبت عنها عرضًا موجزًا في صفحة الأهرام الأدبية، لكن قال لي: عاشرت هذا النتاج الفكري والأدبي التقليدي فكان أسلوبك مثله تقليديًّا، ولو عشت مع نتاج غيره في العصور الزاهرة قديمًا أو حديثًا لكان لأسلوبك وشعرك شأن أي شأن! فشعرك نظم، وأسلوبك متكلف، أعنتَّ نفسك وأعنتَّنا معك!
انتقل يا صبري إلى الإبداع والحداثة حتى تُمتع وتتمتع، وتتطور وتُطور!
رابعًا: مع الدكتور/ صابر عبد الدايم:
دخلت كلية اللغة العربية بالزقازيق معيدًا بقسم الأدب والنقد في شهر مايو 1998م وعاشرت أستاذنا في تخصص الأدب والنقد، فوجدت عجبًا: تيار الأصالة ممثلاً في الدكتور/ حسن الكبير، والدكتور/ محمد عبد المنعم العربي، والدكتور/ سيد عويضة، والدكتور/ السيد الديب، وغيرهم.
وتيار المعاصرة غير موجود! فعشت معهم إلى حين؛ لأنني مثلهم: أزهري محافظ مهتم برسالة للدكتوراه فقط لا غير، وإذا بأستاذنا جميل قسيم وسيم في كل حياة وحيوية وإقبال على الناس وقبول عندهم، يقولون: إنه العائد من الخارج واستلم عمله بالكلية بقسمي: قسم "الأدب والنقد" إنه الأستاذ الدكتور/ صابر عبد الدايم، خمسيني العمر حينئذ، جالسته سائلاً ومحاوراً فهمت منه روائع قضايا ثقافية مختلفة. إنه بتعبير الخليج العربي "غير" أي متميز من طراز فريد!
شاعر يجمع بين الأصالة والحرية بإمتاع، وناقد ذواقة يتحكم من أدواته، تعشقه الأضواء، وتتخطفه المذاييع، ويتناص معه الشعراء والباحثون ليل نهار وفي كل مكان!
قرأت شعره، ودرَسته ودرَّست كتبه، وصرت قرينه في كل صالون ومنتدى، حتى صبغت بصبغته، فصار صوتي وطريقة إلقائي المحاضرات والقصائد مثله، مع الفارق لصالحه بالطبع؛ لأنه الأصل وأنا النسخة! فو القائل:
اسمى : صابرْ
عمرى : سنواتُ الصبَّار جهلتُ بدايتَها
أو حتى كيف تُسافرْ .
بلدى : مصرُ . القريةُ والموّالُ الساخرْ
والمهنةُ : شاعرْ
وهواياتى : فكُّ الأحجبةِ وهدمُ الأسْوارْ
والبحثُ عن الخصْب المتوارِى خلفَ الأمطارْ
والتْنقيبُ بصحراء النفس عن الآبارْ
وقراءةُ ما خلفَ الأعين منْ أسرارْ .
* * *
وجدت فيه الصوت الغنائي المتأمل، شاعر النقاد وناقد الشعراء، والأديب المثقف، والمثقف الأديب. واحد من شعرائنا المعاصرين، الذين استطاعوا أنْ يجمعوا بين عمليتىْ الإبداع والنقد . دون أن تجورَ إحداهما على الأخرى . وقد جمع بيْن الحرفة / النقد .. وبين الموهبة / الشعر .. في توازن متعادل وإخاء متواكب . وتلك ظاهرة ثقافية نجدها عند الكثير من أدبائنا المعاصرين؛ فقد مضى حينٌ من الدهر توهَّم فيه بعضُ العلماء أنه يصعب أن يجمعوا بين العلم والأدب... ومن ثم قلت مسجلاً هذا الانطباع الأولي عن أستاذنا، هذه المدحــة الشاكــرة، في مناسبة عودته المباركة إلى أرض الوطن الغالي والكلية الفتية، وبعث الحركة الشعرية بجهوده المخلصة فى ذلك الميدان ثقافيًّا ودعويًّا.
حمدًا لربِ العَالمِيـنَ الناصـــــــرِ حَامِي النُهى ما مثْلُه مِنْ قَــــادِرِ
أحيا قلوب نُفوسِنَا مُتَفَضِـــــــلاً برجوعِ مِقْدَامٍ لنشءٍ ذَاخِـــــــرِ
فيهِ الصَفَا فيهِ النَقَا دَرع لَنَــــــا مـحـبـوبُ كل مثابِـرٍ ومُجاهِـــــرِ
هُوَ "صَابِرٌ" ومُجاهِدٌ من "يُونِسٍ" ذي النون مرقى كُلِ شِعْرٍ آسـرِ
هُــــوَ شــــعـــلـــةٌ وضـــاءةٌ وســــــــط الألـــى صــانـــوا مـــشــاعـــر كُــــلِ قـــلــــــبٍ طـــاهِــــــرِ
سيحوطنا بعنايـــــةٍ ورعَايــــــةٍ هو مُرتَقَانَا في المَكَانِ الزاهِــــرِ
الشعرُ عـــــادَ بعودهِ مُتكامِـــــلاً فكأن "بَارودي" صحا كالثائِــــرِ
عيشوا مَعَ النبراسِ أطْوَلَ وقتكم هو مُرشِــدٌ ومُنَــورٌ للحَائِــــــــرِ
ولتسمعوا مِنهُ مَحَاسِنَ شِعـــــرِهِ ذوقوا بــقــلبكمُ الهَوَى مِنْ شَاعِـــرِ
هذى الوفودُ من المشاعر قد أتَتْ يحدو بها أنغامُ شوقٍ غامِـــــــرِ
لترى مُكَافِح كلمةٍ يَشْدو بهَـــــا فكأنَـــهُ ينبوعُ فـَــــــنٍ آسِـــــرِ
أستاذنَا مقدامَنَــــــا لك حُبنَــــا شكرًا وشكرًا كل وقتٍ حاضرِ
فهو حقًّا الإنسان السَّمَاوي صابر عبدالدايم؛ إذ كلما عاشرتُ الكبار علمتُ عظمة َأستاذنا الدكتور صابر عبدالدايم وإنسانيته وأستاذيته النادرة المثال: طهارة لسان ورحابة جنان وجزالة لسان وبراعة قلم فينان، يأخذ بالصغير ليكبر، ويغرس فيه الطموح والثقة، ويكتشف المواهب ويطورها، ويقيم في كل مكان عكاظًا للأدب حيث حل وارتحل، يرتفع بمن حوله ويوظف ما حوله، فيكون في أعلى عليين بيننا. عظيمنا صابر عبدالدايم قيمة إسلامية أزهرية عربية مصرية في حياتنا. أسأل الله له القبول والتمكين والسداد والحضور الدائم المبهر في كل مجالات الحياة المصرية بإنسانيته وسماويته، وأن يُحفَظ من المتكلسين!
أعلى النموذج
أسفل النموذج
محمد الغرباوي وحداثة شعرية فريدة:
"عشرون ليلة في الأحزان "كتيب صغير" مكون من ثمان وستين صفحة من القطع الصغير لأخي الأكبر وزميلي/ محمد محمد محمود الغرباوي أخذته منه، وطالعته في رحلتي من الزقازيق إلى المنوفية في المواصلات، تلك الرحلة الشائقة والشيقة والإيجابية جدًّا، والفاعلة في سيرة حياتي: قراءة، وبحثًا، وإبداعًا، وتحضيرًا، وتقدمًا وتقديمًا!
وإثر انشغالي في المواصلات، سألني السواق: هل هذا كتاب حب؟! منفعلاً بإخراجه الطباعي البارز المتأنق!
فقلت: سؤال عجيب. إنه ديوان حب حزين أو غزل أليم. إنه تجربة شعورية إنسانية سامية فذة، تمتع بما فيها من صدق ووفاء وميل واستدعاء وتذكر وبوح وزفرات وأنات!
لمن هذا الديوان؟
لإنسان عاشرته في رحاب كلية اللغة العربية بالزقازيق تجمع بيننا حرفة الأدب، وعشق الجمال، النشوة بالحداثة والعصرنة، والرغبة في التطور والتطوير، والتألق والتنقية في إطار من الأصالة الرصينة والحداثة المنضبطة، إنسان شرقاوي جميل أصيل نبيل، تراه تتذكر القوام الأصيل، إنسان عربي الوجه واليد واللسان! تنظره فتلقى البشاشة والوضاءة والإقبال والكرم والصفاء والصدق.
كتب الله لنا -بلا تخطيط منا- أن نتشارك في أعمال تعليمية وعملية كثيرة، فكشفت لي تلك المشاركات عن جانب آخر في حياته جانب الحزم والجد والصرامة وإبراء الذمّة والإتقان، يصنع كل أموره العلمية والتعليمية بيده، ولا يترك شيئًا ينسب إليه إلا مصنوعًا على عينه وبقلمه...وأخذ يترقى أمامي سعادة وحيوية وباستحقاق! إلى أن كان الحدث العجيب: توليه العمادة ووفاة زوجه في يوم واحد. وما أدراك من هي زوجه؟ قصة رومانسية ملتزمة عجيبة منذ مطلعها حتى ختامها الدرامي هذا!
ماذا أفعل في هذه الحالة العجيبة؟ بأيهما أبدأ: بالتهنئة أم بالتعزية. تذكرت ابن نباتة في قصيدته الطريفة:
هناء محا ذاك العزاء المقدما فما عبس المحزون أن يتكلما
لكنني ألغيت التهنئة وقصرت مهاتفتي إياه على التعزية والمواساة، ثم ذهبت إليه أتألم له ومعه، فكان أن قلت له:
أمسك القلم يا شاعرنا؛ فالقلم سلواك ونجواك!
وما قلتها إلا لعلمي أنه لن يفعل غير ذلك، ولا يملك إلا القلم والدموع!
فكان هذا العمل الشعري الفريد الذي يأتي درة وغرة في مدونة فن رثاء الزوجة في شعرنا العربي بدءًا بجرير الأموي، وابن جبير الأندلسي، ومرورًا بعزيز أباظة في أناته الحائرة، وعبد الرحمن صدقي، ومحمد رجب البيومي، ثم كانت "عشرون ليلة في الأحزان" عبرات شعرية وزفرات نفسية تنتمي إلى المدرسة الرومانسية الحالمة الهائمة المنطلقة ذاتيًّا، المتدفقة وجدانيًّا!
وقد حدث ربانيًّا تميز غريب للدكتور محمد الغرباوي في غرض رثاء الزوجة؛ فقد روى لنا الدكتور محمد الغرباوي-عميد كلية اللغة العربية بالزقازيق- أنه عندما كان يسجل موضوعه للماجستير عن رثاء الزوجة في الشعر العربي ذهب إلى كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بالقهرة ليأتي بخطاب البراءة منها سأله الموظف: هل زوجتك ماتت لتختار هذا الموضوع؟ فأجاب الدكتور بكل عفوية لا، لم أتزوج بعد.
ويكتب القدر لأستاذنا وصديقنا أن يبتلى برحيل زوجته فيكتب ديوان شعر طريف في رثائها تحت عنوان"عشرون ليلة في الأحزان". ليجمع أستاذنا بين الدراسة الأكاديمية لرثاء الزوجة، والإبداع الشعري لهذا الغرض، محدثًا فرادة وتميزًا في تاريخ الشعر العربي بهذا الجمع الغريب الفريد.
ولعل الخواطر النقدية التالية تدل على ما قلته!
عتبة الغلاف:
غلاف مصنوع بفنية عالية، يغلب عليه اللون الأسود، وفي أعلاه صورة قلب مشروخ نصفين، وفي وسطه صورة عين دامعة، بادِ عليها الإرهاق والضنى والسهاد والأرق، والشحوب والنضوب!
وفي تذييل الغلاف صورة إنسان جالس منكسر أرق قلق، يهيمن عليه شعور ما وتفكير ما!
ولعل قصيدة (إظلام) تعطينا دلالة هذا الغلاف وتفسيره. يقول منها:
الصمتُ خيّم في الظلام الدامي |
|
والبيتُ صُمّ ولا يُجيب كلامي! |
فالإظلام ناتج عن "صمت إنساني وجمادي، وصمت في الأحلام والآمال، والزمن المريض!</</str