ارتشاف العجب من لامية العرب للشنفرى(1)

قراءة تحليلية نقدية

إعداد:

الدكتور/صبري فوزي أبوحسين

الباحث/أحمد حامد عطية<!--

<!--<!--<!--

بسم الله الرحمن الرحيم

1- أَقِيمُـوا بَنِـي أُمِّـي صُـدُورَ  مَطِيِّـكُمْ                 فَإنِّـي  إلى قَـوْمٍ سِـوَاكُمْ  لَأَمْيَـلُ

2- فَقَدْ  حُمَّتِ  الحَاجَاتُ  وَاللَّيْـلُ   مُقْمِـرٌ             وَشُـدَّتْ لِطِيّـاتٍ  مَطَايَـا  وَأرْحُلُ

3- وفي الأَرْضِ مَنْـأَى لِلْكَرِيـمِ  عَنِ  الأَذَى           وَفِيهَا  لِمَنْ  خَافَ  القِلَـى  مُتَعَـزَّلُ

4- لَعَمْـرُكَ مَا بِالأَرْضِ ضِيـقٌ على  امْرِىءٍ           سَرَى رَاغِبَـاً أَوْ رَاهِبَـاً وَهْوَ يَعْقِـلُ

5- وَلِي دُونَكُمْ  أَهْلُـون: سِيـدٌ  عَمَلَّـسٌ             وَأَرْقَطُ زُهْلُـولٌ  وَعَرْفَـاءُ  جَيْـأَلُ

6- هُـمُ الأَهْلُ  لا مُسْتَودَعُ  السِّـرِّ  ذَائِـعٌ             لَدَيْهِمْ وَلاَ  الجَانِي  بِمَا جَرَّ  يُخْـذَلُ

7- وَكُـلٌّ  أَبِـيٌّ   بَاسِـلٌ   غَيْـرَ  أنَّنِـي                إذا عَرَضَتْ أُولَى  الطَرَائِـدِ  أبْسَـلُ

8- وَإنْ مُـدَّتِ الأيْدِي إلى  الزَّادِ  لَمْ  أكُـنْ           بَأَعْجَلِهِـمْ إذْ  أَجْشَعُ  القَوْمِ  أَعْجَلُ

9- وَمَـا ذَاكَ  إلّا  بَسْطَـةٌ  عَـنْ   تَفَضُّـلٍ          عَلَيْهِـمْ وَكَانَ  الأَفْضَـلَ  المُتَفَضِّـلُ

10- وَإنّـي كَفَانِـي فَقْدَ  مَنْ  لَيْسَ   جَازِيَاً           بِحُسْنَـى  ولا  في  قُرْبِـهِ  مُتَعَلَّـلُ

11- ثَـلاَثَـةُ أصْحَـابٍ: فُـؤَادٌ  مُشَيَّـعٌ           وأبْيَضُ  إصْلِيتٌ  وَصَفْـرَاءُ  عَيْطَـلُ

12- هَتُـوفٌ مِنَ المُلْـسِ  المُتُـونِ  تَزِينُـها           رَصَائِعُ قد نِيطَـتْ  إليها  وَمِحْمَـلُ

13- إذا زَلَّ عنها  السَّهْـمُ حَنَّـتْ  كأنَّـها           مُـرَزَّأةٌ  عَجْلَـى تُـرنُّ   وَتُعْـوِلُ

14- وَأغْدو  خَمِيـصَ  البَطْن لا  يَسْتَفِـزُّنيِ           إلى الزَادِ حِـرْصٌ أو فُـؤادٌ مُوَكَّـلُ

15- وَلَسْـتُ بِمِهْيَـافٍ  يُعَشِّـي  سَوَامَـه          مُجَدَّعَـةً   سُقْبَانُهـا  وَهْيَ   بُهَّـلُ

16- ولا  جُبَّـأِ  أكْهَـى مُـرِبٍّ   بعِرْسِـهِ           يُطَالِعُهـا في  شَأْنِـهِ كَيْفَ  يَفْعَـلُ

17- وَلاَ خَـرِقٍ هَيْـقٍ  كَـأَنَّ   فــؤادَهُ              يَظَـلُّ به المُكَّـاءُ  يَعْلُـو  وَيَسْفُـلُ

18- ولا  خَالِــفٍ  دارِيَّــةٍ  مُتَغَــزِّلٍ                 يَـرُوحُ وَيغْـدُو داهنـاً  يَتَكَحَّـلُ

19- وَلَسْـتُ  بِعَـلٍّ  شَـرُّهُ  دُونَ  خَيْـرِهِ             ألَفَّ إذا ما رُعْتَـهُ اهْتَـاجَ  أعْـزَلُ

20- وَلَسْـتُ بِمِحْيَارِ  الظَّـلاَمِ  إذا  انْتَحَتْ           هُدَى الهَوْجَلِ العِسّيفِ  يَهْمَاءُ  هؤجَلُ

21- إذا  الأمْعَـزُ الصَّـوّانُ  لاقَـى مَنَاسِمِي            تَطَايَـرَ   منـه   قَـادِحٌ   وَمُفَلَّـلُ

22- أُديـمُ مِطَـالَ الجُـوعِ حتّـى أُمِيتَـهُ                 وأضْرِبُ عَنْهُ الذِّكْرَ  صَفْحاً  فأُذْهَـلُ

23- وَأَسْتَـفُّ  تُرْبَ الأرْضِ كَيْلا يُرَى  لَـهُ             عَلَـيَّ مِنَ الطَّـوْلِ امْـرُؤٌ مُتَطَـوِّلُ

24- ولولا اجْتِنَابُ الذَأْمِ لم يُلْـفَ  مَشْـرَبٌ            يُعَـاشُ بـه  إلاّ  لَـدَيَّ  وَمَأْكَـلُ

25- وَلكِنّ  نَفْسَـاً  مُـرَّةً  لا تُقِيـمُ  بـي                 علـى الـذامِ إلاَّ رَيْثَمـا  أَتَحَـوَّلُ

26- وَأَطْوِي على الخَمْصِ الحَوَايا كَما انْطَوَتْ          خُيُوطَـةُ  مـارِيٍّ  تُغَـارُ   وتُفْتَـلُ

27- وأَغْدُو على القُوتِ الزَهِيـدِ كما غَـدَا             أَزَلُّ  تَهَـادَاهُ   التنَائِـفَ   أطْحَـلُ

28- غَدَا طَاوِيـاً يُعَـارِضُ  الرِّيـحَ  هَافِيـاً             يَخُـوتُ  بأَذْنَابِ الشِّعَابِ ويُعْسِـلُ

29- فَلَما لَوَاهُ  القُـوتُ  مِنْ  حَيْـثُ  أَمَّـهُ             دَعَـا  فَأجَابَتْـهُ   نَظَائِـرُ   نُحَّـلُ

30- مُهَلَّلَـةٌ   شِيـبُ   الوُجُـوهِ  كأنَّـها                قِـدَاحٌ  بأيـدي  ياسِـرٍ  تَتَقَلْقَـلُ

31- أوِ الخَشْـرَمُ المَبْعُـوثُ حَثْحَثَ  دَبْـرَهُ           مَحَابِيـضُ أرْدَاهُـنَّ سَـامٍ مُعَسِّـلُ

32- مُهَرَّتَـةٌ   فُـوهٌ   كَـأَنَّ    شُدُوقَـها               شُقُوقُ العِصِـيِّ كَالِحَـاتٌ وَبُسَّـلُ

33- فَضَـجَّ وَضَجَّـتْ  بالبَـرَاحِ  كأنَّـها               وإيّـاهُ  نُوحٌ  فَوْقَ  عَلْيَـاءَ  ثُكَّـلُ

34- وأغْضَى وأغْضَتْ وَاتَّسَى  واتَّسَتْ  بـه          مَرَامِيـلُ عَـزَّاها  وعَزَّتْـهُ  مُرْمِـلُ

35- شَكَا وَشَكَتْ ثُمَّ ارْعَوَى  بَعْدُ  وَارْعَوَتْ           وَلَلْصَبْرُ  أن  لَمْ  يَنْفَعِ  الشَّكْوُ  أجْمَلُ

36- وَفَـاءَ  وَفَـاءَتْ  بَـادِراتٍ   وَكُلُّـها           على نَكَـظٍ  مِمَّا  يُكَاتِـمُ مُجْمِـلُ

37- وَتَشْرَبُ  أسْآرِي  القَطَا  الكُـدْرُ  بَعْدَما          سَرَتْ قَرَبَـاً  أحْنَاؤهـا  تَتَصَلْصَـلُ

38- هَمَمْتُ وَهَمَّتْ  وَابْتَدَرْنَـا  وأسْدَلَـتْ           وشَمَّـرَ   مِنِّي   فَـارِطٌ   مُتَمَهِّـلُ

39- فَوَلَّيْـتُ  عَنْها  وَهْيَ  تَكْبُـو  لِعُقْـرِهِ           يُبَاشِـرُهُ  منها  ذُقُـونٌ   وَحَوْصَـلُ

40- كـأنَّ  وَغَـاها  حَجْرَتَيـْهِ   وَحَوْلَـهُ          أضَامِيـمُ مِنْ سَفْـرِ القَبَائِـلِ  نُـزَّلُ

41- تَوَافَيْـنَ  مِنْ  شَتَّـى  إِلَيـْهِ  فَضَمَّـهَا          كما ضَـمَّ أذْوَادَ الأصَارِيـمِ مَنْهَـلُ

42- فَغَـبَّ غِشَاشَـاً  ثُمَّ  مَـرَّتْ  كأنّـها          مَعَ  الصُّبْحِ رَكْبٌ  مِنْ  أُحَاظَةَ  مُجْفِلُ

43- وآلَفُ  وَجْـهَ  الأرْضِ  عِنْدَ  افْتَراشِـها          بأَهْـدَأَ   تُنْبِيـهِ  سَنَاسِـنُ   قُحَّـلُ

44- وَأعْدِلُ  مَنْحُوضـاً  كـأنَّ  فُصُوصَـهُ           كعَابٌ  دَحَاهَا لاعِـبٌ  فَهْيَ  مُثَّـلُ

45- فإنْ  تَبْتَئِـسْ  بالشَّنْفَـرَى أمُّ  قَسْطَـلٍ           لَمَا اغْتَبَطَتْ بالشَّنْفَرَى  قَبْلُ  أطْـوَلُ

46- طَرِيـدُ  جِنَايَـاتٍ  تَيَاسَـرْنَ  لَحْمَـهُ           عَقِيرَتُــهُ   لأِيِّـها   حُـمَّ    أَوَّلُ

47- تَنَـامُ إذا  مَا  نَـامَ  يَقْظَـى  عُيُونُـها          حِثَاثَـاً   إلى   مَكْرُوهِـهِ   تَتَغَلْغَـلُ

48- وإلْـفُ هُمُـومٍ مـا  تَـزَالُ  تَعُـودُهُ           عِيَاداً كَحُمَّـى الرِّبْـعِ أو  هِيَ أثْقَلُ

49- إذا  وَرَدَتْ   أصْدَرْتُـها   ثـمّ   إنّـها          تَثُـوبُ فَتَأتي  مِنْ تُحَيْتُ ومِنْ  عَـلُ

50- فإمّا  تَرَيْنِي  كابْنَـةِ  الرَّمْـلِ  ضَاحِيَـاً          على  رِقَّـةٍ  أحْفَـى   ولا   أَتَنَعَّـلُ

51- فإنّي  لَمَولَى  الصَّبْـرِ أجتـابُ   بَـزَّهُ           على مِثْلِ  قَلْبِ  السِّمْعِ  والحَزْمَ  أفْعَلُ

52- وأُعْـدِمُ   أَحْيَانـاً   وأَغْنَـى  وإنَّمـا           يَنَـالُ  الغِنَى ذو  البُعْـدَةِ  المُتَبَـذِّلُ

53- فلا  جَـزِعٌ  مِنْ   خَلَّـةٍ   مُتَكَشِّـفٌ           ولا  مَـرِحٌ  تَحْتَ  الغِنَى   أتَخَيَّـلُ

54- ولا تَزْدَهِي الأجْهـالُ حِلْمِي  ولا  أُرَى           سَؤُولاًَ  بأعْقَـاب  الأقَاويلِ  أُنْمِـلُ

55- وَلَيْلَةِ  نَحْـسٍ  يَصْطَلي  القَوْسَ  رَبُّـها           وَأقْطُعَـهُ  اللَّاتـي  بِـهَا    يَتَنَبَّـلُ

56- دَعَسْتُ على غَطْشٍ  وَبَغْشٍ  وَصُحْبَتـي          سُعَـارٌ  وإرْزِيـزٌ  وَوَجْـرٌ   وَأفَكَلُ

57- فأيَّمْـتُ  نِسْوَانَـاً  وأيْتَمْـتُ   إلْـدَةً          وَعُـدْتُ كما  أبْدَأْتُ واللَّيْلُ  ألْيَـلُ

58- وأصْبَـحَ عَنّـي بالغُمَيْصَـاءِ  جَالسـاً           فَرِيقَـانِ: مَسْـؤُولٌ وَآخَرُ  يَسْـألُ

59- فَقَالُـوا: لَقَدْ  هَـرَّتْ  بِلَيْـلٍ  كِلَابُنَـا          فَقُلْنَـا: أذِئْبٌ عَسَّ أمْ  عَسَّ  فُرْعُـلُ

60- فَلَمْ  يَـكُ  إلاَّ  نَبْـأةٌ  ثُـمَّ  هَوَّمَـتْ           فَقُلْنَا: قَطَـاةٌ رِيـعَ أمْ رِيعَ  أجْـدَلُ

61- فَإِنْ يَـكُ مِنْ جِـنٍّ  لأبْـرَحُ  طارِقـاً          وإنْ يَكُ إنْسَـاً ما كَها  الإنسُ  تَفْعَلُ

62- وَيومٍ  مِنَ  الشِّعْـرَى  يَـذُوبُ  لُعَابُـهُ          أفاعِيـهِ  فـي  رَمْضائِـهِ  تَتَمَلْمَـلُ

63- نَصَبْـتُ له وَجْهي  ولا  كِـنَّ  دُونَـهُ          ولا سِتْـرَ إلاَّ  الأتْحَمِـيُّ  المُرَعْبَـل

64- وَضَافٍ إذا  طَارَتْ  له  الرِّيحُ  طَيَّـرَتْ           لبائِـدَ  عن  أعْطَافِـهِ  ما   تُرَجَّـلُ

 65- بَعِيـدٌ بِمَسِّ الدُّهْـنِ  والفَلْيِ  عَهْـدُهُ           لـه عَبَسٌ عافٍ مِنَ الغِسْل مُحْـوِلُ

66- وَخَرْقٍ كظَهْرِ  التُّـرْسِ  قَفْـرٍ  قَطَعْتُـهُ          بِعَامِلَتَيْـنِ،  ظَهْـرُهُ  لَيْسَ  يُعْمَـلُ

 67- فألْحَقْـتُ   أُوْلاَهُ   بأُخْـرَاهُ   مُوفِيَـاً          عَلَى  قُنَّـةٍ  أُقْعِـي  مِرَارَاً   وَأمْثُـلُ

68- تَرُودُ  الأرَاوِي  الصُّحْـمُ حَوْلي كأنّـها          عَـذَارَى  عَلَيْهِـنَّ  المُلاَءُ   المُذَيَّـلُ

69- ويَرْكُـدْنَ بالآصَـالِ  حَوْلِي  كأنّنـي           مِنَ العُصْمِ أدْفى  يَنْتَحي  الكِيحَ  أعْقَلُ

أولاً: ما قبل النص:

التعريف بالشنفرى:

هو ثابت بن أوس بن الحجر الأزدي، ولم يعرف تاريخ ولادته توفي عام 70 قبل الهجرة (525م)، وهو صعلوك جاهلي مشهور من قبيلة الأزد اليمنية، ويعني اسمه (غليظ الشفاه)، ويدل على أن دماء حبشية كانت تجري فيه.  وقيل في نشأته آراء مختلفة وروايات متباينة، منها أنه نشأ في قبيلة "فهم" بعد أن تحولت إليها أمه بعد أن قتلت الأزد والده، ويرجح أنه خص بغزواته بني سلامان الأزديين ثأراً لوالده وانتقامًا منهم، وقيل: إنه عاش ونشأ بين بنى سلامان من بنى فهم الذين أسروه وهو طفل صغير فلما شب عرف بقصة أسره فحلف أن يقتل منهم مائة رجل.  وكان الشنفرى سريع العدو لا تدركه الخيل حتى قيل: "أعدى من الشنفرى"، وكان يغير على أعدائه من بني سلامان برفقة صعلوك فتّاك هو تأبط شرًّا وهو الذي علمه الصعلكة، وقد عاش الشنفرى في البراري والجبال وحيدًا حتى ظفر به أعداؤه فقتلوه قبل 70 عامًا من الهجرة النبوية. ولا ريب في أن البيئة والمجتمع قد أثرا على الشنفرى، وبدا ذلك واضحًا في شعره فضلاً عن لاميته، تلك القصيدة التي تبدو فيها ملامح الصعلكة من ثورة على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي كانت في بيئته آنذاك، والغربة التي يشعر بها كل صعلوك عاش في بيئته، كما نجد فيها مفاخرته بنفسه وبأخلاقه وشجاعته.

"ومن خلال الروايات عن شخصية الشنفرى وظروفه نرى فيه شخصية فذة في عدة نواح، في قوة الإرادة إلى درجة غير مألوفة، ومن أمثلة ذلك تصميمه على قتل مائة رجل من بني سلامان وإنفاذ عزمه، وفي قوة تركيبه الجسمي، ومن أمثلة ذلك أنه كان يسبق الخيل في عدوه، وفي قوة عقليته وعمق تفكيره، ومن أمثلة ذلك أنه كما كانوا يصفونه كان يضرب به المثل في الحذق والدهاء. و يتقدم الشنفرى شعراء الصعاليك جميعًا بفضل شهرة قصيدته المطوله المعروفه باسم لامية العرب، واذا كانت كتب الأدب نقلت لنا قصائد ومقطوعات أخرى نسبت إليه فإن لامية العرب تظل هي المتفوقة في معالم الفن وبراعات اللغة الممتازة التي شهرت الشنفرى وأعلت من قيمة شعر الصعاليك عامة.

المناسبة التي قيل فيها النص:

شاءت الظروف لهذه الموهبة أن تعيش في أسوأ ظروف اجتماعية، أبرزها أنه صار مجرد أسير ذليل لا يملك حتى حريته، بل ازدادت الظروف قسوة عليه حين تعرض لحوادث اضطهاد وإذلال من بني سلامان حين تطلعت نفسه إلى الارتباط بإحدى فتياتهم، فاتجه إلى الصعلكة حتى كان من أبرز الصعاليك وأشهرهم على الإطلاق، صابًّا سخطه ونقمته على كل الناس ممثلين في بني سلامان. وخلال وحدته وتشرده في الصعلكة قال هذه اللامية، وهي ثمانية وستون بيتًا، فجاءت القصيدة مطابقة كل المطابقة لشخصيته بما فيها من مقومات، وعقليته بما فيها من عمق ونضوج، وظروفه بما فيها من قسوة وجفاف، حتى كانت القصيدة مرآة صقيلة نرى فيها الشنفرى وحياته بوضوح .

 

توثيق نسبة القصيدة إلى الشاعر:

تعرضت اللامية - مثلها مثل أشعار الجاهليين - للتشكيك "فذهب معظم الرواة إلى أنها للشنفرى، وقال ابن دريد: إنها لخلف الأحمر"، ومعلوم أن خلف الأحمر ممن اتُّهموا بنحل الشعر، فلعل ابن دريد يقصد أنه نحلها للشنفرى، وشكك بعض المستشرقين مثل "كرنكو" في اللامية بحجة أنها تفتقر لذكر أسماء المواضع والأعلام كما هي عادة الشعراء الجاهليين، بيد أن تحليلنا للقصيدة يثبت أن شعر الصعاليك ذو طبيعة خاصة تختلف عن غيره من الأشعار كما سيأتي آنفًا، فلا يتعلق بمثل هذا الرأي في الشك في كون القصيدة جاهلية. "ورجح الدكتور يوسف خليف كفة الشك في صحة نسبتها للشنفرى، واعتمد في ذلك على ثلاثة أشياء: الأول أن ابن دريد نسبها لخلف الأحمر ومعلوم أن ابن دريد قريب عهد بخلف! والثاني إغفال أبي الفرج الأصفهاني ذكر اللامية إغفالاً تامًّا رغم كثرة روايته لشعر الشنفرى، وأن لسان العرب حاد عن الاستشهاد بها رغم كثرة إيراد شعر الصعاليك. والثالث أن اللامية طويلة طولاً غير مألوف في شعر الصعاليك الذي كان مقطعات متناثرة، إلى جانب قلة الاضطراب في رواية ألفاظها وفي ترتيب أبياتها، وهي ظاهرة غير مألوفة في شعر الصعاليك".

ويبدو أن هذا الكلام يحتاج إلى وقفة متأنية؛ إذ أن الدكتور يوسف خليف لم يستقص ما يخص اللامية في التراث جيدًا، فقد ذكر أن "لسان العرب" لم يورد شيئًا من اللامية في استشهاداته، رغم وجودها فيه، فقد وردت ثلاثة أبيات من القصيدة هي:

ولا جُبَّأٍ أكْهَى مُرِبٍّ بعِرْسِهِ                 يُطَالِعُها في شَأْنِهِ كَيْفَ يَفْعَلُ

أَو الخَشرَمُ المَبعوثُ حَثحَثَ دَبرَهُ           مَحابيضُ أَرداهُنَّ سامٍ مُعَسَّلُ

وأصْبَحَ عَنّي بالغُمَيْصَاءِ جَالساً               فَرِيقَانِ: مَسْئُولٌ وَآخَرُ يَسْألُ

 كما أن إغفال الأصفهاني لا يعني أن الأصفهاني أورد كل ما وجد من الأشعار العربية القديمة، فقد فاتته أشعار كثيرة بالتأكيد، وإن كان ابن دريد نسبها إلى خلف الأحمر فقد نسبه معظم الرواة إلى الشنفرى، فلماذا لم يأخذ برأي الأغلب؟! أما طول القصيدة وقلة الاضطراب في روايتها فنراه ميزة اجتمعت في القصيدة أدى لتميزها ولا يعني بالضرورة نحلها، إذ أن كثيرًا من الشعر المنحول مضطرب في روايته!

وقد أورد الدكتور إميل بديع يعقوب في تحقيقه لديوان الشنفرى عدة أسباب تقرر نسبة اللامية إلى الشنفرى، منها:

1- كثرة العلماء القدامى والمحدثين الذين نسبوها إليه.

2- تصوير اللامية للبيئة العربية الصحراوية القاحلة.

3- كون اللامية جاهلية العواطف والقالب.

4- ورود اسم "الشنفرى" في القصيدة:

فإنْ تَبْتَئِسْ بالشَّنْفَرَى أمُّ قَسْطَلٍ           لَمَا اغْتَبَطَتْ بالشَّنْفَرَى قَبْلُ أطْوَلُ

5- في بعض أبياتها جواز نعهده في الشعر الجاهلي من إبدال "مفاعلن" الأولى أو الثالثة من البحر الطويل بـ "فاعيلن"، وهو جواز لا نجده في الشعر الإسلامي لتحولهم عن طريقة الجاهليين في الإنشاد.

6- عدم التصريع في البيت الأول منها، ولعل عادة التصريع لم تكن متبعة في زمن الشنفرى، فتكون القصيدة من أقدم الشعر الجاهلي.

7- ما فيها من صدق العاطفة ودقة التصوير وروعته يبعدها عن النحل.

ومهما يكن من شيء فإن ما يعنينا في دراستنا ما تحويه القصيدة من صور فنية وإبداعية استطاع بها الشاعر أن يعبر عن فكرته ورؤيته للحياة، ومن ثم نكشف الأسباب الكامنة خلف وصول هذه القصيدة لما وصلت إليه من مكانة جعلتها تزاحم أقوى القصائد الجاهلية.

سبب التسمية :

لا يُعرف سبب تسميتها بـ "لامية العرب"، فهناك قصائد لامية نسبت لشعراء جاهليين عديدين مثل عنترة وزهير وكعب، ولكن ربما أطلق على لامية الشنفرى هذا الاسم لأنها عبّرت أشد تعبير عن حياة العرب الجاهلية بما فيها من ظروف وأخلاق وطباع. وتاريخ هذه التسمية تقريبًا يرجع إلى القرن الذي عاش فيه الزمخشري(467_538هـ)، والذي ظهرت فيه لامية العجم للطغرائي(ت513هـ).وللنزعة الشعوبية دور في هاتين التسميتين بلا شك.

ثانيًا:مع النص:

 

 

البناء الموسيقى للقصيدة:

1-     القصيدة من البحر الطويل، وهو بحر فخم جزل  يدل على أن الشاعر فحل في الإبداع وفيه متسع لعرض تجربة الشاعر الحياتية الكبيرة.

2-     قافيتها مطلقة محركة بالضم  " أي متحركة الروي " تتكون من اللام رويًّا والواو الناشئة عن إشباع حركة الروى وصلاً، و كون القافيه مطلقة بالضم تناسب حالة التحرر والانطلاق والانفلات التي يعيشها الشاعر باعتباره أمير الصعاليك أي المتحررين الخارجين على أعراف القبيلة.  

وواضح أن الشاعر هنا قد يكون متأثرًا بمعلقة امرئ القيس في وزنها وقافيتها

قفا نبك من ذِكرى حبيب ومنزل                          بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخول فحَوْملِ

البناء الفكرى للقصيدة:

هذه القصيدة تتكون من تسعة وستين بيتًا، تدور حول أفكار أربعة، هي:

1-   من البيت الأول إلى السادس: رحيل الشاعر عن القبيلة إلى بيئة جديدة.

2-   من البيت السابع إلى البيت السادس والعشرين: فخر ذاتي ( صورة شعرية عن شمائله النفسية والجسدية والاجتماعية ) .

3-   من البيت السابع والعشرين إلى البيت السادس والثلاثين: ( لوحة الذئب )

4-   من البيت الخامس والأربعين إلى البيت التاسع والستين: ( مظاهر صعلكة الشنفرى )

البناء الفنى :

القصيدة سيرة شعرية ذاتية من مطلعها حتى ختامها, جاءت مقدمتها في ستة أبيات عن وصف الرحلة عن القبيلة إلى بيئة جديدة، ومن العجب أن ينتقل من بيئة إنسانية إلى بيئة حيوانية حيث يقول :

وَلِي دُونَكُمْ  أَهْلُـون: سِيـدٌ  عَمَلَّـسٌ             وَأَرْقَطُ زُهْلُـولٌ  وَعَرْفَـاءُ  جَيْـأَلُ

هُـمُ الأَهْلُ  لا مُسْتَودَعُ  السِّـرِّ  ذَائِـعٌ             لَدَيْهِمْ وَلاَ  الجَانِي  بِمَا جَرَّ  يُخْـذَلُ

ثم انتقل إلى الغرض الأساس من القصيدة، وهو الفخر الذاتي وفخره من صعلكته. وقد جاء الانتقال عن طريق أسلوب الاستثناء بغير قائلاً:

وَكُـلٌّ  أَبِـيٌّ   بَاسِـلٌ   غَيْـرَ  أنَّنِـي                إذا عَرَضَتْ أُولَى  الطَرَائِـدِ  أبْسَـلُ

ويوجد في القصيدة اسلوب الاستطراد عند تناوله لوحة الذئب ثم لوحة القطا، ولعل لهما علاقة بحياة الصعلكة حيث يكون الذئب معادلاً موضوعيًّا لكل صعلوك, والقطا هي انيسه في هذه البيئة القاسية، كأنها بديل القبيلة أو أمه أو زوجه أو أسرته, وكل من فقدهم في بيئته الأساسية الأولى.

التحليل الموضعي للنص:

الفكرة الاولى:    

                                     " رحيل عن القبيلة إلى بيئة جديدة "

1-أَقِيمُـوا بَنِـي أُمِّـي صُـدُورَ  مَطِيِّـكُمْ                 فَإنِّـي  إلى قَـوْمٍ سِـوَاكُمْ  لَأَمْيَـلُ

بنو الأم: الأشقاء أو غيرهم ما دامت تجمعهم الأم، واختار هذه الصِّلة لأنًها أقرب الصِّلات إلى العاطفة والمودَّة. والمطيّ: ما يُمتَطى من الحيوان، والمقصود بها، هنا، الإبل. والمقصود بإقامة صدورها: التهيؤ للرحيل .

والمعنى: أفيقوا يا قوم من غفلتكم عنى وترك مناصرتكم لي؛ فإن ذلك مما يوجب مفارقتى لكم والميل إلى سواكم وإن كان من أعدائكم.

2-فَقَدْ  حُمَّتِ  الحَاجَاتُ  وَاللَّيْـلُ   مُقْمِـرٌ             وَشُـدَّتْ لِطِيّـاتٍ  مَطَايَـا  وَأرْحُلُ

حُمَّت: قُدِّرتْ ودُبِّرت. والطِّيَّات: جمع الطِّيَّة، وهي الحاجة، وقيل: الجهة التي يقصد إليها المسافر.الأرْحل: جمع الرحل، وهو ما يوضَع على ظهر البعير. وقوله:" واللَيل مقمِر " كناية عن تفكيره بالرحيل في هدوء، أو أنه أمر لا يُراد إخفاؤه.

والمعنى: لقد قُدِّر رحيلي عنكم، فلا مفرّ منه، فتهيؤوا له .والمقصود من هذا البيت توبيخ قومه على ما وقع منهم من التفريط.

3- وفي الأَرْضِ مَنْـأَى لِلْكَرِيـمِ  عَنِ  الأَذَى           وَفِيهَا  لِمَنْ  خَافَ  القِلَـى  مُتَعَـزَّلُ

المَنأى: المكان البعيد على أنه اسم مكان أو بعد على أنه مصدر ميمى. الكريم: الكامل في صفات المجد. عن الأذى: أي عن الذل والإهانة. وفيها: أي الأرض. لمن خاف: أي ظن أو علم القِلى: البغض والكراهية ممن ساكنه من قومه ومن غيرهم. والمتعزِّل: المكان لمن يعتزل الناس. والبيت فيه حكمة: وهى  أن الكريم يستطيع أن يتجنب الذلّ، فيهاجر إلى مكان بعيد عمَّن يُنتظر منهم الذلّ، كما أن اعتزال الناس أفضل من احتمال أذيتهم.

4- لَعَمْـرُكَ مَا بِالأَرْضِ ضِيـقٌ على  امْرِىءٍ           سَرَى رَاغِبَـاً أَوْ رَاهِبَـاً وَهْوَ يَعْقِـلُ

لعمرك: اللام للقسم والعمر الحياة والمعنى: أقسم بحياتك, ضيق: ضد السعة، وأراد به موضع الذل منها, أي ليس في جميع جهاتها بل في البعض القليل منها دون الكثير، فهو من قبيل سلب العموم ونفى الشمول. على امرئ: أي شخص أو المراد الذكر خاصة لأن الأنثى تابعة له غالبًا في السفر والإقامة. سرى: أي سار في الليل أو النهار مفارقًا مكان الذل إلى مكان العز. وأصل سرى: السير في أول الليل, وأسرى للسير في آخره, وقيل: هما لغتان بمعنى السير في الليل مطلقًا, وهى نعت لامرئ. راغبًا: أي سار عن محبة واختيار. راهبًا: سار عن كراهية واضطرار, وهما حالان من الضمير في سرى. وهو يعقل: أي ذو فهم لما يرغب فيه من الأمور الحسنة أو يرهب منه من الأمور القبيحة، وهى حال إما من الضمير في سرى أو من الضمير في راغبًا أو راهبًا.

وأشار بهذا إلى أن الضيق لا ينتفي عنه إلا إذا كان ذا عقل يميز به بين الحسن والقبيح, وأما الجاهل فالأرض كلها ضيق بالنسبة إليه لأنه كثيرًا ما يرى القبيح حسنًا والحسن قبيحًا، فيقع في الضيق والحرج. ثم أخذ يبين القوم الذين اختارهم على قومه فقال:

5- وَلِي دُونَكُمْ  أَهْلُـون: سِيـدٌ  عَمَلَّـسٌ             وَأَرْقَطُ زُهْلُـولٌ  وَعَرْفَـاءُ  جَيْـأَلُ

أهلون: جمع أهل بمعنى قوم وهو مبتدأ مؤخر. لي: خبر مقدم. دونكم: حال من الضمير في متعلق الخبر.

المعنى: ولي أهلون يغايرونكم في الجنس والصفة, ثم بينهم بما أبدله منهم في قوله: "سيد" اسم للذئب .أرقط: قيل هو الحية التي فيها نقط بياض وسواد. الزهلول: الأملس والخفيف. الرقط: كل لونين مختلفين. عرفاء: الضبع الطويل العرف. جيأل: اسم للضبع. وقد بالغ الشاعر في وصف قوته بكمال الضرر وشدة الإيذاء حيث اختار هذه الحيوانات الضارة عليهم وأثرها عليهم في الصحبة . ثم شرع يبين وجه اختيار هذه الحيوانات على قومه فقال:

6- هُـمُ الأَهْلُ  لا مُسْتَودَعُ  السِّـرِّ  ذَائِـعٌ             لَدَيْهِمْ وَلاَ  الجَانِي  بِمَا جَرَّ  يُخْـذَلُ

هم: أي هؤلاء الحيوانات, وعبر عنهم بضمير العقلاء لأنهم بمنزلتهم بل خير من كثير منهم كقومه. الأهل: أي الناصحون المعتد بهم والجدير بحكم الأهلية. مستودع السر: أي مخفيه.

والشاعر في هذا البيت يقارن بين مجتمع أهله ومجتمع الوحوش، فيفضل هذا على �

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 704 مشاهدة
نشرت فى 30 إبريل 2015 بواسطة sabryfatma

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

337,339