خريطة الإبداع الأدبي في العصر الحديث:ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المحاضرة الأولى في مقرر(تاريخ الأدب الحديث):ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــللفرقة الثانية بتمهيدي مرحلة الماجستيرـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمن خلال دراستنا الأدب العربي في العصر الحديث وتدريسنا إياه، ومطالعتنا لأبرز مصادره ومراجعه المطبوعة والإلكترونية يمكننا أن نقرر أن الأدب العربي -عبر أمصاره العديدة في مسيرته هذه الممتدة خلال القرنين الميلاديين:التاسع عشر والعشرين، والعقدين الأولين من القرن الحادي وعشرين-قد تنقل بين جملة من المذاهب أو المدارس الفنية الرئيسة، هي:1-المذهب المحافظ(الكلاسيكي): ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ونموذجه البارودي في الشعر، والمنفلوطي في النثر، وحسين المرصفي في النقد الأدبي، وتطورت عند االأجيال التالية ممن جدد في إطار هذه المحافظة، و أولهم أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومصطفى صادق الرافعي، وأحمد محرم، وعزيز أباظة، وعلي الجارم، ومحمود غنيم... وغيرهم.2-المذهب التجديدي(الرومانسي):ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويمثله معظم إبداع خليل مطران، وإبداع مدارس: الديوان(عباس العقاد، إبراهيم عبدالقادر المازني، عبدالرحمن شكري) والمهجر(جبران خليل جبران، وإيليا أبوماضي، ميخائيل نعيمة، وآل المعلوف... وغيرهم) وأبولو(أحمد زكي أبوشادي، علي محمود طه، إبراهيم ناجي... وغيرهم).3-المذهب الواقعي: ـــــــــــــــــــــــــــــبذور الواقعية العربية تعود إلى زمن ثورة 1919م المصرية التي أحدثت نوعًا من الميل الواقعي في كتابات أبرز أفراد «المدرسة الحديثة» سواء الذين انتسبوا منها إلى الطبقات العليا مثل محمد تيمور الذي سبق شقيقه محمود تيمور إلى التيار الواقعي الممتزج بنزعة رومانسية متأصلة، أو الذين انتسبوا إلى الطبقات الوسطى مثل محمود طاهر لاشين وعيسى عبيد. وهناك كتابات طه حسين في مجلة «الكاتب المصري» في الفترة من 1945م إلى عام 1948م، وهي الفترة التي أخذ فيها طه حسين يناقش الشيوعية ويتحدث عن الوجودية في أبعادها النضالية، ويتوقف عند مفهوم «الالتزام» عند (سارتر) ويمضي أبعد منه في تبني المفهوم، فيرى أن «الالتزام» لازم حتى في الشعر الذي أعفاه (سارتر) من تبعات الالتزام، وكانت مناقشة طه حسين لأفكار (سارتر) عن الالتزام موازية لما كان ينشره الثاني في مجلته «الأزمنة الحديثة»، وبقدر ما كانت مواقف طه حسين الليبرالية تتخذ منحى راديكالياً في مدى الالتزام بقضايا المعذبين في الأرض من الذين يحملون شجرة البؤس على أكتافهم، كانت الراديكالية الليبرالية تقترب اقتراباً سريعاً من اليسار، وذلك إلى الدرجة التي جعلت طه حسين سنة 1946م يدخل في حوار مع طوائف الماركسيين، وتنشر مجلة «الفجر الجديد» رسالة منه يعلن فيها تسليمه بالاشتراكية، بل يضيف إلى ذلك براءته من «الاشتراكية الفاترة».ويعد نجيب محفوظ الطالع من الطبقة البورجوازية أو الشعبية المصرية، بحسب النعوت والتصنيفات الماركسية، والذي لا صلة له البتة بالشيوعية والشيوعيين، هو الذي مهد الطريق للواقعية العربية بأعماله التي ضمت «القاهرة الجديدة» سنة 1945، و«خان الخليلي» سنة 1946، و«زقاق المدق» سنة 1947، و«السراب» سنة 1948، و«بداية ونهاية» سنة 1949، وبعد ذلك الثلاثية: «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية»، وتظهر الواقعية في هذه الأعمال من خلال الحرص على أسماء الأماكن الفعلية التي غدت علامة أولية على الالتزام الواقعي، كما تظهر في الانحياز إلى مشكلات الشرائح الفقيرة من الطبقة الوسطى التي كانت بمنزلة العمود الأساسي للمجتمع المصري، وقد انتهى نجيب محفوظ من كتابة الجزء الأخير من الثلاثية قبيل قيام ثورة يوليو سنة 1952، وعندما قامت الثورة توقف عن الكتابة فترة امتدت سبع سنوات ليعيد التأمل في مساره الإبداعي ومنهجه في الكتابة، لكن ظلت أعماله الواقعية هي النموذج الذي تتطلع إليه الأجيال على امتداد الوطن العربي.كما ظهرت الواقعية في الأدب واقتحمت الساحة العربية بصورة واضحة أكثر ما يكون الوضوح عبر كتاب «في الثقافة المصرية» الذي اشترك فيه كل من محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس، وبخاصة فيما كتبه الأول عن الرواية بمقال عنوانه «من أجل أدب واقعي» الذي يشبه البيان التبشيري بالأدب الجديد الذي تبنته مجموعة من الكتّاب المصريين الشباب يومها من مثل نعمان عاشور وفتحي غانم ويوسف إدريس وعباس صالح. يبدأ مقال محمود أمين العالم على النحو الآتي: «واقعية في الأدب، وواقعية في الفن، وواقعية في السياسة، وواقعية في التعليم.. هذه هي الصيحات التي فرضت نفسها في المرحلة الأخيرة على الفكر المصري الحديث.. وأنا أزعم أن تيار الواقعية في الفكر المصري قد أصبح من القوة بحيث بات شاقًّا على كثير من المفكرين المصريين -الذين يجدون في هذا النوع من التفكير خطراً على تراثهم الفكري وإنتاجهم الفني- أن يهاجموه علانية»، ويمضي محمود أمين العالم في بيانه مؤكداً صعود التيار الذي يدعو إليه، وتزايد قوته، واصلاً بينه وبين متغيرات الحياة التي يبحث القراء عن أصدائها في الأدب، ويكمل عبدالعظيم أنيس المحاجّة نفسها فيما كتبه عن الرواية، مؤكداً أن صعود الأدب الواقعي صاحب تطور الطبقة العاملة المصرية وارتبط بالمتغيرات الاجتماعية الجارية التي أخرجت كتّاباً وشعراء جدداً يتميزون تمام التميز عن كتّاب مصر القدامى وشعرائها، بل خرج فنانون من جميع اتجاهات الثقافة الشعبية من رسم ونحت وموسيقى.وعرفت الواقعية ازدهاراً كبيراً في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي تبعاً لازدهار الحركة القومية واليسار بوجه عام، وبات للأدب الواقعي رموزه ومنابره ومجلاته. ففي العراق كان من رموز الأدب الواقعي والداعين إليه غائب طعمة وصلاح خالص وآخرون، وفي لبنان حملت مجلة «الطريق» ومجلة «الثقافة الوطنية» الدعوة إلى هذا الأدب ونشرت الكثير من نتاجه، وكان من رموزه، منذ الأربعينيات، عمر فاخوري ورئيف خوري وحسين مروة الكاتب الماركسي الناقد الأدبي الذي كتب الكثير حوله. ويلفت النظر في الساحة الثقافية اللبنانية، وربما في سواها من ساحات الثقافة العربية، أن الكثير من الكتّاب والروائيين الذين كتبوا في إطار الواقعية لم يكونوا كلهم من الماركسيين، بل كان قسم كبير منهم ينتمي إلى تيارات فكرية أخرى في طليعتها التيار القومي العربي. فمجلة «الآداب» اللبنانية على سبيل المثال كانت منبراً عروبياً لا منبراً ماركسياً، ومع ذلك فقد نشرت الكثير من المقالات والأبحاث والقصص ذات النزوع الواقعي.ولعل الواقعية النقدية كانت التيار الذي سبق إلى الحضور والتأثير طوال الأربعينيات خصوصاً مع المتغيرات الحاسمة للحرب العالمية، وهي متغيرات أسهمت في إشاعة الفكر اليساري، ولكنها لم تُؤد إلى ظهور نماذج الواقعية الاشتراكية إلا مع مطالع الخمسينيات، وما ينطبق على واقعية الأربعينيات من غلبة الواقعية النقدية، حيث برز جيل نجيب محفوظ، ينطبق على واقعية الخمسينيات مع متغيرات دالة، لكنها متغيرات لم تجعل من الواقعية الاشتراكية تياراً سائداً أو غالباً بالقياس إلى الواقعية النقدية. فبعد جيل نجيب محفوظ، يبرز جيل عبدالرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس وفتحي غانم الذين نافسوا جيل محفوظ ومضوا إلى آفاق مغايرة، ومن الرموز الواقعية لهذا الجيل رواية «الأرض» (1954) للشرقاوي، و«أرخص ليالي» (1954) ليوسف إدريس، و«الجيل» لفتحي غانم.4-مذهب الأدب الإسلامي:ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ويمثله أدباء رابطة الأدب الاسلامي العالمية، ومن أعلامها الداعية الشيخ أبو الحسن الندوي(الهندي)، والروائي الدكتور نجيب الكيلاني(المصري)، والناقد الحسن الأمراني(المغربي)، .... وكل أدباء ونقاد جامعة الأزهر الذين كان لهم دور كبير في الإبداع على نسق هذا المذهب، وفي الإعلان عنه، والدعوة إليه. ومن أبرزهم الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي، والدكتور محمد أحمد العزب، وصابر عبدالدايم وعلي صبح...وغيرهم 5-المذهب الحداثي:ــــــــــــــــــــــــــــــ وهو التيار المستورد المعاصر، يقصد به الثورة على القديم والتقاليد، واللغة القومية، وقلب موازين المجتمع، إنه مذهب يفتح الطريق إلى نقد الفكر القديم القائم على المثالية والإيمان، والسعي لتشكيل منهج جديد قائم على الحس والعقل، ذلك المنهج الذي انتهى إلى الماديّة الحالية التي تسيطر على الغرب، وتلقي بظلالها القاتمة على العالم كله اليوم. منهج يراد له أن يهيمن على الحالة الإبداعية العربية وينتقل إلى نواحي الفكر الإنساني المختلفة، بعزل الدين الدين ورجاله واستغلاله في حروب عدوانية، وتبني المصادفة والحظ والهوس والخبال لمعالجة الحالات النفسية والفكرية بعد فشل العقل في مجابهة الواقع، والثورة على الطبيعة والكون ونظامه وإظهار الإنسان بمظهر الذي يقهر الطبيعة؛ ولذا نلمس في الحداثة قدحاً في التراث الإسلامي وإبرازًا لشخصيات عُرفت بجنوحها العقدي كالحلاج والأسود العنسي ومهيار الديلمي وميمون القداح وغيرهم.وهذا المنهج يعبر به الأدباء المتحللون من قيم الدين والأمانة عن خلجات نفوسهم وانتماءاتهم الفكرية. إن الحداثة "اتجاه فكري أشد خطورة من اللبرالية والعلمانية والماركسية، وكل ما عرفته البشرية من مذاهب واتجاهات هدامة، ذلك أنها تضمن كل هذه المذاهب الفكرية، وهي لا تخص مجالات الإبداع الفني، والنقد الأدبي، ولكنها تخص الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المادية والفكرية على حد سواء ".يقول أدونيس أكبر دعاة الحداثة:" إن فن القصيدة أو المسرحية أو القصة التي يحتاج إليها الجمهور العربي، ليست تلك التي تسلّيه، أو تقدم له مادة استهلاكية، وليست تلك التي تسايره في حياته الجادّة، وإنما هي التي تعارض هذه الحياة، أي تصدمه، وتخرجه من سُباته، تفرغه من موروثه، وتقذفه خارج نفسه، إنها التي تجابه السياسة ومؤسساتها، الدين ومؤسساته، العائلة ومؤسساتها، التراث ومؤسساته، وبنية المجتمع القائم كلها، بجميع مظاهرها ومؤسساتها، وذلك من أجل تهديمها كلها، أي من أجل خلق الإنسان العربي الجديد، يلزمنا تحطيم الموروث الثابت، وهنا يكمن العدو الأول للثورة والإنسان"..لا يمكننا رفض الحداثة كلية، لكن نريد "أن يستفيد أدباؤنا وشعراؤنا من إيجابيات الحداثة.. من الوعي المبدع والخيال الخلاّق.. من الأبعاد الجمالية الأخّاذة.. من الظلال الفنية الموحية.. دون التورط في العوالم المجهولة، والتلبّس باللاّهدفية واللاّجدوائية، والفوضى الفكرية واللغوية، والانبتات عن الجذور، والانسلاخ من الجلود، والضياع في بحرٍ من ظلمات الطلاسم ومتاهات الغموض".ومن دعاة الحداثة العرب كاهنها الأول أدونيس(علي أحمد سعيد) وزوجه خالدة سعيد، من سوريا ،، وصلاح فضل، وغالي شكري، وصلاح عبد الصبور من مصر، (من مصر)، وعبد الله العروي من المغرب، وكمال أبو ديب من فلسطين، وعبد الوهاب البياتي من العراق، وعبد العزيز المقالح من اليمن، وحسين مروة من لبنان، ومحمود درويش، وسميح القاسم من فلسطين، وعبد الله الغذامي، وسعيد السريحي من السعودية... وغيرهم من كتاب قصيدة النثر، ودعاة فن الكتابة، ودعاة الأدب الرقمي، وغيرها من الصيحات والموضات الأدبية .وتفرع عن هذه الحداثة ما سمي بتيار ما بعد الحداثة وهو محاولة لإعادة تدوير الحداثة وإدخالها في المنتج الأدبي العربي بصور وحيل مختلفة! فما بعد الحداثة مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة الغربية تتميز بالشعور بالإحباط من الحداثة، ومحاولة نقد هذه المرحلة، والبحث عن خيارات جديدة، وكان لهذه المرحلة أثر في العديد من المجالات.أ.د/صبري فوزي أبوحسينأستاذ الأدب والنقد بكلية اللغة العربية بالزقازيق

 تعليقً

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 210 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

327,175