خصائص المعاني

 

أد . سعيد جمعة

أستاذ البلاغة ووكيل كلية الدراسات بمدينة السادات

2016- 2017 م

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله ربّ العالمين , الكريم المنان , الذي يجود بالخير , ويمن بالغفران ,سبحانه , بالبر معروف , وبالإحسان موصوف, يغفر ذنوب المذنبين كرماً, ويعفو عن المسيئين حلما , يُحب من عباده أن يمدوا أيديهم إليه , ويتمسحوا ببابه , ويلحُّوا عليه  , والصلاة والسلام على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم -  خير من ربى أمة , وأقام دولة , وتركنا على المحجة البيضاء , ليلها كنهارها , لايزيغ عنها إلا هالك , وعلى آله وصحبه أجمعين , ثم أما بعد :

فإن الذي لا شك فيه أن البيان عما في النفس فطرة يحتاج إليها الجميع , ويلجأ إليها في حِلِّه وترحاله , وسِلمه وعدوانه , وتتنوع سبل البيان إلى بيان باللفظ , وبيان بالخط , وبيان بالإشارة , وبيان بالعقد , وبيان بالحال .

ويقف البيان باللفظ على رأس عناصر البيان الإنساني , فهو الوسيلة الأولى , والنعمة الكبرى التي امتن الله بها على الإنسان فقال – سبحانه - : " الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ "  الرحمن 1 – 4  ولذلك كانت عناية الإنسان به غير محدودة , وبخاصة الإنسان العربي , حيث ضبط ألفاظه بعلم الصرف  , وضبط جُمَلَه بعلم النحو , وبَيَّنَ طرائق التجويد فيه بعلم البلاغة , فالبلاغة علم يجعلك تتعرف على الخصوصيات داخل الكلام التي بها يرقي فوق كلام آخر .

ولا تزال اللغة العربية – رغم التربص بها - تدلف إلى القلوب , وتأخذ طريقها إلى النفوس ضاربة بذلك أروع الأمثلة في الثبات على ألسنة الناس , في الوقت الذي تتهاوى فيه لغات , ولهجات تحت مطارق التطور , وضربات العولمة , وليس ذلك إلا تأكيدا على إعجازها ,  المستمد من كتابها المُقدَّس – القرآن الكريم – لذلك وجب على كل مسلم تدبرُ هذا الكتاب , امتثالا لأمر الله تعالى , :" افلا يتدبرون القرآن  " النساء 82 , ومحمد 24 .

واعلم – رعاك الله - أن النظر إلى اللغة العربية , ودراستها  - نحوا , أو صرفا , أو بلاغة - إنما هو دِين , أو على الأقل خدمة لهذا الدِين , فاللغة دِين , والبحث فيها قربى إلى الله تعالى , والعكوف على أسرارها , وخباياها , يشبه - تماماً - قيام الليل , والتسبيح والتحميد  لله رب العالمين .

وللبلاغة – بأقسامها الثلاثة – المعاني والبيان والبديع -  دور كبير في نهضة الأمة , فهي الطريق إلى تربية الذوق , وشحذ همته , وحسن الطلب , ورفعة الأداء , والتلطف في الدعوة , ومراعاة مقام كل مدعو . كما أنها المظهر الحضاري للأمة الإسلامية حين تعبر عن دينها , وتجلّيه للناس , وتُبيّن معالمه , وتشرح قوائمه , وهي الوسيلة العظمى في تفنيد الشبهات , ورد الطعنات , ولن تستطيع أن تُرَغِّب الناس في دينك إلا إذا أوتيت شيئا من جمال الأسلوب , ودقة التعبير , وحسن اصطفاء الألفاظ , وعرفت متى تقول ؟, وماذا تقول ؟, وكيف تقول ؟, وتلك مقامات جُعِلَت البلاغةُ خادمة لها . 

 كما أن البلاغة  تحرك طلاب العلم إلى عالم الأدب لدراسته , والنيل من بحوره الفياضة , والنظر في شعر السابقين , وكيف علا حتى أبهر أهله – وهم الفصحاء – فكتبوه بماء الذهب , وتفاخروا به , وعلقوه على قدس أقداسهم , الكعبة المشرفة ؟ والبلاغة توقفك على ميزات هذا الشعر , وعروق الذهب التي تجري في أعطافه ,ومواطن الدرّ التي تنتشر في أطرافه , حتى بهرهم , واستولى على قلوبهم .

 وهي من وراء ذلك كله تجعل البليغ قادرا على إنشاء الأسلوب الرائق , وتدربه على الجُمل الحِسان , وتأخذ بيده ليرتقي سُلّم البيان , حتى يضع رجله بين أكابر البلغاء والحكماء .

كما أنها تعطيك مفاتيح البيان , لتفهم ما قال السابقون , وموطن البراعة في كلامهم , وكيف استطاعوا أن يقبضوا على المعاني المنثورة في الفضاء ليقيدوها بالألفاظ  , فتظل حبيسة هناك حتى تطلع عليها في زمانك ؟ .

ولهذا كله أجد أنه من الواجب على طلاب العلم  ,- الشرعي منه خاصة - أن يحرصوا على تعلم البلاغة , حتى يصلوا إلى فهم كتاب الله عز وجل , ووجه إعجازه , وخصائصه التي بها بزَّ كلام العرب في شعرهم , وحكمتهم , وخطبهم .

 كما يمكنهم فقه مراد المعصوم صلى الله عليه وسلم في جوامع كلمه , وكيف ارتقى حديثه ليبلغ قمة الفصاحة البشرية ؟ مما يجعلك ترى كل من يُغمِض في كلامه , ويتعمد الإبهام في بيانه بعيداّ  كل البعد عن البلاغة العربية , يقول خالد بن صفوان أحد الحكماء:( أبلغ الكلام ما لا يحتاج إلى الكلام) يعني : أنك تفهمه دون استفسار عن دلالاته , ويقول أيضا : "خَيْرُ الكلام مَا طَرُفَتْ مَعَانيه"، وشَرُفَتْ مَبَانِيه، والْتَذَّه آذان سَامِعِيه".وإذا كان الغرض من الكلام هو التعبيرُ عمّا في الفكر , والإفصاح عن مشاعر النفس وأحاسيسها بأحسن صورة من اللفظ , فإن الوضوح , والظهور , والإبانة , هم السياق والإطار الذي ينبغي أن يشمل ذلك كله , فالبلاغة بيان , والفصاحة بيان , بل إن العربية هي لغة البيان , وكل ما يضاد ذلك بعيد عن العربية وبلاغتها.

وهذا الكتاب  الذي بين يديك يحاول أن  يسترفد الخطيب القزويني , ومن قبله عبد القاهر الجرجاني , ويقدم إلى القارئ وجبة تعتمد على الشرح والبسط لما قد يغمض , ولا تنسى مستوى الطلاب في زماننا , كما تستحضر الشاهد بسياقه حتى لا يغيب ما وراء النص من إشارات , ويعرض هذا الكتاب عن كل ماورد في الإيضاح من أمور تزاحم البلاغة وليست منها , فالكتاب لن يذكر ألفاظ الخطيب ثم يشرحها , كلا كلا , إنما يقف على الأصول التي هي من صلب البلاغة , ويحاول أن ييسرها لكل قارئ , ويضرب صفحا عن الأمور التي تعكر صفو البلاغة, أو تحيد بالقارئ عنها.

وكل ذلك أقدمه إلى فتية وفتيات كرامٍ  , أحبوا لغة العرب ,لأنها تحمل رسالة السماء إلى الأرض , ولأنها لسان الحبيب –صلى الله عليه وسلم.وسميته تباشير الصباح على تلخيص المفتاح <!--

ولقد انتهجت منهجا أراه أصوب وأقوم قيلا , يقوم على تمهيد أتتبع فيه مراحل نشأة علم البلاغة حتى استوى على عوده , ثم أسير على خطى كتاب الخطيب القزويني ليكون مرجعًا ومعتمدا , يمسك بزمام المؤلف حتى لا تزلَّ قدمُه , ثم أغوص من خلاله إلى الشواهد  , وأذكرها بتمامها أو بسياقها , حتى يعتاد الطالب قراءة النص,  وأحاول أن  أستعيد مقامها , وأذكر ما يضيء جوانبها , وأعلق عليها , واعتمدت في توثيق الأشخاص على كتاب الأعلام للزركلي غالبا , وكنت أرجع إلى دواوين الشعراء لأرى السياق الكامل للشاهد , فالسياق الكامل للشاهد يكشف كثيرا مما يواريه البيت الواحد , وراجعت كتب الشراح , والموازنات , وكتاب خصائص التراكيب للشيخ أبي موسى , واجتهدت حتى أزلل للقارئ القواعد التي جمعها العلماء في كتبهم , واكتفوا بالإشارة إليها تارة , والاقتصار على بيت شعر تارة أخرى  .

 وبعد :

فإن الجهد إذا اختلط بالإخلاص فهو عند الله تعالى مأجور , أصاب أم أخطأ , فالله تعالى أسأل أن يجعل ما في هذا الكتاب حسنات بعدد من يقرأه , وشفاعة يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها , والله حسبي ونعم الوكيل .

                                           سعيد جمعة

وكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية بمدينة السادات

<!--[if !supportFootnotes]-->

 


<!--[endif]-->

<!-- -  تلخيص المفتاح والإيضاح  كلاهما للخطيب القزويني , والخطيب  القزويني هو (محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن الحسن بن علي بن إبراهيم بن علي بن أحمد بن دلف بن أبي دلف العجلي أبو المعالي قاضي القضاة جلال الدين القزويني الدمشقي الشافعي , ولد بالموصل سنة 666 وسكن بلاد الروم، مع والده وأخيه واشتغل بالعلم وتفقه على والده وولي قضاء نيكسار من بلاد الروم ثم قدم دمشق وسمع من العز الفاروثي وطائفة وحدث وتفقه واشتغل في الفنون وأتقن الأصول والعربية والمعاني والبيان، وكان فهما ذكيا مفوهًا ذا ذوق سليم حسن الإيراد والمحاضرة حلو العبارة فصيحًا جميل الهيئة كبير الذهن جوادًا أديبًا حسن الخط، وناب عن أخيه الأكبر إمام الدين قاضي قضاة الشام إلى أن مات أخوه سنة 699 ثم ولي خطابة جامع دمشق فأقام بها مادة طويلة ثم طلبه الملك الناصر إلى القاهرة في سنة 724 وكان قدومه على البريد يوم الجمعة فاتفق أنه اجتمع بالناصر ساعة وصوله فأمر به أن يخطب بجامع القلعة فخطب مرتجلًا مع ما هو عليه من التعب وأثر السفر فأعجب به السلطان وشكره وسأله عن حاله وكم عليه من الدين فذكر أن عليه ثلاثين ألف فأمر بوفائها عنه فشافهه بقضاء دمشق فباشرها والخطابة جميعًا إلى أن ولاه قضاء الديار المصرية في سنة 727 فعم أمره جدًّا وصرف مال الأوقاف على الفقراء والمحتاجين وحج مع السلطان فأعانه بمال وأحسن إلى المصريين والشاميين وكان لهم ذخرًا وملجأ ولم يزل علىحاله إلى أن أعيد إلى قضاء الشام بسبب أحوال أولاده وفرح به أهل الشام فأقام قليلًا وتعلل وأصابه فالج فمات منه في سنة 739 عن 73 سنة فأسفوا عليه كثيرًا وشيعه عالم عظيم، وللشعراء فيه مدائح كثيرة ومراث عددة وكان يرغب الناس في الاشتغال بأصول الفقه وفي المعاني والبيان. وتصنيفه المسمى تلخيص المفتاح مشهور ونظمه السيوطي وسماه عقود الجمان.. وله إيضاح التلخيص أيضًا. وكان يعظم الأرجاني الشاعر ويقول أنه لم يكن للعجم نظيره واختصر ديوانه فسماه "السور المرجاني من شعر الأرجاني". وقال الذهبي: عظم شأنه لماولي قضاء الديار المصرية وبلغ من العز ما لا يوصف بحيث لاترد له شفاعة وربما رمي علي يد السلطان نفسه وكان فصيحًا حلو العبارة، مليح الصورة، سمحًا حليمًا كثيرة التحمل وسيرته تحتمل كراريس، وذكر اليوسفي في سيرة الملك الناصر محمد أن القاضي كان محسنًا إلى الناس كثير التصدق والمكارم والبر لأرباب البيوت، قال: أنه لم يوجد لأحد من القضاة منزلة عند سلطان تركي نظير نزله جلال الدين، وكان الناصر يحتمل ما ينقل إليه من سيرة ولده حتى كان يقول لوالي البلد: أكبس فلانًا ثم يرسل إليه يقول: لا تفعل، نبقى في حياء من والده ... فرحمه الله تعالى عليهم وغفرانه.

. وأشهر مؤلفاته تلخيص المفتاح، والإيضاح في المعاني والبيان2، وكانت وفاته عام 739هـ، كمايقول صاحب الدرر الكامنة.

وتدل مؤلفات الخطيب في البلاغة على ثقافة بلاغية وأدبية واسعة وقراءة مستفيضة لأهم المؤلفات في البلاغة وفي مقدمتها: "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز" لعبد القاهر، والمفتاح للسكاكي.

ألف الخطيب مختصرًا صغيرًا للمفتاح في البلاغة، أو للقسم الثالث بعبارة أوضوح، وسماه "تلخيص المفتاح1" لخص فيه ذلك السفر القيم وقدم فيه وأخر، وحذف واختصر، وفيه بعض آراء له لم يرتضها جهابذة هذه الفنون، "ومن العجيب أن يسمي كتابه بهذا الاسم، وهو في رأي أحد الباحثين ليس بالتلخيص له وحده، بل أشبه بأن يكون تلخيصًا لكتابي أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز لعبد القاهر ولسر الفصاحة لابن سنان الخفاجي.. وروح التلخيص من الكتاب الأخير واضح كل الوضوح في مقدمته"2 وقد يكون في هذا الرأي لون من المبالغة، فمتن التلخيص ليس تلخيصًا للأسرار ودلائل وسر الفصاحة في قليل ولا كثير، إنما هو تلخيص للقسم الثالث من المفتاح وحده، وما فيه من روح التأثر بعبد القاهر فمرجعه إلى المفتاح نفسه، الذي اعتمد فيه السكاكي على عبد القاهر إلى حد بعيد. وقد يستساغ ذلك في الإيضاح لا في "تلخيص المفتاح".

ثم ألف الخطيب كتابه الإيضاح في البلاغة على ترتيب التلخيص، وبسط القول فيه ليكون كالشرح له، فأوضح مواضعه المشكلة، وفصل معانيه المجملة، واعتمد على المفتاح والأسرار والدلائل وغير هذه المؤلفات في بحوثه ودراساته فيه، كما يشير إليه الخطيب نفسه في مقدمة الإيضاح. والكتاب "فيه أمهات مسائل هذه الفنون بعبارة واضحة فيها روح من أسلوب عبد القاهر الجامع بين التحقيق العلمي والرصانة الأدبية وعلى "تلخيص المفتاح للخطيب" كثير من الشروح والحواشي والتقارير ممايدل على مدى شهرته العلمية عند الباحثين. ولا يزال منهج الخطيب في البلاغة وفي تلخيصه بالذات هو المنهج العلمي في علوم البلاغة إلى عصرنا الراهن.

وكتاب الإيضاح عمل جليل في البلاغة سواء في ترتيبه وتقسيمه وتنظيم بحوثه، أم في استيعابه واستقصائه وتحليله، أم في جمعه واستمداده من شتى المصادر والمراجع، أم في أسلوبه الأدبي وروحه وكثرة تطبيقاته الأدبية، وهو أهم كتاب دراسي في البلاغة في العصر الحاضر.

وكتاب الإيضاح مقسم إلى: مقدمة وثلاثة فنون وخاتمة، فالمقدمة ليست من قبيل مقاصد علم البلاغة وتوابعها، بل هي تمهيد لذلك. والفنون الثلاثة هي من مقاصد البلاغة إلا أن موضوع كل فن منها يختلف عن موضوع الآخر، فموضوع الفن الأول -وهو علم المعاني- الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وموضوع الفن الثاني -علم البيان- الاحتراز عن التعقيد المعنوي، وموضوع الفن الثالث -البديع- ليس الاحتراز عن شيء أصلًا، بل مجرد تحسين اللفظ وتزيينه. والخاتمة تشمل السرقات والكلام علي حسن الابتداء والتخلص وحسن الخاتمة، فهي من الفن الثالث أو متصلة به بصلة كبيرة.

والمقدمة هنا لبيان معنى شيئين: الأول معنى الفصاحة والبلاغة، والثاني انحصار علم البلاغة في علمي المعاني والبيان، وكل ذلك مما يرتبط بالمقصود من الكتاب.. فالمقدمة هنا هي مقدمة كتاب.

وذكر معنى الفصاحة والبلاغة قبل الشروع في مسائل المعاني والبيان والبديع ضروري، لتوقف معرفة معانيها علي معرفة معنى البلاغة والفصاحة.

 

 

 

 

المصدر: كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات

التحميلات المرفقة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 272 مشاهدة
نشرت فى 4 فبراير 2021 بواسطة sabryfatma

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

327,725