المصطلح الأمّ(القصة الشاعرة)وتفرُّعاتُه البانية

إعداد/صبري فوزي أبوحسين

لا ريب في أن المصطلح العلمي من إشكاليات كل جديد في دنيا الأدب والنقد، بل في كل ثقافة وفكر، وقد أحسن القائمون على أمر المؤتمر الدولي للقصة الشاعرة حين جعلوا من توصياتهم(صناعة معجم لمصطلحات نقد القصة الشاعرة)، وقد بدأتُ مباشرة في الإعداد للإسهام في هذا المعجم بسلسة مقالات في هذا المشروع العلمي النبيل، وأبدأ هنا بالمصطلح الأم:القصة الشاعرة، ثم أنطلق إلى المصطلحات المتفرعة منه والبانية إياه، وهي وهي (/القصدية الإبداعية/ الكتابية /التكثيف /التفعيلية/التدوير الإيقاعي/التضمين العروضي/ التدوير القصصي/النزعة الدرامية/التبئير الرمزي /المرجعية الثقافية). . وهاك بيان ذلك:

أولا: المصطلح الأمُّ [القصة الشاعرة (Alkessa Alsha'era)]:

إن (القصة الشاعرة) حقًّا مصطلح جديد مثير، شائك، تدور حوله الآن معارك أدبية بين مؤيد ومعارض، وقد اتسعت مساحة المؤيدين لها، سواء على مستوى الإبداع أو على مستوى التلقي، والدليل صدور الجزء الأول من موسوعة القصة الشاعرة، وهو عمل علمي توثيقي رائع لهذا الفن تاريخًا ومفهوما ونماذج وفعاليات ثقافية. نعم! إنها من المصطلحات التي حظيت بجدالات نقدية حادة، قرأتُها في مظانِّها المطبوعة ورقيًّا وإلكترونيًّا، وطالعت نماذج إبداعية على نسقها مطالعة تدبر، فأثمرت عن توصيف خاص بها؛ فـ(القصة الشاعرة(AlkessaAlsha'era) جنس أدبي عربي خالص، تمّ التأسيس له في مصر بعيدًا عن أي تبعيّة غربية، على يد القاص الشاعر الكاتب محمد الشحات محمد، الذي وضع أبرز التنظيرات حولها وفيها... وهذا المصطلح(القصة الشاعرة) تركيب وصفي، وُصفت فيه (القصة)-ذلك الجنس الأدبي العالمي- بصفة صنوها الأدبي: الشعر، وقد وصفت باسم الفاعل (الشاعرة)؛ تمييزًا لها عن سابقها من فنون، وبخاصة الشعر القصصي والقصة الشعرية، وبيانًا للغاية من هذا الفن، وهو الجمع الدامج بين جماليات هذين الفنين الآسرين: القصة القصيرة، والشعر التفعيلي، والمستند إلى جماليات أخرى، ليست فيهما؛ فلذتها ذذمن كونها قصًّا وكونها شاعرة في آن واحد، وهذا منبع الجدة في القصة الشاعرة؛ ففكرتها جديدة وغير مسبوقة، على الرغم من أنها مكونة من مادتين كانتا موجودتين قبلها، وهما القصة القصيرة والشعر، ولكن كان كل منهما منفصلاً وحده، وليس فيهما ما في القصة الشاعرة من بنيات وسمات فارقة . إننا لو تأملنا تكوين (القصة الشاعرة) من مادتي الجنسين الأدبيين الكبيرين(القصة والشعر) نجد أنها تحافظ علي موروثيهما الأصيل معًا وتطورهما معًا ..بل وتنادي على كل ذي موهبة كتابية أن يكون شموليًّا, وأن يكون شاعرًا وقاصًّا في الوقت نفسه، يحيط علمًا بمكونات كل منهما .. إن جمال القصة الشاعرة وكمالها المُتغَيَّا يكمن في أنها لا تمدنا بشعر فقط على حدة ولا بنثر فقط على حدة, بل بالاثنين، تمتعنا في إبداع رائق وراق؛ لأنها قد جمعت الفنيين معًا وطورتهما وغيرت من شكلهما وموضوعهما معًا, وكأننا نعيش بهذه التجربة تجربتين؛ لأن الشكل شكل (قصة قصيرة جدًّا) تمامًا, ولكن يفاجأ من يبدأ قراءتها أنها (شاعرة ... (فالشعر هو أسلوبها لكن النثر هو شكلها ...ولذلك يقول ملهمها ومبدعها الأستاذ محمد الشحات محمد: "كنت أقرؤها على الشعراء على أنها شعر..فيعجبون بها ,, وأقرؤها على كتّب القصة فيعتبرونها قصة ... لا يستنكرها هؤلاء ولا هؤلاء .... إلى أن هداني الله لمسماها وأهداه لي في الرؤيا ,,, فكانت القصة الشاعرة) . - إن القصة الشاعرة (Alkessa Alsha'era) هي ذلكم الفن الذي يعد تجديدًا أدبيًّا مصريًّا خالصًا من أية تأثرات خارجية: غربية أو شرقية ... وقد عرفت (القصة الشاعرة) بتعريفات عديدة تدرجت عبر الزمن، وخلال الحوار النقدي فيها وحلها، وآخر تعريفين لها، عند مؤسِّسها المصري -المبدع محمد الشحات محمد-هما: -"قص إيقاعي تدويري مكثف لأحداث ترميزية، مؤسسة على المرجعيات الثقافية وطاقات إبداعية تشكيلية ذات وحدة وجدانية لرموز متباينة في فضاءات حتمية المغايرة، ترفض سلطة القوالب الموروثة". -"قص إيقاعي تدويري وفق نطام التفعيلة، مؤسسة على التكثيف والرمز والمرجعيات الثقافية"". ويرى مبدعها(محمد الشحات محمد) في مقالته: (القصة الشاعرة بين المصطلح والواقع) أن القصة الشاعرة فنٌ كتابي عربي المنشأ، له معاييره وسماته الفنية وخصائصه الجمالية، حتمي المغايرة في البنية والشكل، بنفس قدر حتمية المسايرة للتطور الشامل أوجه الحياة.، وعموم الإشكاليات والمضامين بإشارات مكثفة وترميزات إيقاعية تشكيلية ذات دلالات توليدية موحية لإثارة ميزة الإبداع والتفاعل مع الواقع السيسولوجي والثقافي الرقمي والأحداث الحياتية مألوفة التصميم منها وغير المألوفة، مما يدفع إلى اتساع مساحة التصورات الذهنية ببساطة طرق التفكير، ويشير إلى إمكانية ترجمة النصوص الأدبية من القصة الشاعرة إلى تصميمات فنية مبتكرة ولغات غير العربية، مع الحفاظ على خصوصية الهُوية المصرية والعربية برؤى مغايرة .. أما القصة الشعرية(Poetic story) فهي أسلوب إبداعي من أساليب القريض، ينسج فيه الشاعر قصيدته على المنوال القصصي؛ بحيث يتوفر فيها من العناصر الفنية ما للقصة النثرية. لا يشترط فيها الطول الإيقاعي، ولا النزعة الملحمية والأسطورية، وهي حاضرة في شعرنا العربي في كل عصوره، بدرجات متفاوتة. وكان الباحثون يدرسونها في الشعر العربي تحت عنوان (القصة في الشعر العربي)، مثل كتاب الأستاذ علي النجدي ناصف طبع سنة 1970م، وكتاب الأستاذ ثروت أباظة، ولم يستخدم هذا الاصطلاح فيما أعلم إلا الباحثة عزيزة مريدين في كتابها "القصة الشعرية في العصر الحديث"، طبع دمشق سنة 1983م. أما (الشعر القصصيNarrative poetry) فهو الذي يعتمد في مادته الفكرية على ذكر أحداث ووقائع وتصوير مشاهد في قالب القصة التي تكون مرنة في عناصر الحبكة من عرض وعقدة وحل. يقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي:" المراد بهذا النوع ما يسميه الإفرنج epic، وهو عندهم ما تروى فيه الوقائع والحوادث على طريقة الشعر، مما لا يخلو من الغلو والإطراء، حتى يتميز عن التاريخ البحت؛ والنظم فيه قديم في الأمم التي اغتذى خيالها بالدين والعادات كالمهابهاراتا عند الهنود، والأوديسّا عند اليونان، والإلياذا عند الرومان، وكذلك نظمت فيه شعراء الأمم المتأخرة كالفرنسيين والألمان والطليان والإنكليز. وعندهم في ذلك الملاحم المأثورة...ويشير الأستاذ الرافعي إلى سبب عدم وجود المطولات الشعر القصصية عن العرب بقوله: إذا كان الغرض من الشعر القصصي ما يجمع من التاريخ ويحفظ من الأخبار، فذلك موجود في أشعارهم[العرب]، ولكنهم لم يطيلوها إطالة الإلياذة وغيرها؛ لأن ذلك يقتضي له عملاً من النظم وضربًا من التأليف المقصود لا يتم حسنه إلا بالتنسيق وسياسة الألفاظ واستكراه المعاني واقتسارها، ثم إحكام اللُّحمة بين فصل وفصل وبين قطعة وقطعة، ثم تحكيك الألفاظ وتصفية الأسلوب واستيفاء صنعة التأليف، ولا يكون ذلك جميعه إلا بالصبر والمطاولة ورصد الأوقات التي تكون أجمَّ للنشاط وأصفى للخواطر، ولو أن في العرب من انقطع لهذا العمل لهجَّنوا صنيعه ورموه بالعيِّ ولتركوه مثلًا وآية...ووجه آخر، وهو أن العرب لا يطيلون أشعارهم إلا في المواقف وفي أيام الحفل، كما فعل الحارث بن حلزة في طويلته، وهي أقرب دليل على الشعر القصصي ومنزلته وأسبابه عندهم... وإذا كان الغرض من الشعر القصصي ما يحمله من الخرافات أو القصص الموضوعة، فهذا أيضًا قد نظم فيه العرب، ولكنهم لم يفردوه بالقصائد ولم يطيلوه إطالة بالغة، لذهاب معنى التقديس من عقائدهم وعاداتهم، فليس لهم آلهة ولا أنصاف آلهة ولا أساطير من هذا القبيل على نحو ما كان عند الهنود واليونان والرومان، وإنما كانوا يتناقلون من ذلك أشياء تناسب طبيعتهم ومذهبهم الاجتماعي... يخرج من ذلك أن الشعر القصصي — بالمعنى المصطلح عليه — لم يكن في طبيعة العرب ولا هو من مقتضيات اجتماعهم، فهم لم ينظموه في جاهليتهم قطعًا، ولم ينظمه مَن بعدهم لوقوفهم عند حد التقليد...هذا، وإن النماذج الحديثة والمعاصرة من الشعر القصصي إما أنها في قالب بيتي محافظ أو أنها في قالب تفعيلي مطول، وفي الحالتين تخلو من العناصر البنائية الرئيسة للقصة الشاعرة من تدوير وتبئير وتكثيف ومرجعية ثقافية... ولعله بهذا البيان وهذا التفصيل يتضح لنا أن (القصة الشاعرة) مصطلح طريف جديد وخاص، إنها نوع أدبي مستحدث، يعد من إفرازات فترة الحداثة الأدبية العربية المعاصرة، يتميز عما يتداخل معه من اصطلاحات لا سيما(القصة الشعرية)، و(الشعر القصصي)...

ثانيًا:المصطلحات البانية للقصة الشاعرة:

تتمثل المصطلحات البانية للقصة الشاعرة والمؤسسة لنوعيتها في عشرة عناصر أو عشر بُنى رئيسة، هي حسب حالها شكليا ومضمونيا: (القصدية الإبداعية/الكتابية/التكثيف /التفعيلية/التدوير العروضي/التضمين العروضي/التدوير القصصي/النزعة الدرامية/ التبئير الرمزي /المرجعية الثقافية)، وهاك بيانًا لها مع ذكر المقابل الإنجليزي لها وهو مراجع من قبل الأستاذ أحمد السرساوي:

1- القَصْدِية الإبداعية (Creative intent):

تعد (القَصْدِية الإبداعية) من شرائط هذا الفن الأولى، و مُهِمِّة لتفرُّد هذا الجنس الأدبي وتحقّقه، ويُقصَد بها قصدية المبدع إلى القصِّ والشعر معًا من أول النص حتى نهايته، فكل ما في النص مقصودٌ ذكرُه، ومقصود ترتيبُه، ومقصود ذكرُه، ومقصود ترتيبُه، ومقصود كتابتُه بطريقة مُعيَّنة، وذلك لأداء وظيفة درامية، ووظيفة إيقاعية، ووظيفة ثقافية، مضمرة، ومبطنة.

2- الكتابية (Formating):

القصة الشاعرة تختارُ قالبها، وتفرض شكلها الكتابي (رأسيًّا، أفقيًّا، دائريًّا) بانزياحات إملائية، وانحرافات في نمط الكتابة، وتداخل الدلالات وخصوبتها سواء بالتشكيل البصري، أو بانفصال/ اتصال/ تسلسل المتواليات النصية والوسائط المختارة، والتصميم التشكيلي مع النص المكتوب؛ مما يدفع إلى الموسوعية والعصف الذهني.أما البناء، فيقوم على امتداد النفَس المتصل بالحدث؛ مما يساعد على تدفق النص كتلة واحدة، تتمرد على الشكل الهرمي التقليدي بأحداث محتشدة وعاطفة مشحونة، وذلك من خلال التكثيف والإيجاز الموغلِ في الرمز؛ فتجعل الكاتب أكثر تحديًا للتنفيس عما يكنه تجاه الواقع رمزًا وإيقاعًا.

3- التكثيف (Condensing):

يعد التكثيف من أهم الأدوات والسمات الإبداعية في القصة الشاعرة؛ لأنها نص رقمي برقي ومضي خاطف وسريع في معظم نماذجه المبدعة حتى الآن! فهي من النصوص التي تعتمد الإيجاز بنوعيه (إيجاز القِصَر البليغ، وإيجاز الحذف)،فكاتب القصة الشاعرة يضمن عمله أفكارًا كثيرة وعميقة عبر نص قصير موظفًا آلية الحذف والإضمار بنوعيها اللغوي والقصصي، حيث ينسق الجمل بطريقة مختزلة خاصة، تجعل النص حَمَّال أوجه، قابلاً لقراءات متنوعة وفهومات كثيرة، ومن ثم ينال تأويلات شتى! إن الكاتب يتناول الأحداث باختصار، بل بإشارة أو لمح أو كناية أو تعريض، دون اللجوء إلى الإطناب أو الوصف أو الشرح أو السببية أوالتعليل أو الروابط. وهذا ما يحقق للقصة الشاعرة أبرز سمة فنية في القصة القصيرة، ويحقق لها متانة الشكل، وقوة الصياغة ويعطي لمخيلة القارئ فرصة لاستغلال الفراغ اللغويّ بتحليله وإكماله.

4-التفعيلية (Prosody):

النص المنتمي إلى (القصة الشاعرة) ينبغي أن يكون سليمًا عروضيًّا، خاليًا من أية محاذير خاصة بالوزن، فلا يقع القاص الشاعر في كسر معيب أو تزحيف ثقيل، أو إعلال قبيح. وعليه أن يلتزم نسق الشعر التفعيلي السطري، وهو ذلك الشعر المبني على أن السطر -لا الشطر ولا البيت – هو بنية النص ووحدته الأولى، وفيه تحرر من التقيد الصارم بعدد التفاعيل أو شكلها أو حالة نهاية السطر(الضرب)، وتحرر - كذلك – من نظام واحد صارم للقوافي؛ فالقصة الشاعرة ليست بيتية (عمودية)، ولا تُعنَى بالروي.

5- التدوير الإيقاعي (Metrical continuum):

 وهو تقنية عروضية ضرورية في بناء القصة الشاعرة؛ حيث تجيء مكونة من أسطر مترابطة متصلة ببعضها، عن طريق توزع التفعيلة على الكلمات والأسطر، فكل كلماتها تمتزج لبناء التفعيلات، وهذا حقق وحدة إيقاعية ولغوية بارزة، حتى إننا نقرؤها متتابعةً متلاحقةً حتى نقف على القافية؛ إذ لا يُستطاع الوقوف في القراءة إلا عند السطر الأخير. فليس بالنص تفعيلة مكونة من كلمة مستقلة غالبًا.

6-التضمين العروضي (Internal metrical continuum):

كما يعمد القاص الشاعر إلى توظيف أسلوب التضمين للربط بين جمل نصه وأسطره ربطًا نحويًّا وبلاغيًّا، من خلال جملة أساليب يختارها، تتوزع خلال أعطاف النص كله بدءًا ووسطًا وختامًا. ومن هنا عبر هذه الاصطلاحات البانية الثلاثة (التفعيل/التدوير/التضمين العروضي) تظهر أهمية الإيقاع وضرورة العناية به في فن القصة الشاعرة، وحتمية جعله موسيقا تصويرية مناسبة للبنية الدرامية الموجودة بها! ولذا فالقصة الشاعرة تبرهن على أن التفعيلة لا تمثل قيدًا أمام مساحة الحرية والتعبير التصويري والترميزي المكثف؛ فبالتفعيلة (عبر القصة الشاعرة) يمكن كتابة نص ما بعد حداثي شعرًا وقصًّا في آنٍ واحد.

7- التدوير القصصي (Narrative continuum):

ويقصد به تحقق الوحدة العضوية في أعلى درجاتها في نص القصة الشاعرة، فكل عناصر القص مترابطة ومتسلسلة(عنوانًا، ومكانًا وزمانًا وحدثًا وأشخاصًا، ولغة)، بحيث لا يمكن التوقف عند عنصر من عناصر القص دون بقية العناصر، ولا يمكن قراءة نص القصة الشاعرة وتلقيه التلقي الحق إلا عن طريق النص كله بحذافيره! ففيها وحدة شعور، ووحدة فكر، ووحدة سرد، وتواتر في السرد، وتماسك! وقد يكون السرد في القصة الشاعرة متسلسلاً أو متقطعًا أو متناوبًا، حسب رؤية المبدع ورؤياه، وينبغي وجود التدوير في كل طريقة من الطرق الثلاث، وذلك في كل النص بدءًا بالعنوان، ومرورًا بالمتن وانتهاء بآخر لفظة؛ فالقصة الشاعرة نص كلي جامع مدور الإيقاع والسرد: لا يمكن أن يستغنى فيه عن لفظة أو اسم أو مكان أو زمان أو حدث أو شخص أو صورة...

8- النزعة الدرامية( (Dramatic bent ):

تمثل القصة الشاعرة فضاء لتقاطع العديد من الدلالات والرموز، تتشكل فيه الأحداث بطريقة فنية معقدة تجمع بين التداخل والتشابك وتعدد الأنسجة، فلا تخضع لترتيب زمني أو منطق تنامي الأحداث وتراكمها بقدر ما تتواتر متداعية؛ فالحدث فيها إيحائي رمزي مؤشر إليه وليس مباشرًا، وفيه تدوير قصصي ومجازي، وتعتمد بناءً حدَثيًّا يقوم على التهشيم والتنوع لإحداث جمالية وذائقة بديلة عما يتوقع القارئ لمشاركته كفاعلٍ ومنفعلٍ له مخزونٌ ثقافي يحتمي بالأساطير والتاريخ. وتلزم القصة الشاعرة مبدعها أن يكون القصُّ متبطنًا في العمل الأدبي من أوّله إلى آخره، وليس مجرد الاستفادة بالدراما...

9- التبئير الرمزي (Symbolic focus):

هذا المصطلح تركيب اسمي مكون من موصوف(التبيئير) وصفة(الرمزي)، والموصوف فعل أي تقنية وتكنيك، والرمز مفعوله به أي موظف ومستثمر في العمل الأدبي. والتبئير مصدر للفعل (بَأَّرَ) بتشديد عين الفعل (الهمزة)، ولم يرد في المعاجم العربية! أو مأخوذ من لفظة(البئر) بمعنىحفرة عميقة في الأرض يُستَقى منها الماء أو تؤخذ منها السوائل المدخرة كالنفط ونحوه، جاء في لسان العرب لابن منظور: وقد بَأَرْتُ بِئْراً وبَأَرَها يَبْأَرُها وابْتَأَرَها: حَفَرَها. أَبو زيد: بَأَرْتُ أَبْأَرُ بَأْرًا: حَفْرتُ بُؤْرَةً يطبخ فيها، والبؤرة: موقد النار، ومنه البئر: مكان تجتمع فيه المياه". وكل ألفاظ هذا الجذر اللغوي(ب/أ/ر) تدور حول دلالتي الجمع والعمق! وعندما نتدبر مفهوم مصطلح التبئير في النقد الأدبي الروائي نجده يدور حول حصر مدى الرؤية لدى الشخص الراوي داخل القصة من خلال مجموعة من المعلومات المحددة فقط، فهو تقليص حقل الرؤية عند الراوي وحصر معلوماته، وسمي هذا الحصر بالتبئير؛ لأن السرد يجري فيه من خلال بؤرة تحدد إطار الرؤية وتحصره. والتبئير سمة أساسية من سمات المنظور السردي. [راجع معجم مصطلحات الرواية ص 40]. فمعنى التبئير الرمزي أي حصر الرؤية في القصة الشاعرة حول بؤرة محددة عبر معلومات محددة! وهذا التبئير والترميز يسهم في تكثيف القصة الشاعرة وجعلها برقية ومضية، صالحة لأن تكون أدبًا رقميًّا تفاعليًّا، بامتياز. والتبئير الرمزي يتنوع إلى داخلي وخارجي . أما (التبئير الخارجي) فهو ذاك الذي تكون بؤرته خارجة عن الشخصية المروي عنها وبالتالي فالراوي أو القارئ يعرف أقل من الشخصية التي يروي عنها كما يعتمد فيه كثيرا على الوصف الخارجي و الراوي لا يعرف ما يدور في خلد الأبطال، فهو يقدم لنا الشخصية متلبسة بالحاضر دون تفسير لأفعالها أو تحليل لمشاعرها وأفكارها فهو أشبه بملاحظ خارجي أو آلة تسجيل. وأما (التّبئير الدّاخلي) فهو متعلق بالترهين السردي وتكون الرؤية فيه مقتصرة على الشخصية أي تعبير عن وجهة نظر شخصيّة فرديّة ثابتة أو متحرِّكة،وتكون معرفة الرّاوي هنا على قدر معرفة الشّخصيّة الحكائيّة ، فلا يقدِّم لنا أيّ معلومات أو تفسيرات إلاّ بعد أن تكون الشّخصيّة نفسها قد توصّلت إليها."وبتجسد التبئير الداخلي في الخطاب غير المباشر الحر ويبلغ حدوده القصوى في المنولوج الداخلي...[راجع مقال التبئير: مصطلح ومفهوم في النقد السردي (Focalisation).،للسعيد بولعسل - الجزائر، على الرابط:https://www.oudnad.net/spip.php?article529].

10-المرجعية الثقافية (Cultural reference):

المرجعية الثقافية ضرورة أساسية في بناء القصة الشاعرة: في صناعة معجمها ومضمونها؛ حيث يستلهم القاص الشاعر حقائق أو رؤى سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية أو دينية، أو أسطورية، من أية ثقافة أو أية حضارة في المعمورة، قديمة كانت أو وسيطة أو حديثة، شريطة أن تكون باطنية عميقة خفية، وفي ذلك جذب وتأثير، وإثراء للمبدعين والمتلقين على السواء... وهكذا نقف في هذه المقالة التنظيرية مع عشرة مصطلحات تنبني منها كل قصة شاعرة، ويمكن تصنيفها إلى: ثلاثة اصطلاحات تمثل تقنيات عامة في إبداع القصة الشاعرة، وهي: (القصدية، والكتابية، والتكثيف)، وثلاثة اصطلاحات خاصة بشعر التفعيلة تتمثل في: (التفعيلية، والتدوير العروضي، والتضمين العروض)، وثلاثة خاصة بفن القصة القصيرة وهي: (التدوير القصصي/النزعة الدرامية/التبئير الرمزي) ويبقى مصطلح واحد يعد عنصرًا طريفًا ينبغي مراعاته والتركيز عليه وحث المبدعين على ضرورته في كل نص، وهو(المرجعية الثقافية)...

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 97 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

327,754