وسطية المبنى والمعنى في ديوان (عيون القلب) للدكتور جابر البراجة
أ.د/صبري فوزي أبوحسين
أستاذ الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة الساداتــ
ــــــــــــــــــــــــــــ
كيف ندخل إلى شعر عالم لغوي أزهري قُحٍّ؟! عالم له -مع العربية متنًا وبِنية وتركيبًا- تاريخ من البحث والدرس والتدريس، في رحاب التعليم الجامعي الأزهري العتيق والعريق جامعًا وجامعة، وفي رحاب جامعات محلية وعربية أخرى. إنه أستاذنا الدكتور جابر محمد محمود البراجة، عميد كلية الدراسات العربية والإسلامية للبنات بالقرين، بمحافظة الشرقية الأسبق، حفظه الله وزاده، صاحب هذا الديوان الطازج السادس(عيون القلب)، فماذا سيقول عالم أزهري لغوي في شعره؟ وكيف سيقول؟ هذان سؤالان يردان على خاطر من يطالع ديوانًا طازجًا لأستاذنا في صورته الأولى، عنوانه(عيون القلب)! وإن من يطالع هذا الديوان عبر الثنائية المتلازمة: الشكل والمضمون، يرى الوسطية مهيمنة عليه جملة وتفصيلاً؛ إذ يجده وسطًا وسطية دالة معبرة، وسطًا في لغته، وسطًا في إيقاعه، وسطًا في فكره، وسطًا في صوره، وسطًا في كمِّه، يعبر عن أزهري ريفي وسط، وتخرج منه -كمتلق- بروح وسطية تأخذ خبرة مخضرمة عن الحياة والأحياء، وسبل الحركة خلالهما! وفي المجمل أراه ديوانًا وسطًا في مبناه ومعناه. وهاك بيان تلك الوسطية وأدلة نصية عليها:
• (عيون القلب) ديوان مكون شكليًّا من خمسين قصيدة من الشعر العربي العتيق المحافظ في (قالبها العروضي)، حيث نظام البيت، ونظام القافية الموحدة، جاء ثمان وثلاثون منها على نسق البحر الوافر، وعشر على نسق البحر الكامل، وواحدة على نسق الرمل، وجاء أربعة منه في القالب المجزوء، والباقي في القالب التام. والحق أن الأبحر الثلاثة(الوافر، الكامل، الرمل) أبحر غنائية سيَّارة، تشيع في شعرنا الماضي والحاضر، وهي أبحر مؤهلة بنظامها العروضي اليسير للحضور مستقبلاً! إنها أبحر صالحة للتعبير عن مرادات كثيرة، منها المرادات الوعظية الحِكَمية، والمرادات الوجدانية الغزلية، التي تدور حولها تجارب الديوان المقروء...
• والسلامة العروضية أمر مفروغ منه عند شاعر متخصص في العروض والقافية ومؤلف فيهما! لكن تبقى الضرائر العروضية موجودة في الديوان، حيث نجد حذف حرف المد في (صنتني) في قوله:
حَمَانِى دِرْعُكِ الْوَاقِى
(وَصُنْتِنِي) بَيْنَ أحْدَاقِ
وفي (فليتني) في قوله:
(فَلَيْتَنِي) فِى رِحَابِ الْمُحْسِنِينَ
أَسِيرًا أسْتَقِى نَيْلَ الأَمَانِى
وفي(سمواته) في قوله:
وَسَمَا بِهِ فَأَرَاهُ فِى (سَمَوَاتِهِ)
رُسُلاً بَدَتْ فِى سَائِرِ الأَزْمَانِ
ونجد ضرورة قطع همزة الوصل في (الإهْتِدَاء) في قوله:
فَمَنْ يَسْلُكْ طَرِيقَ الْعِلْمِ يَنْجُو
وَيَرْفَعْ رَايَةً (لِلإهْتِدَاء)
وفي لفظ(الانصهار) في قوله:
فَإِنْ تَبْغِ الْمَحَبَّةَ فِى الْقُلُوبِ
فَقُمْ وارفع شِعَارَ (الإنْصِهَارِ)
ونجد
ونجد وصل همزة القطع في قوله:
وَدِدْتُ لَوَ (انَّنِي) وَقْتَ الْوَبَاء
أَرَى قَيْدَ احْتِرَازٍ فِي اللِّقَاء
ونجد الاضطرار إلى جمع أمل على (أمال) بالهمز وليس المد، في قوله:
دَعَوْتُكَ أَنْ تُحَقَّقَ لِى (أَمَالِى)
وَتُلْهِمَنِى الصَّوَابَ بِلا سُؤَالِ
وفي قوله:
فَكُنْ لِى يَا إلهِى خَيْرٌَ عَوْنٍ
يُسَاعِدُنِى عَلَى نَيْلِ (الأَمَالِى)
وفي قصيدة (ليلة القدر) نجد تنوعًا في حركة الحرف الذي قبل حرف الروي، والأولى توحيد الحركة! كما أن المعهود-تراثيًّا- في القصائد المختومة بالكاف أن يُلتَزَم قبلَها حرفٌ آخرُ؛ لأنها غالبًا ما تكون حرف خطاب، وليست أصلاً في كلمة القافية! ويحسب للشاعر في هذه القصيدة لجوؤه إلى التقفية والتصريع في مطلع القصيدة وداخلها!
وفي (عتبة العناوين) نجد العفوية والخطابية في صياغة العنوان بادية في تجارب: (مناجاة ودعاء/علاَمات الحب الإلهي/فضل الصلاة على النبي/في حب الرسول صلى الله عليه وسلم/أهل القرآن/ليلة القدر/رمضان شهر النصر/ على عرفات/شهر الصدق/ هبات الله/الخطاؤون الأوابون/ طموح المحسنين)؛ حيث الدلالة على الغرض من التجربة مباشرة! وفي تجارب أخرى نجد التأنق في صياغة العنوان كما في تجارب(عيون القلب/شهد الوصال/ عودة الذئب/ عروس السماء/جفت الدموع)؛ حيث نجد اللغة المجازية الشاعرية الهائمة! وهذا الهيام نجده في كثرة لفظ القلب في كثير من عناوين التجارب مثل (عيون القلب/تطهير القلوب/هدوء القلب/سلامة القلب)، كما نجد ألفاظ الحب والشوق والجمال في عناوين التجارب بعد الأحباب (النظر إلى الحب/ هجران الأحبة/ عود الحبيب/سحر العين وجمال الوجه/أشواق/ ديار الحب).
والعنوان الرئيس للديوان (عيون القلب) عنوان القصيدة الأولى، وفيها مجاز استعاري، وما القلب إلا قلب شاعرنا، وما عيونه إلا رؤاه وخواطره، في مرحلته العمرية الحكيمة المُعتَّقة المُعْرِقة، ولعل مقدمة القصيدة دالة على هذا التفكيك للديوان، حيث يقول:
عُيُونُ الْقَلْبِ تَرْقُبُ فِي الْخَفَاء
وَتَرْصُدُ مَا رَأَتْهُ بِلا افْتِرَاء
وَتُعْطِى الْقَلْبَ مَا يَصْبُو إلَيْهِ
عَنِ الأَحْبَابِ أَوْ قُرْبِ اللِّقَاء
فَعَيْنُ الْقَلْبِ مِرْآةٌ تُرِينَا
شَفّافِيَةَ الْقُلُوبِ بِلا عَنَاء
ففي هذه الأبيات الثلاثة تكثيف لمنهج الشاعر في مجمل الديوان، وبيان لمقصوده من عنوانه!
أما عن (المعجم الشعري) في الديوان فهو مكون من ألفاظ واضحة مبينة سيًّارة، وما كان فيه من جزالة قام شخص المعلم في (شاعرنا) ببيانها في الهامش! كما في استخدامه لفظة الحِماء(مصدر حامى عنه) في قوله من قصيدة (سقم النفس):
وَلا تُبْعِدْ سَقِيمًا عَنْ حِمَاكَ
لَعَلَّ السُّقْمَ يُبْرِئُهُ( الْحِمَاء)
وكذا نجد في تجارب الديوان ألفاظ (التأبي: الامتناع/سيجبي: سيجلب/ينحسر: ينكشف/القراح: الماء الصافي/سآم: ملل/غرام: شر دائم أو عذاب/وجاء: الدفع باليد في الصدر/...) وهي محدودة ومعدودة إذا ما وزنت بالكمِّ الكبير من الألفاظ الواضحة البيِّنة!
وتوجد ألفاظ دالة على تخصص أستاذنا العلمي حيث صيغة المبالغة(غدور)، وتصغير قلب(قليب)، والمصدر السماعي(تملاق)، في قوله:
فَلَمْ يَلْفَظْ بِبِنْتٍ للشِّفَاهِ
تُسِىء إلَى حَبِيبٍ أَوْ (غَدُورِ)
وقوله:
قَلِيلٌ مَنْ يَكُونُ لَهُ (قُلَيْبٌ)
يُضَارِعُهُ سِوَى قَلْبِ الْمِلاحِ
وقوله:
وَأَنََّ الْحُبَّ لا يُشْرَى
وَلا يَأْتِى (بِتِمْلاقِ)
ومن الصور الفنية الجميلة في الديوان قصيدة (عَرُوسُ السَّمَاء) في رثاء لابنة الأستاذ الدكتور أبوزيد شحاتة، رئيس قسم اللغويات والزميل الحبيب في كلية اللغة العربية بالزقازيق؛ فقد جاءت دفقة شعورية واحدة، قال في مقدمتها:
عَرُوسُ الدَّارِ زُفَّتْ لِلسَّمَاء
وَرَاحَتْ تَسْتَزيدُ مِنَ الضِّيَاء
فَقَدْ لَبَّتْ نِدَاء الْحَقِّ فَوْرًا
فَبَاتَ الْقَلْبُ يَجْهَرُ بِالْدُّعَاء
وَظَلَّتْ أَعْيُنُ الأَحْبَابِ تَرْنُو
عَرُوسًا سَوْفَ تَنَعَمُ بِاللقاء
ففي هذا المقام الحزين نجد شاعرنا يستعين باللغة المجازية الشاعرية ليقوم بدور المخفف والملطف والمعزي والمواسي، فليست الابنة الراحلة إلا عروسًا، وليست من أهل الأرض بل من أهل السماء، وليست وحيدة منفردة بل الكل حولها والكل معها، والكل داع لها بالنعيم المقيم! وكذا كان نهج شاعرنا التصويري في قصيدة (جَفَّتِ الدُّمُوعُ) في رثاء ابنة الدكتور هيثم أبوسالم، ألهمه الله الصبر والسلوان...
وبهذه السياحة العجلى في العناصر الشكلية بالديوان يتبين لنا هيمنة الوسطية على شكل الديوان محافظة وسلامة وثباتًا في عناصره العديدة معجمًا وإيقاعًا وتعبيرًا وتصويرًا، فلا عامية، ولا كسور عروضية، ولا تنافر حروف أو تنافر كلمات أو تعقيد لفظ أو مخالفة قياس أو ضعف تأليف!
وسطية المعنى
عندما نعيش مع تجارب الديوان فكريًّا نجدها وسطية في رؤيتها، حيث تنوعت في توجهات فكرية طبعية مناسبة لشخصية المبدع ومرحلته العمرية، وظروف زمنه؛ حيث توجد التجارب الاجتماعية، (عروس السماء/جفت الدموع/أهل السماح//الرضا بالمقسوم/الرضا بالحلال/يوم الرضا/تقدير الأمور/قضاء حوائج الناس/ رد التحية والسلام)، و التجارب التي يمارس فيها شاعرنا النقد لنماذج بشرية سلبية (شهود الزور/ طبع اللئام/ اللدد في الخصام/تناقض/كره العتاب)، ومن التجارب الذاتية (لزوم الصمت/دموع ونقاء/سقم النفس/طلب الشفاء/ حسن الخواتيم)، وهناك تجارب حكمية، وثانية وجدانية، وثالثة دينية، وقد تدرج بنا شاعرنا في ديوانه، دينًا فمجتمعًا فذاتًا، فوجدانًا، بَوْحًا ونُصحًا؛ فبعد القصيدة الأم المفتاح للديوان، والتي تكثف رؤية الشاعر، والتي عنون بها الديوان(عيون القلب) نجد الشاعر يعمد إلى البدء بتجارب التوجه الروحي الإسلامي، حيث المناجاة والابتهال لله تعالى، والصلاة على النبي، والثناء على أهل القرآن، والانفعال الطيب مع شعائر الإسلام ومناسباته، في تجارب: (شهد الوصال/مناجاة ودعاء/علاَمات الحب الإلهي/فضل الصلاة على النبي/في حب الرسول صلى الله عليه وسلم/أهل القرآن/ليلة القدر/رمضان شهر النصر/ على عرفات /الخطاؤون الأوابون/ طموح المحسنين/ صوت المؤذن)...وما أجمل قول شاعرنا!
فَمَنْ يَكُنِ الرَّسُولُ لَهُ إمَامًا
فَلا يَهْوِى لَهُ أَبَدًا سَنَامُ
ويمارس شاعرنا دوره في التوجيه والتعليم والتربية والعلاج بالشعر، فيخص القلب بقصائد ثلاثة هي: (تطهير القلوب/هدوء القلب/سلامة القلب). وتأتي قصيدة شهر الصدق فريدة في فكرتها حيث الدفاع عن شهر إبريل، حيث يراه شهر الصدق وليس الكذب، فقد ولد في العشرين منه الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، يقول أستاذنا:
وَفِى إبْرِيلَ ظَنَّ الْبَعْضُ شَرًّا
فَكَيْفَ وَقَدْ حَبَاهُ اللَّهُ خَيْرَا
فَقَدْ وُلِدَ الْحَبِيبُ وَحَلَّّ فِيهِ
فَنَالَ بِمَوْلِدِ الْمَحْبُوبِ قَدْرَا
ثم يقول مبينًا زعم المغرضين:
فَقَدْ زَعَمُوا بِأَنَّ النَّاسَ ضَلُّوا
إذِ انْتَهَجُوا طَرِيقًا صَارَ أَمْرَا
فَفِى أَبْرِيلَ زَانَ الْكَوْنَ نُورٌ
فَصَارَ النُّورُ فِى الأرْجَاء بَدْرَا
خَسِئْتُمْ هَلْ تَزِيغُ عُيُونُ قَوْمِى
فَنُورُ مُحَمَّدٍ يَزْدَادُ نَشْرَا
فَأَرْجَاء الدُّنَا تَخْتَالُ فَرْحًا
فَقَدْ سَعِدَتْ بِنُورِ الْحِبِّ عُمْرَا
ويأتي البعد الوطني ماثلاً في قصيدة (هبات الله) التي تدور حول نهر النيل الخالد، حيث يقول شاعرنا بطريقة إيمانية راسخة:
هِبَاتُ اللَّهِ تَسْرِى فِى حِمَاهُ
بِأَمْرِهِ لا بِأَمْرٍ مِنْ سِوَاهُ
وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ حُكْمٌ عَلَيْهَا
فَكُلُّّ الْكَوْنِ بَيْنَ يَدَىْ قَضَاهُ
فَلا يُغْضِبْكَ حُكْمٌ فِيهِ جَوْرٌ
فَحُكْمُ اللَّهِ يُدْحِضُ مَا عَدَاهُ
فَنَهْرُ النِّيلِ فِى الأرْجَاء يَجْرِى
بِأَمْرِ اللَّهِ نَحْوَ مَنِ اِجْتَبَاهُ
فَمَنْ يَسْعَى لِمَنْعِ الْمَاء عَنْهُ
سَيَقْصِمُهُ الإلهُ بِمَا جَنَاهُ
فنهر النيل جار بقدر الله تعالى وقدرته، هو الذي يسيره وهو الذي يجري ماءه، وهو الرحيم اللطيف الخبير عز وجل، ولن يضيع مصر أو أهلها حاضرًا أو مستقبلاً، ومن ثم كان نهي شاعرنا الإرشادي التطميني:
فَلا تَهِنُوا فَأَنْتُمْ فِى أَمَانٍ
فَفَضْلُ اللَّهِ لَمْ يُدْرَكْ مَدَاهُ
وتأتي قصيدة (بلادي) نشيدًا وطنيا غنائيا ماتعًا صالحًا لأن يدرس في المرحلة الابتدائية، مع بعض تعديل ليناسب هذه المرحلة العمرية من ناشئتنا، حيث يقول في مطلعه:
حَمَانِى دِرْعُكِ الْوَاقِى
وَصُنْتِنِى بَيْنَ أحْدَاقِ
وَأَسْقَيْتِ الثَّرَى حُبًّا
لِتَنْمُوَ فِيهِ أَوْرَاقِى
فَكُنْتِ الْحِصْنَ وَالْحُضْنَا
وَكُنْتِ الْمَوْرِدَ السَّاقِى
وما أجمل وأمتع قول شاعرنا الدكتور جابر:
فَأَنْتِ الْمَصْدَرُ الأَصْلُ
وَأَنْتِ الْمَنْبَعُ الرَّاقِى
وَأَنْتِ الْعَهْدُ وَالْوَطَنُ
وَأَنْتِ مَكَانُ إشْرَاقِى
فَكَيْفَ أَعِيشُ فِى بُعْدٍ
وَأُسْكِتُ كُلَّّ أَبْوَاقِى
وَلَمْ أُظْهِرْ لَكِك الْفَضْلا
وَلَمْ أُسْكِنُكِ أَعْمَاقِى
ومن التجارب الدالة على انفعال الشاعر مع مجريات عصره وأحداث زمانه تلك التجارب الثلاث الخاصة بالحديث عن الوباء الكوني(كورونا)، المعنونة بـ (طرق الوقاية/إنذار وتحذير/قرب النهاية)، وهو ينطلق منطلقًا نقديًّا اجتماعيًّا في هذه التجارب كما في قوله:
وَدِدْتُ لَوَ انَّنِى وَقْتَ الْوَبَاء
أَرَى قَيْدَ احْتِرَازٍ فِى اللِّقَاء
فَلَمْ يَهْزَأْ صَدِيقٌ بِالْقُيُودِ
وَلا يَسْخَرْ بِقَيْدٍِ الانْطِوَاء
وَلا يُبْدِ التَّوَاكُلَ لِلْعَيَانِ
فَيَقْضِى بِانْتِشَارٍ لِلْوَبَاء
فَيُصْبِحُ عَرْضُهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ
لِدَاء قَدْ يُصِيبُهُ فِي الْخَفَاء
فَلا يَدْرِى سَبِيلاً لِلْخُرُوجِ
وَلَمْ يَعْرِفْ طَرِيقًا لِلدَّوَاء
وما أقسى هذه الصورة الكورونية وآلمها! في قوله:
فَكَمْ خَطَفَ الْوَبَاء مِنَ الْعُيُونِ
ضِيَاء كَانَ يَمْلأُ كُلَّّ قَلْبِ
فَأَصْبَحَتِ الْقُلُوبُ بِلا عُيُونٍ
تُرِيهَا مَا يُسِيء لِكُلِّّ حِبِّّ
فَمَنْ فَقَدَ الأَحِبَّةَ قَدْ يَمُوتُ
مِنَ الْخَوْفِ الَّذِى لِلْقَلْبِ يَسْبِي
فَيَمْضِي فِي الدِّيَارِ بِغَيْرِ وَعْيٍ
وَيَشْعُرُ أَنَّهُ فِي دَارِ حَرْبِ
ومن التجارب الغزلية الطريفة بالنسبة إلى عمر شاعرنا، والدالة على صدقه في بوحياته! (بعد الأحباب/النظر إلى الحب/ديار الحب/هجران الأحبة/عود الحبيب/سحر العيون وجمال الوجه)، يقول في نظرته إلى الحب:
هَلْ تَرَوْنَ الْحُبَّّ عَيْبًا
أَوْ شُرُوعًا فِي ضَيَاعِ
أَمْ تَرَوْنَ الْحُبَّّ ذُلاًّ
فِيهِ أَنْمَاطُ الْخِدَاعِ؟
فَالْمُحِبُّونَ اسْتَحَقُّوا
كُلَّّ شَيء بِالْمَسَاعِى
لا تَخَافُوا مِنْ حَبِيبٍ
قَدْ بَدَا وَسْطَ الْبِقَاعِ
فالحب عاطفة سامية، أهلها أسوياء أمناء!
وتأتي تجربة(عودة الذئب) في قضية كل العرب والمسلمين إلى يوم القيامة قضية فلسطين الحبية والقدس المباركة، يقول في مقدمتها:
وَعَادَ الذِّئْبُ يَعْوِى فِي النَّهَارِ
وَيَنْهَشُ لَحْمَ أَحْبَابِ الدِّيَارِ
وَأُسْدُ الْغَاب فِي صَمْتٍ رَهِيبٍ
تُمَنِّي نَفْسَهَا حُسْنَ الْجِوَارِ
فَكَيْفَ وَقَدْ أَسَاء الذِّئْبُ دَوْمًا
فَقَتَّلَ مَنْ رَآهُ مِنَ الذَّرَارِى
وما الذئب إلا كل صهيوني غشوم ظلوم معربد معتد في أهل فلسطين المرابطين، ولا حل معه ولا خلاص منه إلا بالمقاومة، يقول شاعرنا:
فَهَيَّا أِخُوَةَ الدَّارِ الْكِرَامِ
نَشُدُّ الأَزْرَ فِى خَوْض الْغِمَارِ
لِيَعْلَمَ كُلُّ ذِئْبٍ قَدْ تَخَطَّى
حُدُودَّا قَدْ بَدَتْ مِنْ غَيْرِ سَارِ
بِأَنَّ الأُسْدَ مَا تَرَكُوا الْعَرِينَ
وَلا ضَحَّوْا بِرُكْنٍ مِنْ جِدَارِ
فَبَيْتُ الْقُدْسُ يَزْهُو مِنْ زَمَانٍ
بِمَنْ نَقَّاهُ مِنْ دَنَسِ الشِّرَارِ
وَسَوْفَ يَعُودُ لِلأَهْلِ الْكِرَامِ
أمَامَ النَّاسِ فِي وَضَحِ النَّهَارِ
فالجهاد هو الخلاص، وفيه الأمن والأمان، وفيه الكرامة، وفيه تحرير القدس وصيانة أهلها، والتاريخ ناطق بذلك، والواقع دال على ذلك، أما الاستسلام ففيه الذلة والصغار وضياع البلاد والعباد، حفظ الله فلسطين وأهلها، وبارك الله في كل مجاهد بلسانه أو سنانه في سبيلها!
إن هذه المقدمة سياحة أولى معرفة ومعلنة عن ديوان (عيون القلب) لشاعرنا وأستاذنا جابر البراجة، في شكلها ومضمونها، وقد رأيناها دفقات وِساطًا، فيها وحدة موضوعيةً وشعوريةً، تغلب عليها نزعة الداعية، وطريقة المصلح، وأسلوب العالم والناقد، حيث العقلانية، والهادفية تجاه الحياة والأحياء، والصدق والالتزام في التعبير والتصوير والتفكير، بخطاب شعري مجلسي محفلي رسالي، من مبدع يرى في نفسه مرسلاً، ويتخيل في نصه رسالة موجهة إلى مرسل إليه، يقصده، ويتغيا تنويره والانتقال به إلى الصراط المستقيم الناجع ! وقد أفلح في ذلك شيخنا وشاعرنا، قدر طاقته الشعرية، وحسب رؤيته الخاصة!